السبت، 18 نوفمبر 2017

الاخوان المسلمون وسنوات الجمر الشاذلي بن جديد : 1ـ الصدفة والتاريخ…

لم يكن يحلم أن يكون رئيسا.. لم تكن تعنيه تلك الحياة السرية لمجانين الحكم مثل عبد الحفيظ بوصوف، الكولونيل هواري بومدين، أحمد بن بلة، عبد العزيز بوتفليقة، شريف بلقاسم، محمد الشريف مساعدية ومحمد بوضياف وغيرهم ممن تدربوا على النضال في دهاليز الحركة الوطنية وسراديب ما كان يسمى بالنظام إبان حرب التحرير ، حيث كان هذا المسمى “نظام” يعكس الصراعات المريرة حول سلطة الثورة… كان الشاذلي بن جديد مثال الجندي المنضبط الذي قذفت به حياته الشقية تحت ظل النظام الكولونيالي للالتحاق بالثورة وهو لا زال فتى طري العود، ولم يكن له من هدف إلا المساهمة في تحرير البلاد.. ومن هنا كان الرجل بدون طموحات شخصية، وإن وجد نفسه يتبوأ مكانة محترمة عندما كان ضابطا في المنطقة الشرقية.. وبداية الإستقلال لما اندلعت الحرب بين الولايات في سبيل السلطة وجد نفسه لأيام أسيرا بين أيدي جماعة بوبنيدر المدعو صوت العرب لأسابيع
.. لكن ما إن حسم الكولونيل هواري بومدين ميزان القوة لصالحه عندما قاد بانقلابه العسكري ضد أول رئيس جمهورية منتخب، أحمد بن بلة، حتى اختار الشاذلي بن جديد موقعه بجانب زميله العسكري الكولونيل بومدين ضد المدني أحمد بن بلة، الذي كان يريد تحقيق حلمه العزيز على قلبه، وهو أن يكون ناصر الجزائر أو ماووها! مع تعاظم نفوذ بومدين الرئيس أصبح الشاذلي بن جديد على رأس المنطقة العسكرية الثانية بوهران.. لم يكن أصيل منطقة الغرب مثل أحمد بن بلة، بل كان من منطقة الشرق المنحدر منها الرجل الصموت الذي لا يعرف أحد من مقربيه ما يدور في رأسه… وكان هواري بومدين الذي كان يتضايق من رفاقه الأقوياء والطامحين إلى منازعته الزعامة يشعر بميل شديد تجاه الشاذلي بن جديد الذي رقي إلى أعلى رتبة عسكرية آنذاك.. منصب عقيد وهي نفس الرتبة التي كان يحظى بها هواري بومدين..
كان الشاذلي طيلة السبعينيات غير مهتم بالسياسة وغير معني بالصراع على السلطة، وهذا ما جعل بومدين يمنحه ثقته باعتباره رجلا مواليا غير مثقف، بل كان همّه الأساسي توطيد أركان سلطة هواري بومدين.. كان العقيد الشاذلي يحب الحياة والتلذذ بمسراتها ونعمها.. كان يحب الناس والإستلقاء على شواطئ وهران.. وذلك ما جعل الوهرانيين ينظرون إليه كرجل هواوي وزهواني، خاصة وأن وهران كانت وفق نظرة أهل الوسط والشرق عاصمة الحياة الصاخبة والزهو… وكان بومدين عندما يضيق ذرعا بالنزاعات بين رفاقه المقربين منه مثل شريف بلقاسم، وبوتفليقة وأحمد قايد يهرب أحيانا لأيام إلى وهران حيث الشاذلي بن جديد، ولقد قال لي الشاذلي بن جديد عندما التقيته لأول مرة في 2001.. “أنه كان يقود سيارته وإلى جانبه هواري بومدين الذي كان يجيء إلى وهران ليغير مزاجه طلبا للراحة والإستجمام من أثقال الصراعات والمشاحنات بين المقربين منه…” يقول لي الشاذلي بن جديد “كنا نقضي وبومدين أوقاتا طويلة في التمتع بمنظر البحر وليالي وهران.. وكان يضحك من قلبه عندما نتعاطى حكايات مسلية.. وكان مثل هذا الإنزواء في وهران يعيد إلى بومدين مزاجه الطيب ومرحه الحي الذي يضيع منه في العاصمة..” وكان الإنطباع الراسخ الذي تشكل لدى هواري بومدين عن العقيد الشاذلي، أن الرجل طيب، بل وبالغ الطيبة، وأن ميله الشخصي كان ينحو باتجاه نوع من الإنفتاح والليبرالية، ولذا كانت مقهى ريش في وسط وهران التي كان يمتلكها العقيد الشاذلي بن جديد وبعض ممتلكاته التي كان يثار حولها الغمز واللمز من طرف المواطنين وكوادر الحزب لا تثير قلقا في نفس بومدين الذي قال يوما لرفاقه عليكم أن تختاروا بين الثورة والثروة.. فبومدين لم يكن يهمه أن يكون ثريا، ما كان يهمه هو السلطة والزعامة وليس المال ومن هنا أظهر تفهما بل وتشجيعا لكل من كان من رفاقه يحب العيش الرغيد والتمتع بسلطة المال مثل عبد الحفيظ بوصوف الأب الروحي والسياسي لهواري بومدين الذي نفض يديه من السلطة وانصرف نحو الأعمال، وعبد الله بن طوبال المدعو الشنوي ومسعود زڤار المدعو رشيد كازا ممن اختاروا الابتعاد عن نار السلطة ليبدأوا حياة جديدة بمساعدة السلطة في حياة الأعمال… لكن الشاذلي بن جديد وإن كان ميله الشخصي ينحو باتجاه الليبرالية إلا أنه ظل مواليا لبومدين حتى وإن لم يكن يتقاسم معه توجهاته الإيديولوجية حول تبني الإشتراكية والتحالف على المستوى التكتيكي مع اليسار الممثل في حزب الطليعة الإشتراكية الذي سعى هواري بومدين بعد أن أدخل قياداته وكوادره السجن إثر انقلابه على أحمد بن بلة إلى توظيفه ضمن استراتيجيته التي كانت تلاقي معارضة من طرف تيارات وشخصيات إسلامية مثل تيار جمعية القيم التي قام بومدين بحظر نشاطاتها في 1966 وزج بزعيمها الهاشمي التيجاني في السجن، والشيخ العرباوي والشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ مصباح حويدق الذين تعرضوا إلى مضايقات من قبل رجال أمن بومدين وأيضا الشيخ خير الدين الذي كان من الوجوه البارزة في جمعية العلماء وكان قد اعترض على سياسة بومدين تجاه الحريات ومسألة دخول الجزائر في نزاع مع المغرب عندما قرر بومدين مساندة البوليزاريو..
في ديسمبر 1978، تفاجأ الجزائريون بوفاة هواري بومدين التي كانت بمثابة الصدمة لرجل الشارع، لكن أيضا بالنسبة للمعارضة التي كانت تنشط سرا داخل البلاد… وتنشط في الخارج، مثل حزبي الثورة الإشتراكية الذي كان يتزعمه محمد بوضياف وجبهة القوى الإشتراكية التي كان يقودها حسين آيت أحمد الذي تمكن الهروب من السجن عام 1966، بتواطؤ مع جهات في السلطة…
كان اختفاء هواري بومدين وهو في أوج مجده وقوته واتساع رقعة شعبيته مربكا ومخيفا.. وقفز خلال أيام السؤال المحير إلى الواجهة “الجزائر إلى أين، بعد بومدين”.. لقد تمكن منذ استيلائه على الحكم من إضعاف كل خصومه سواء عن طريق القوة أو الإغراء، وتمت عدة إغتيالات لرموز ظلت تعلن معارضتها ولم تخف نيتها في النشاط من تغيير الحكم الذي وصفته بالمستبد والدكتاتوري، ومن بين هذه الوجوه التاريخية، الرجل القبائلي القوي كريم بلقاسم الذي اغتيل شنقا في أحد فنادق ألمانيا على يد عميل رئيس جهاز الإستخبارات آنذاك الرجل صاحب الأعصاب الفولاذية قاصدي مرباح رجل بومدين الوفي، والرجل التاريخي المحنك محمد خيضر الذي اغتيل في أحد شوارع مدريد.. كما تمكن بومدين من إجهاض عملية انقلاب كان يقودها رئيس أركان الجيش الذي استعمله بومدين ضد أحمد بن بلة الطاهر زبيري الذي غادر الجزائر فارا إلى سويسرا، كما نجا بومدين بأعجوبة من عملية اغتيال في العام 1968 ومنذ ذلك الحين قام بإبعاد كل منافسيه من دائرته الضيقة مثل قايد أحمد وشريف بلقاسم أحد مهندسي انقلاب 1965، بعد أن اضطر هذا الأخير إلى تقديم استقالته بعد إشاعات طالت حياته الخاصة على أساس أنه زير نساء ولاعب قمار معربد… وراح يكسب قاعدة شعبية بعد أن أطلق شرارة تأمين الأراضي الفلاحية وإعطاء الأرض للفلاحين، وتأميم المحروقات وتوظيف ورقة الدعم المادي والسياسي للتنظيمات المناهضة للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ووقوفه بشكل واضح وصارم إلى جانب قضية الشعب الفلسطيني، وتزعمه عملية استعمال النفط كسلاح ضد المعسكر الغربي.. تحول هواري بومدين الذي عانى العزلة عشية انقلابه ضد أحمد بن بلة إلى زعيم عالم ثالثي يشار إليه بالبنان وهذا ما أكسبه تعاطف أغلبية الشعب وهذا بالرغم من نزعته التسلطية وميله نحو الحكم الفردي.. ولقد كانت وفاته بمثابة الضربة القاضية لمعارضيه الذين ارتبكوا أمام تلك الجموع التي شيعته إلى مقبرة العالية وبكته بنفس الصدق والحرقة اللذين أظهرهما المصريون عشية الإختفاء المفاجئ لجمال عبد الناصر..
أعلن محمد بوضياف أمام تلك الصدمة عن حل حزبه “حزب الثورة الإشتراكية” كما شعر حسين آيت أحمد بالحرج أمام تلك الهبة التي أعلن الجزائريون من خلالها عن تشبثهم بذلك الخط الشعبوي الذي شكله بومدين طيلة سنواته الثلاثة عشر في سدة الحكم…
عشية وفاة هواري بومدين اندلعت الحرب داخل سرايا الحكم حول خلافة رجل الجزائر القوي، كان عبد العزيز بوتفليقة، الرجل المقرب من بومدين ووزير خارجيته يرى في نفسه، المرشح القوي لخلافته، ولقد ضاعف بوتفليقة وهو الرجل الدبلوماسي، صاحب العلاقات المتشعبة بحكم منصبه مع الدوائر الغربية والفرنسية بشكل خاص جهوده لكسب التأييد الخارجي، ولقد كانت رسائله إلى مثل هذه الدوائر الممثلة للقوى العظمى ذات النفوذ الدولي والإقليمي، أنه رجل الليبرالية والإنفتاح، والرجل غير المتشدد والمستعد لفتح صفحة جديدة مع الغرب، وهذا كان يسيل لعاب الفرنسيين الذين ظلوا يحملون عقدة تجاه بومدين الرجل العنيد الذي رفض زيارة فرنسا طيلة حكمه، والرجل الذي وضع مصالح فرنسا في المنطقة في خطر ماحق.. والرجل الذي أوى الشخصيات والتنظيمات التي كانت ضمن القوائم السوداء للإستخبارات الأمريكية والتي كانت تصفها “بالإرهابية”.. وفي مواجهة الرجل الليبرالي عبد العزيز بوتفليقة، كان محمد الصالح يحياوي، وهو عسكري سابق كان يشرف على مدرسة شرشال العسكرية، وأصبح رجل حزب جبهة التحرير، ولقد أظهر منذ بداية سباقه نحو خلافة بومدين عن نيته في مواصلة نفس مشوار هواري بومدين على ثلاثة أصعدة، الدفاع عن الإيديولوجية الإشتراكية، الدفاع عن الوطنية العروبية ومناوءته للغرب الرأسمالي، وهذا ما أكسبه تأييدا مسبقا من طرف حزب الطليعة الإشتراكية الذي ساند سياسة بومدين منذ تبني هذا الأخير النهج الإشتراكي، والثورة الزراعية وسياسة التصنيع كوسيلة من وسائل توسيع رقعة الطبقة الشغيلة.
لكن هذا الصراع بين رجلين مدنيين وإن كان محمد الصالح يحياوي عسكريا سابقا، أثار مخاوف لدى رجل كان يخفي بشكل قوي مطامحه الشخصية لأن بعد رحيل بومدين هو سيد اللعبة وصاحب الخيوط المتحكم في الرجال والعصب والمصائر.. ولم يكن هذا الشخص إلا الرجل الكتوم صاحب الملفات، الرجل القوي في الإستخبارات قاصدي مرباح.. فقاصدي مرباح كان يكره الأضواء، لكن أيضا يكره الإيديولوجيا والصراعات المعلنة حول السلطة، فهو رجل عاش في الظلام، وإدارة مؤسسات الدولة من خلف الستار، إنه يعرف عن الكل كل شيء ولا
يعرف الآخرون عن جهازه وعن شخصه ورجاله أي شيء.. إنه سليل عبد الحفيظ بوصوف، هذا الرجل الذكي والمرعب الذي تمكن لوقت طويل التحكم في إدارة لعبة الصراعات والتوازنات داخل الثورة، ألم يصفِ على يد رجاله شخصية سياسية عبقرية مثل عبان رمضان الذي كان ينادي بأولوية السياسي على العسكري، وبأولوية رجال الداخل على رجال الخارج؟! لقد وظف قاصدي مرباح كل رصيده لأن يحسم معركة الخلافة لصالح الجهاز السري العتيد، وذلك بدفع رجل لم يحلم يوما بالسلطة إلى الواجهة وعلى رأس بلد كان محطة كل المراقبين وكل القوى النافذة.. لقد اختلق قاصدي مرباح قضية السلاح الذي أنزل بقرية سيڤلي، لصرف النظر عن معركة خلافة بومدين، على أساس أن ثمة مؤامرة مدبرة من الخارج لضرب الثورة والوحدة الوطنية.. وكان ذلك كافيا لتطويق كل من طموحات عبد العزيز بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي وإقامة سد منيع من أن يخرج الصراع على الحكم إلى الشارع، وكانت هذه الخطة بمثابة تأكيد لسلطة العسكري على المدني السياسي وعلى أساسها تم اجتماع سري في مدرسة الانيتا ببرج البحري التي كانت تحت إشراف العسكري العربي بلخير الذي كان مقربا من الشاذلي بن جديد، وكانت نتيجة الإجتماع، اقتراح رجل محايد غير متورط في الصراع على السلطة، إلى جانب كبر سنه بالمقارنة مع المتنافسين الآخرين.. وكانت هذه الأوصاف تنطبق على قائد الناحية العسكرية الثانية الشاذلي بن جديد، المعروف بولائه لهواري بومدين..
في بداية الأمر تجنب الشاذلي بن جديد قبول هذه المغامرة، لكن الضغط الذي مارسه قاصدي مرباح بمعية الأوليغارشية العسكرية جعله يرضخ في نهاية المطاف.. وتم تقديمه في مؤتمر الأفالان آنذاك على أساس أنه المرشح الوحيد إلى خلافة بومدين.. وتحت غطاء ترشيحه من طرف حزب جبهة التحرير (الأفالان) تمكن قاصدي مرباح من ترشيح الشاذلي بن جديد إلى منصب خلافة هواري بومدين كمرشح الجيش الحقيقي والوحيد.. وهذا ما جعل المتنافسين الآخرين يخسران معركتهما المصيرية، فالعصب التي كانت إلى جانب عبد العزيز بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي، كانت تفتقد إلى القوة التي كانت تحظى بها المؤسسة العسكرية، ووسائل التأثير التي كانت بحوزتها بهيمنتها على باقي المؤسسات والتنظيمات التي كانت تسمى بالمنظمات الجماهيرية مثل اتحادات العمال والنساء والفلاحين والشباب… وحتى ما كان يسمى بمجلس الثورة كان قد أفرغ من قوته في فترة بومدين بعد أن غادره الكثير من رفاق بومدين خلال فترات مختلفة، فلم يعد إلا تسمية بدون قوة أو تأثير.. ومنذ اللحظات الأولى التي اعتلى فيها الشاذلي بن جديد عرش الرئاسة في قصر المرادية حتى بدا الرجل ضعيفا ويفتقد إلى الكارزماتية التي كان يتحلى بها هواري بومدين.. وكان ذلك هدف قاصدي مرباح الذي كان يحلم أن يكون ويستمر الرجل القوي الذي يسير الجزائر من وراء الستار… لكن هل نجحت خطة قاصدي مرباح أم أن السحر انقلب على الساحر في لحظة غير منتظرة؟!
غدا تطالعون الحلقة الثانية من معركة التخلص من إرث بومدين
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/45540——1—.html
==========
سنوات الشاذلي بن جديد 2 :ـ معركة التخلص من إرث بومدين..
الثلاثاء, 09 أكتوبر 2012 21:07
شعر قاصدي مرباح بالراحة عندما أزاح من على طريقه منافسين عنيدين وخطيرين مثل عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يعتقد أن بومدين قد ترك رسالة لدى الدكتور أمير المقرب من بومدين عشية أحد أسفاره إلى الإتحاد السوفياتي، أنه إذا ما تعرض لحادث ما، فوصيته أن يكون بوتفليقة خليفته، لكن حدث ذلك قبل أن يوضع الدستور.. ومحمد الصالح يحياوي الذي كان يعتقد أنه الوريث الشرعي لبومدين باعتباره الرجل القوي في الحزب وصاحب النظرة حول خصوصية الإشتراكية الجزائرية.. لكن قاصدي مرباح الذي كان يظن أن المهمة الصعبة هي طريق الإنجاز سرعان ما اكتشف أنه كان على خطأ في التقدير، فالعقيد الشاذلي بن جديد الذي لم يكن مسيسا بما فيه الكفاية، وصاحب المستوى الثقافي المتواضع، والمتهم من قبل خصومه بالعربدة سرعان ما كشف عن موهبة سريعة في التعلم في مدرسة الحكم…
فلقد سارع الشاذلي إلى لعب دور الرئيس، الطيب، المحب للحياة والخير والدين والساذج إلى حد ما المحاصر بالأشرار والمتشددين الذين لا يريدون للجزائر الخروج من قوقعتها، وبالرغم أن مثل هذا التوجه نحو الانفتاح سرعان ما لاقى في البداية اعتراضا ورفضا شديدين من داخل أجهزة الحكم، إلا أن الشاذلي بن جديد أدرك كيف يعمل تفكيك الآلة البومدينية بصبر وتؤدة شديدين.. لقد رفع الشاذلي بن جديد شعارات كبرى مضللة وتمكن من خلالها التغلب على خصومه عن طريق المكر والخديعة والحيلة.. وكان أول هذه الشعارات محاربة الفساد والرشوة، وتحولت هيئتها فعلا إلى أداة ناجعة في شن حملة أو معركة حقيقية ضد إرث البومدينية التي كان البعض يريدون تحويلها إلى عقيدة جديدة مثل الكاستروية في كوبا وكان إلى جانب محمد الصالح يحياوي، السيد صناعة ثقيلة بلعيد عبد السلام وهو من رجال بومدين الأقوياء يطمح لأن يكون وريثه الشرعي.. ويذكر بلعيد عبد السلام في مذكراته أن بومدين في العام 1978 كان يدرك بأنه مستهدف، لذا قال له، “أنه لن يترك من بعده، سادات آخر..” وكان يقصد أنه يحدث له ما حدث لجمال عبد الناصر الذي خلفه محمد أنور السادات وقام هذا الأخير بتصفية إرثه السياسي وقام بتحويل اتجاه السفينة إلى وجهة معاكسة… طالت حملة تصفية البومدينية الرجال المقربين من بومدين، لكن أيضا من كانوا قاب قوسين من خلافته، مثل عبد العزيز بوتفليقة الذي وجد نفسه أمام مجلس المحاسبة بتهمة الفساد، ووجد نفسه إلى جانب محمد الصالح يحياوي وعبد السلام بلعيد يغادرون الحكم من الباب الضيق.. ولقد تعرضوا إلى حملة تشويه كبيرة مما جعل رجلا مثل بوتفليقة يختار المنفى لائذا بصمت لسنوات مثل صمت القبور.. وبالرغم أن قاصدي مرباح تقلد حقائب وزارية في حقبة الشاذلي بن جديد إلا أنه وجد نفسه يفقد كل تلك السطوة والقوة اللتين كان يحتفظ بهما ليكتشف أنه أصبح خارج لعبة الكبار.. لقد عمل الشاذلي بن جديد على التخلص من العسكريين الذين كان نفوذهم في بداية تعاظمه وراح يدفع بوجوه جديدة لتتصدر الواجهة مثل رشيد بن يلس، وليامين زروال، وخالد نزار والعربي بلخير الذي سيصبح لوقت طويل ذراعه الأيمن وأمين أسراره وخلال هذه الفترة بدأت تتشكل تحت حكم الشاذلي بن جديد أوليغارشية عسكرية جديدة على الطريقة الجزائرية، لتصبح في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات النواة الصلبة للنظام أسماها البعض “بأصحاب القرار الفعلي” لم يكن حزب جبهة التحرير الوطني في ظل حكم هواري بومدين إلا جهازا يوظف لإضفاء الشرعية أو منح التبرير، وكان بومدين يشعر تجاه قيادته بنوع من الاستخفاف، ربما يعود ذلك إلى خلافاته فيما بعد مع رفيقه قايد أحمد وشريف بلقاسم اللذين كانا على رأس جهاز حزب جبهة التحرير، وربما كان هواري بومدين يفكر في حزب جبهة التحرير كحزب طلائعي لكن بعد أن دعم أركان قوته وسلطته وذلك لما يتخلص من كل من كان يرى فيهم معرقلين لمسيرة “الثورة” وبمعنى آخر ممن هم قادرون على مواجهته ومعارضته.. ولقد كان بومدين يفكر جديا في العام 1978 في القيام بعملية تطهير في صفوف كوادر الحزب والدولة، وهذا ما يكون قد قذف ببعض الرعب في قلوب المتعاونين معه وجعل موته المفاجئ لازال يكتسي غموضا ولغزا شديدين… لكن هذا الجهاز الذي كان ينوي هواري بومدين إعادة تشكيله من جديد سرعان ما أصبح بين يدي الشاذلي بن جديد وسيلة من وسائل التخلص من التركة البومدينية.. فلقد أصبح الأفلان كحزب وجهاز يحظى بعناية الشاذلي بن جديد وسعى إلى تثبيت أقدامه على الصعيد الإيديولوجي والسياسي، وتحول محمد الشريف مساعدية الذي لم يكن يرتح إليه هواري بومدين منذ فترة حرب التحرير إلى رجل الشاذلي بن جديد القوي داخل قيادة حزب جبهة التحرير، وقد اهتدى محمد الشريف مساعدية إلى الحد من التركة البومدينية عندما اختلق المادة 120 التي كانت تحرم على كل من ليس داخل جبهة التحرير اعتلاء أي منصب داخل مؤسسات الدولة، وكانت الضربة الموجهة في هذا المجال إلى الشيوعيين من حزب الطليعة الإشتراكية الذين دخلوا في حلف مع هواري بومدين وفتح لهم بالتالي الأبواب إلى تبوأ عدة أماكن حساسة في الإعلام والإدارة والمنظمات الجماهيرية، مثل الإتحاد العام للعمال الجزائريين والإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، لكن لم يتوقف دور الحزب على هذا المستوى بل تعاظم نفوذه وتأثيره بحيث تغلغل إلى المؤسسات الأخرى ذات الحساسية مثل مؤسسة الجيش التي كان الشاذلي يسعى إلى وضعها تحت لواء إيديولوجية وطنية يشرف عليها الحزب الحاكم، وبالمقابل إلى إعادة إحياء حزب جبهة التحرير الوطني فلقد اعتمد الشاذلي حكومة تقنوقراطية ذات توجهات ليبرالية اشتغلت في عهدي رئيسيها وهما أحمد عبد الغني، ثم عبد الحميد الإبراهيمي على التفكيك البنيوي للبومدينية، وحدث ذلك تحت شعار إعادة الهيكلة، فتم التخلي عن المرحلة الثالثة من الثورة الزراعية لتعلن كمشروع وصل إلى حدوده القصوى، وكذلك التخلي عن سياسة التصنيع والإستثمار في مجال الصناعة وتشجيع السير باتجاه استقلالية المؤسسات ووضع ما سمي بسياسة الإصلاحات على الطريق وذلك بخلق خلايا تشتغل في الظل والسر داخل الوزارات لكن أيضا داخل مؤسسة الرئاسة، وامتدت هذه الرغبة في إعادة النظر الهيكلي إلى غاية المؤسسة العسكرية من خلال طرح مسألة إعادة تحديثه… لكن ما الذي حدث حتى يكون هذا الرجل المحسوب على هواري بومدين هو من ينقلب على بومدين ويقوم بالتخلص من تركته؟!
اكتشف الشاذلي بعد وقت قصير على وجوده على رأس الدولة، أنه لو لن يسعى إلى ابتكار أسلوب جديد يتميز به عن هواري بومدين، ستكون نهايته قريبة، وذلك ما كان مخطط له من طرف قاصدي مرباح الذي كان يفكر في أن يجعل من الشاذلي مجرد لحظة عابرة في زمن محدد ليعتلي هو عرش الرئاسة، وكان الشاذلي بن جديد يدرك أنه لا يستطيع مضاهاة أو محاكاة هواري بومدين على المستوى الكارزماتي.. لذا اختار الشاذلي طريقا آخر مختلفا كل الإختلاف عن سابقه، وهو الطريق الواقعي البعيد عن الأحلام الكبرى وعن المشاريع الكبرى التي كلفت الخزينة الجزائرية أموالا باهظة.. فبدل الإستثمار اختار الإستهلاك، وكان سعيدا وهو يرى الجزائريين الذين كانوا يقفون الساعات الطوال أمام أسواق الفلاح لاقتناء الزيت والسميد والسكر وحاجاتهم الأساسية يتهافتون على الموز والتفاح والكيوي والفورماج الأحمر التي لم يكونوا يروها إلا في الأفلام أو الأحلام.. كما فتح الشاذلي الباب أمام الشباب الذين يريدون السفر إلى أوروبا، وفرنسا على الخصوص، وكذلك سمح الشاذلي بن جديد باستيراد سيارات من الخارج وإلى جانب هذا كله فلقد تم تنازل الدولة عن السكنات والفيلات بالدينار الرمزي أو بأسعار مقبولة، وهذا ما جعل الشاذلي بن جديد يشعر فعلا أنه فتح الأبواب التي كانت موصدة أمام الجزائريين في عهد هواري بومدين ليستمتعوا بالحياة والعصر… وبدا في نظر الصحافة الأجنبية رجل الإصلاحات الحقيقي الذي طالما انتظرته الجزائر، والعالم الغربي أيضا.. وما أن اقتربت عهدته الأولى من نهايتها حتى كشف الشاذلي بن جديد عن نيته في التخلص من ميثاق بومدين وذلك تحت ذريعة الإثراء..

وعرف الحكم حينها نزاعا مريرا بين جناحين، جناح المحافظين الممثل في حزب جبهة التحرير بقيادة محمد الشريف مساعدية، وجناح كان يطلق على أصحابه صفة الليبراليين والإصلاحيين وكان يمثلهم عبد الحميد الإبراهيمي الوزير الأول في حكومة الشاذلي بن جديد.. ولم يكن الشاذلي وهو يمضي قدما نحو التخلص من شبح البومدينية بأي عقدة ذنب أو حقد تجاه بومدين، فهو كان يعتقد أنه لو كان هواري بومدين على قيد الحياة، لكان أجرى تعديلات وتغييرات على النظام الذي أصبح يعرف تحديات جديدة ضمن هذه البيئة الداخلية لكن الدولية الجديدة.. لقد دخلت الحرب الباردة مرحلة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي آنذاك وذلك بدخول هذا الأخير أفغانستان وتورطه في حرب كانت آثارها وخيمة عليه، وسقط نظام الشاه في إيران على يد أول ثورة إسلامية من نوعها، ودخل العراق في حرب ضد إيران، حرب شرسة ومرعبة أضرت بالمنطقة نفسها وغزو إسرائيل لبنان في صيف 1982، وكانت آثاره مرعبة على القضية الفلسطينية وإنهاء المقاومة بلبنان، بحيث أخرجت القيادات الفلسطينية لتعيش منفى آخر في ظروف عربية خانقة وعصيبة، وإلى جانب كل هذا، بدايات الأزمة الإقتصادية العالمية وانهيار برميل البترول الذي جعل من جزائر الشاذلي تدخل دون مقدمات في منتصف الثمانينيات بداية نفق حالك يصعب الوصول إلى نهايته دون دفع أي ثمن.. بدت أزمة الطبقة الوسطى صارخة من خلال انعدام مناصب العمل والحياة اللائقة، وبدا المجتمع عاريا، محاصرا، دون تلك الأحلام التي أثملته منذ سنوات حتى الأعماق.. تحولت الأحلام إلى كوابيس أو كادت تتحول إلى كوابيس حقيقية، ومن هنا كان نصاح الشاذلي بن جديد لأن يتخلص من البومدينية هو الطريق الأفيد والناجح نحو الرفاهية، وكان الدكتور طالب الإبراهيمي وهو ممن توطدت أرجلهم داخل الحكم بفضل هواري بومدين ممن كان له التأثير على توجهات الشاذلي بن جديد الذي كان يرهف له السمع ويأخذ بنصائحه… ولم يكن الشاذلي بن جديد يشك في أحمد طالب الإبراهيمي لأن هذا الرجل عرف بومدين عن كثب، لكنه كان مقتنعا وبومدين على سرير المرض، أن الرجل برغم اجتهاداته وشجاعته فلقد أخطأ كثيرا… وإلى جانب الدكتور أحمد الإبراهيمي الذي دفع بالشاذلي بن جديد إلى نفض يديه من التركة البومدينية، بزغ نجم العربي بلخير الذي سبق له أن اشتغل إلى جانب الشاذلي في وقت سابق، ولعب هذا الرجل دور الرجل الوفي عندما مر الشاذلي بلحظات عصيبة يوم كان على رأس الناحية العسكرية الثانية ليتطور هذا الوفاء عندما تم اتخاذ القرار لحسم الصراع على خلافة هواري بومدين داخل معقل العربي بلخير أي المدرسة العسكرية التي كان يشرف عليها، وعندما أصبح الشاذلي بن جديد على رأس الدولة الجزائرية انتقل معه العربي بلخير إلى الرئاسة بحيث أصبح الرجل القوي صاحب النفوذ والتأثير المتعاظمين على مجرى أهم القرارات التي كان يتخذها الشاذلي بن جديد خاصة وأن الشاذلي بن جديد كان معروفا عليه أنه لا يريد أن ينكب كل الوقت على الملفات الحساسة، لذا وضع كل ثقته في رجل مثل العربي بلخير الذي كان يوصف بالكاردينال، وذلك بسبب الموقع المتنامي والمتعاظم الذي أخذه في وقت الشاذلي بن جديد ليس فقط داخل الرئاسة لكن أيضا داخل الدوائر المتنامية الجديدة للضباط الذين رعاهم بعنايته وأصبحوا من خلال وفائهم له محل عناية من الشاذلي بن جديد، وقد استفادوا من ترقيات لم يكونوا يحلمون بها، مثل الجنرال خالد نزار، ومحمد العماري، واسماعيل العماري، أي هذا الجيل الذي تحول فيما بعد إلى دائرة ضيقة ونواة صلبة تحكمت في مقاليد السلطة الفعلية، ولم يتم التخلص من إرث البومدينية فقط على المستوى الداخلي بل امتد ذلك على صعيد صناعة جزء من السياسة الخارجية التي كانت واضحة المعالم والتوجهات في حقبة هواري بومدين.. ففي حقبة الشاذلي حدث تقارب بيّن بين جزائر الشاذلي بن جديد وفرنسا فرانسوا ميتران، حيث أصبحت علاقة صداقة تربط بين الرجلين وهذا بالرغم ما أثير حول مدرسة ديكارت الفرنسية وملف مزدوجي الجنسية واغتيال علي مسيلي على الأراضي الفرنسية والذي وجهت فيه أصابع الإتهام إلى الإستخبارات الجزائرية من سجال، لكن أيضا حدث تقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية والجزائر وهذا لم يكن خلال فترة هواري بومدين إضافة إلى الإنفتاح الكبير الذي قام به الشاذلي بن جديد على دول الخليج مثل العربية السعودية والكويت التي توسطت لدى الشاذلي بن جديد لإطلاق سراح زعيم الإخوان المسلمين الجزائريين محفوظ نحناح الذي حكم عليه بـ 15 سنة سجنا في فترة هواري بومدين.. إن تفكيك البومدينية الذي بدأ بخطوات حذرة وخجولة سرعان ما تحول إلى محاكمة لكل فترة هواري بومدين، بحيث حمّلها الشاذلي بن جديد مسؤولية المديونية التي أصبحت تعاني منها الجزائر، لكن ذلك لم يكن دقيقا حسب أكثر المحللين والمراقبين فهواري بومدين لما رحل، كانت مديونية الجزائر لا تتجاوز 16 مليار دولار، لتصل في فترة الشاذلي بن جديد وفي ظرف وجيز إلى أكثر من 25 مليار دولار، ثم أن المديونية التي كانت في فترة هواري بومدين كانت متوجهة نحو الإستثمارات، وليس نحو الاستهلاك مثلما حدث في عهد الشاذلي بن جديد.. ورافق تفكيك البومدينية خلال عشرية الثمانينيات عملية تدمير الطبقة الوسطى وفتح الباب أمام التصاعد المتسارع للفئات الطفيلية المستفيدة من السوق الموازية والبيروقراطية سواء كانت تلك البيروقراطية مدنية أو عسكرية.. ومن هنا تمكنت هذه الفئات الطفيلية أن تشكل بورجوازية هجينة دون قيم حقيقية أو خلاقة، هي أميل إلى النهب ومن الإستفادة غير الشرعية من خلال ممارسة السلطة بشكل تعسفي والإستفادة من الريع، أي شكل كان، لهذا الريع، ولذا لاحظنا كيف تحول الفساد إلى ثقافة والرشوة إلى سلوك ليس فقط لدى هذه الفئات الطفيلية المحظوة بل امتد إلى أعماق المجتمع.. ومن هنا ترتب عن التفكيك السريع للبومدينية انهيار سلم القيم، وانحطاط معنويات الجزائريين الذين أصبحوا مرتابين ومتشكيكن في ماضيهم وماضي ثورتهم وماضي نظامهم الذي كان يعدهم بمستقبل أفضل، وبحياة أفضل وبغد أكثر إشراقا.. لقد تحول المجاهدون في نظر الشبان شبه البائسين والمعدمين إلى رمز للفساد والشر، وأصحبوا ينظرون إلى الثورة على أساس أنها أكذوبة كبرى وإلا ما كانت أنتجت مثل هؤلاء المسؤولين الذين لا يفكرون إلا في جيوبهم ومصالحهم ومصالح أبنائهم.. ولقد خرج تلامذة الثانويات في 1983 ينادون برمي التاريخ في المزبلة، رافضين دراسته وجدولته في امتحانات البكالوريا.. إن الأمل، أو مشروع الأمل في أن تكون الجزائر خلال سنوات أكبر البلدان رقيا وتقدما على مستوى العالم الثالث سرعان

ما انهار وتهافت مع التفكيك العنيف الذي باشره الشاذلي لإرث البومدينية ومحاولة الانتقال دون مقدمات إلى مرحلة أخرى، مرحلة ليبرالية لكن بدون ليبراليين، وإلى الديمقراطية بدون ديمقراطيين…
هل يعني هذا أن ما قام به هواري بومدين كان الأفضل؟! بالطبع ليس ذلك مؤكدا، فحقبة الشاذلي بن جديد، كانت الثمرة المنتظرة لما سار عليه بومدين من قبل، وبالرغم أن هواري بومدين تفطن عندما فات الآوان أن الفساد بدأ يعشش في أحضان النظام الذي خلقه، وكان يفكر في إحداث نقلة من خلال عملية تطهير سلسة وجذرية، لكن مع من ولمن؟! لقد وقف هواري بومدين في آخر خطاباته أمام كوادر الدولة والحزب ليدين هذا الانحراف في الأخلاق وانتشار رقعة الفساد، ولقد بكى يومها بعد خطابه الأخير، إلا أن ذلك كان يعبر عن حالة عجز أكثر منها من حالة أخرى… وما ظهور وتطور الشاذلية كما نرى في السطور الآتية إلا نتيجة منطقية لنظام اختار منذ البداية التركيز على القوة والإحتكار، وعدم تشريك قوى المجتمع الحية والخلاقة في بناء النظام والعملية السياسية.
تطالعون غدا في الحلقة الثالثة ـ في مواجهة ربيع الأمازيغ..
احميدة عياشي

http://www.djazairnews.info/bloknote/45625—–2——-.html
============

سنوات الشاذلي بن جديد : 3 ـ ربيع الأمازيغ أو حرب الهوية
الأربعاء, 10 أكتوبر 2012 20:57
ولد مولود معمري في قرية تاوريرت ميمون عام 1917، نفس القرية التي رأى فيها المفكر والفيلسوف محمد أركون النور، يقول أركون في إحدى شهاداته “كان الكاتب المعروف مولود معمري قد صوّر بشكل رائع قرية تاوريرت ميمون في روايته الجميلة (الهضبة المنسية) وهي قريته كما قريتي، كانت هذه الرواية تعتبر حدثا بكل ما للكلمة من معنى، كانت أولا حدثا أدبيا نظرا لجمالها الفني ولكن أكثر من ذلك، كانت أهميتها تعود إلى مضمونها. نقول ذلك بخاصة أن مناضلي حركة التحرير الوطني استغلوها لصالح قراءة معينة هي القراءة الإيديولوجية التي تغذي نضالهم السياسي الهادف إلى التحرر من الاستعمار. لا ريب أنها كانت تحتوي على هذا المعنى، لكنها كانت تحتوي على معنى آخر أيضا، معنى يخص التحرير الداخلي الممنوع”.
هذا التحرير الداخلي الممنوع، هو الذي سيقذف بكاتب وباحث هادئ في مجال الأنثروبولوجيا ومجال الإبداع الأمازيغي يصبح مصدرا لفتيل انتفاضة الهوية الأمازيغية في أفريل 80، بعد أن منع من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو والتي سميت اليوم ويا للمفارقة باسمه، تتعلق بكتابه عن الأشعار القبائلية الذي لم يكن مر وقت طويل على صدوره بباريس… يقول الباحث والجامعي المناضل في سبيل القضية الأمازيغية أنه ذات 10 مارس من العام 1980، كان رفقة الروائي مولود معمري على متن سيارة هذا الأخير بيجو 204، وسائق الكراب (CRAPE) أولعيد، وما أن وصلوا ذراع بن خدة، كيلومترات قبل تيزي وزو، حتى تم إيقافهم من قبل الشرطة التي قادتهم مباشرة إلى مقر ولاية تيزي وزو، ويضيف سالم شاكر في شهادته بأنه بقي رفقة السائق أولعيد على متن السيارة، بينما كان الوالي في استقبال الروائي مولود معمري بحيث أفهمه أنه لابد أن يلغي محاضرته التي كان من المفروض أن يلقيها أمام طلبة جامعة تيزي وزو، ولم يكن والي ولاية تيزي وزو آنذاك، سوى أصيل منطقة حميد سيدي السعيد، والذي يقول بدوره إنه لم يكن موجودا بمقر الولاية لأنه كان في لقاء مع مسؤول الحزب الأول آنذاك محمد الصالح يحياوي بالعاصمة وكان من التقى مولود معمري، هو رئيس الديوان.. عندما خرج مولود معمري من اللقاء تم الاتفاق على أن يتجه رفقة سالم شاكر إلى الجامعة ليكون الطلبة على بيّنة من الأمر وفي شهادته يقول والي الولاية تيزي وزو آنذاك حميد سيدي السعيد، أن أحد مسؤولي الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وهو من الطلبة هو من اتصل بالسلطات المحلية وأخبرهم أن نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية سوف يتظاهرون مباشرة بعد انتهاء مولود معمري من محاضرته حول الشعر القبائلي القديم، وعلى هذا الأساس تم اتخاذ قرار منع مولود معمري من إلقاء محاضرته والذي عاد بعد أن كان الطلبة على علم إلى العاصمة دون حادثة تذكر.. لكن في الغد سرى خبر المنع مثل النار في الهشيم، لتنطلق حركة الربيع الأمازيغي عبر المظاهرات والإضرابات التي اتسعت رقعتها من تيزي وزو إلى بجاية إلى الجزائر العاصمة وهذا بالرغم من حملات الاعتقال التي مست عشرات الطلبة وتلاميذ الثانويات والنشطاء النقابيين والمناضلين الحزبيين.. لم يكن مر على الشاذلي بن جديد في الحكم أكثر من سنة ونصف وكانت أحداث تيزي وزو، الامتحان الأول والأكبر لبداية عهدته.. أعطيت الأوامر للهجوم على الحي الجامعي حسناوة، وعلى الحي الجامعي تيزي وزو، امدوحة وذلك من قبل القوات الخاصة لمكافحة الشغب، ولقد لعب الشاذلي آنذاك ورقة خطيرة وهي جلب قوات الأمن من الشرق والغرب الجزائري وهذا ما أجج روح العنف والانتقام والكراهية، مما روج بعد ذلك أن القبائل قاموا بحرق الراية الوطنية وإخراج رايتهم الصفراء الداعية إلى الانفصال وحرق المصاحف وقد راجت هذه الإشاعة المنظمة من طرف مصالح الشاذلي بن جديد في كل البلاد.. بحيث تم تصوير الطلبة المنتفضين والمطالبين بحق الأمازيغية كثقافة لكن أيضا كحريات للتواجد ضمن المشهد الثقافي والهوياتي الوطني كعملاء ومدعومين من الخارج.. وأساسا نم قبل فرنسا التي لا زالت تحنّ إلى الجزائر كملحقة استعمارية.
وبتاريخ 20 مارس 1980، تنشر جريدة المجاهد، لسان حال السلطة مقالا ناريا من إمضاء رئيس تحريرها المقرب من الدائرة الأولى للشاذلي بن جديد، كمال بلقاسم، تحت عنوان “من يعطون الدروس” ويقصد به الكاتب مولود معمري الذي تحول بقلم كمال بلقاسم من ضحية الى جلاد، حيث يقول “في الوقت الذي تقوم القيادة السياسية بالإصغاء إلى الجماهير من حيث التكفل بمشاكلهم وذلك من أجل حلها بشكل شامل وعادل، فإن شعبنا ليس في حاجة إلى أولئك الذين يريدون إعطاءنا دروسا خاصة إذا ما كان هؤلاء لم يمنحوا ولاشيء لا لشعبهم ولا للثورة في الوقت الذي كان منتظر منهم القيام بذلك كدليل على استعدادهم للتضحية وحبهم للوطن.. إن اللغة العربية هي اللغة الوطنية ولقد حان الوقت لأن تسترد مكانتها في جميع القطاعات.. وعلينا أن ندرك أن كل من يريد فرض أي شيء ضد إرادة الشعب، يكون مصيره الفشل”.. شعر الكاتب مولود معمري بالاعتداء على ضميره وشرفه ونزاهته الفكرية والسياسية، وحاول أن يرد لكن الجريدة الحكومية رفضت حق الرد، وهذا ما اضطر الكاتب مولود معمري أن ينشر رده على أعمدة صحيفة باريسية لوماتان وذلك بتاريخ 11 أفريل 1980 ويشير معمري في مقاله إلى أن مسؤول الجريدة كمال بلقاسم تناسى أن يقدم لقرائها الاحتجاجات التي قام بها الطلبة في جامعة تيزي وزو إثر منع السلطات الكاتب من تقديم محاضرته، كما نفى الكاتب أن يكون من كتاب جريدة ليكودالجي الكولونيالية، مضيفا أن الشعر القبائلي هو جزء من هذه الثقافة التعددية التي تحدث عنها رئيس التحرير على مستوى الخطاب، لكن كشف العكس على مستوى الممارسة.
لقد كان الربيع الأمازيغي بمثابة التحدي الكبير لسلطة الشاذلي بن جديد والذي برغم المناورات من أجل احتواء الاحتجاج الأمازيغي كشفت عن وجه متسلط، ديكتاتوري وعنفي، لقد استعمل التعذيب ضد الطلبة في محافظات الشرطة وفي ثكنات الاستخبارات العسكرية.
كما وُظفت صحافة الحكومة والحزب الواحد بشكل سيء لتوجيه تهم باطلة لهؤلاء الناشطين الذين طرحوا مسألة الثقافة الأمازيغية والتعددية الثقافية والسياسية ومسألة الحريات وحقوق الإنسان.. لقد تعثرت ليبرالية الشاذلي في أول جولة لها أمام التحدي الأمازيغي، وقدم عدد من الناشطين وعددهم 24 إلى محكمة المدية وهي محكمة أمن الدولة وبالرغم من تراجع حكومة الشاذلي بن جديد، وإطلاق سراح المعتقلين بعد امتداد واستمرار الاحتجاجات الشعبية بمنطقة القبائل، لكن أيضا ارتفاع الأصوات بالخارج المطالبة عبر الصحف الكبرى مثل لوموند، وليبراسيون بإطلاق سراح المعتقلين إلا أن حكم الشاذلي لم يكشف عن نيته في إحداث قطيعة مع الممارسات السابقة تجاه منطقة القبائل، وهذا خلال فترة أحمد بن بلة الذي أطلق صيحته الشهيرة بأننا عرب عرب، عرب والقمع الذي سلط على منطقة القبائل منذ أن رفع حزب آيت أحمد السلاح، وهذا ما جعل الكولونيل هواري بومدين يبقى لوقت طويل مرتابا من منطقة القبائل إلى أن زارها عام 1967.
إن الورقة الأساسية التي وظفها الشاذلي بن جديد لوأد الربيع الأمازيغي هي ورقة التعريب أو ما كان يسمى في ذلك الحين بجماعة صوت التعريب؟؟.
نحن في سبتمبر 1979 تمكن مجموعة من الطلبة وهم خليط من الأفافاس والمجموعة الشيوعية الثورية كانت تشكل أحد روافد الحركة الثقافية البربرية بالحي الجامعي ببن عكنون بالعاصمة أعلنوا إضرابا وتمردا على إدارة مطعم الحي الجامعي ببن عكنون واستولوا على إدارة المطعم وهذا ما جعل هذه الحركة تتوافق مع النوى المستقلة داخل المراكز والأحياء الجامعية، ومن بين هذه الوجوه الناشطة يمكن ذكر مصطفى باشا وصالح بوكريف وقاضي احسان، لكن سرعان ما سعت وزارة الداخلية التي كان على رأسها بوعلام بن حمودة والرجل الفولاذي والقوي على رأس جهاز الشرطة الهادي لخذيري وذلك بالتعاون مع وزير التعليم والبحث العلمي آنذاك عبد الحق برارحي إلى استعمال صوت مضاد تمثل في مجموعة صوت التعريب التي كانت لديها ميولات قريبة من حزب البعث العراقي ومن القذافي ومن القوميين الناصريين العرب، وعلى الصعيد الإيديولوجي والثقافي كان النواة الصلبة لهذا التيار محافظة وأقرب إلى اليمين.. واشتغلت هذه المجموعة مباشرة بالتعاون مع وزير الداخلية آنذاك بوعلام بن حمودة وعبد القادر حجار، الذي كان مسؤولا عن مكتب التعريب بوزارة الداخلية ومع الكوادر القيادية في حزب جبهة التحرير الوطني وتمثلت خطتها الأساسية كرد على مجموعة ابن عكنون وتيارها الثقافي الأمازيغي بإضراب شامل وغير محدود في الجامعة وذلك من أجل التطبيق الفوري للعربية في الإدارة.. وبالفعل راحت رقعة الأحزاب تتسع برعاية الداخلية في كل المعاهد الجامعية بالعاصمة، بحيث توقف الطلبة في معهد بن عكنون ومعهد العلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية ومعهد الفلسفة وعلم النفس لتنتقل شرارة الإضراب إلى جامعة السانية بوهران وإلى قسنطينة ولقد تشكلت هيئة وطنية تنسيقية للإضراب ومن بين الوجوه التي كانت على رأس هذه الحركة، يمكن ذكر محمد خيراني والصادق بخوش ومختار مزراق ومنصور بلرنب وعبد الرزاق صاغور وخليفة بوراس وباديس قدادرة ونور الدين نموشي، وكان لهذه النواة إيديولوجيتها من بينهم عبد الله شريط وعثمان سعدي وأحمد نعمان ولقد أطلقت سلطة الشاذلي بن جديد يد ما كان يطلق عليهم بالبعثيين في المراكز والأحياء الجامعية، بحيث شكلوا كتائب مسلحة بالسلاح الأبيض خاصة في الحي الجامعي ببن عكنون وكانت هذه الكتائب تقوم بمحاكمة العناصر المنتمية للحركة الثقافية البربرية والمتعاطفة معها وكانت تسمى محاكمتها بالمحاكمات الشعبية على أساس أن هذه العناصر معادية لعروبة الجزائر وللغة العربية وللإسلام.. وكل ذلك كان يتم برعاية ومرأى مسؤولي حزب جبهة التحرير الوطني ورجال المدير العام لجهاز البوليس الهادي لخذيري وبعد أن يتم جلد هؤلاء “الخونة” في نظر جماعة صوت التعريب كانوا يسلمون إلى رجال الشرطة السريين الذين ينتمون إلى جهاز الهادي لخذيري.. وهذا ما أدى بالكثير من الطلبة القبايل إلى الهروب من الحي الجامعي ببن عكنون الذي سيطر عليه البعثيون إلى الحي الجامعي بالعناصر… كان ذلك من العام 1980 إلى غاية العام 1981، ولقد وظف الطلبة المنضوون تحت راية البعثيين في مظاهرة مضادة داخل أسوار الجامعة المركزية لإجهاض تظاهرة أنصار الحركة الثقافية الأمازيغية، ومناداة هؤلاء الشاذلي بن جديد ألا يعفو عن هؤلاء “الخونة” وطالبوا الرئيس الشاذلي بن جديد بتنفيذ حكم الإعدام.. هكذا سعى الشاذلي بن جديد إلى أن يخلق قوة مضادة لحركة الربيع الأمازيغي، وامتطت هذه القوة المضادة حصان الدفاع عن الوطن، وعن العروبة والإسلام.. وهذا ما فتح الجسور بين هذا التيار العروبي المحافظ وبين التيار الإسلامي الذي سيتعاظم تأثيره داخل المراكز الجامعية ليتحول إلى قوة جارفة في الأحياء الشعبية وفي مراكز المدن الكبرى..
قام نظام الشاذلي بلعبة مزدوجة من أجل تطويق حرب الهوية التي اندلعت في جامعة تيزي وزو في بداية الأمر، تمثلت من جهة في غض النظر لنشطاء الحركة الثقافية القيام بلقائهم التاريخي في قرية ياكوران بمنطقة القبائل للخروج بأرضية تكفيرية في المسألة الثقافية الأمازيغية لكن من جهة ثانية طرحت السلطة تصورا حول المسألة الثقافية ضمن أطر جبهة التحرير الوطني ووفق التوجيهات العامة للميثاق الوطني الذي أسقط ورقة الأمازيغية في نصه الأساسي.. وقد بدا أن الشاذلي عمل على تمييع القضية التي كانت أساسا تطرح مسألة الحريات والتعددية والديمقراطية، ومسألة تنوع مكونات الهوية الوطنية.. فشجع كتائب صوت التعريب على القيام بنشاطات تطوعية، تهدف إلى تعريب الوثائق بالإدارات المركزية المحلية، وهكذا حازت كوادر هذه الحركة على مواقع نفوذ في منطقة القبائل أساسا من خلال حصولها على مناصب عليا داخل الولاية أو داخل جهاز الحزب.. ولقد استمرت هذه الخطة إلى ما بعد فترة الشاذلي بن جديد، ثم سرعان ما تواصلت خطة الشاذلي بن جديد في إفراغ الحركة الثقافية البربرية من كل مضمون ثوري، خاصة بعد الفترة التي قضاها عدد من نشطائها في السجون في محاكمات 1985.. لقد انقسمت الحركة على نفسها داخل السجون.. وما إن وجدت الجزائر نفسها في أحداث أكتوبر 88 في مفترق الطرق، حتى تمكنت أجهزة الشاذلي الأمنية والدوائر المقربة منه في تلك الفترة من مقايضة زعماء الحركة أو بعضهم لتأسيس حزب سياسي يكون بديلا عن الحركة الثقافية البربرية كقوة رمزية معبئة وفي الوقت ذاته بديلا عن حزب جبهة القوى الإشتراكية وعن أيت أحمد كرمز تاريخي نفسه.. وهكذا قبل الدكتور سعيد سعدي الذي كان يحظى في تلك الفترة بصدقية كبيرة هذا الدور، وتم التفاوض مع الرجل المقرب من الشاذلي الجنرال العربي بلخير، ووزير الداخلية أبو بكر بلقايد.. وكان ميلاد حزب سعيد سعدي التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بداية نهاية المغامرة للحركة الثقافية البربرية وبداية النهاية لمنطقة القبائل باعتبارها القلعة التاريخية والرمزية للإحتجاجات والحريات.. لقد تمكن الشاذلي بن جديد من ضرب الحركة الثقافية الأمازيغية على رجليها ليجدها بوتفليقة سنوات من بعد.. منهكة ومستعدة على أن يركبها من يعطيها بعض الفتات وهذا ما حدث عندما أعلنت جزائر بوتفليقة اعترافها باللغة الأمازيغية كلغة وطنية…
تطالعون في الحلقة الرابعة ـ أصوات الاحتجاج..
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/45697——-3——-.html
==========
سنوات الشاذلي بن جديد : 4 – أصوات الاحتجاج..
السبت, 13 أكتوبر 2012 19:51
منذ البداية ظهرت حقبة الشاذلي بن جديد بوجهين، وجه يتوق نحو الليبرالية لكن ليبرالية هجينة ترفض دخول مغامرة الانفتاح الحقيقي وبالتالي التبني بوضوح ووعي أفكار الحرية والتسامح والاختلاف ووجه آخر محافظ يشجع الثقافة والتوجه التقليديين المرتبطين بصور وسلوكات التسلط والهيمنة وتجلى ذلك بشكل صارخ في قانون الأسرة الذي وافق عليه البرلمان تجاه المرأة التي نظر إليها باعتبارها فرد ناقص وفي حاجة إلى وليّ، وكان مثل هذا القانون متعارضا بشكل عنيف مع الدعوات إلى التخلص من التركة البومدينية فيما يتعلق بالحريات لكن ظهر مثل هذا النزوع نحو الفكر المحافظ والمتسلط في المجال الثقافي والعلمي والاجتماعي، بحيث تمت عملية هي أقرب إلى تقسيم العمل والأدوار ضمن منظومات الحزب الواحد والجهاز التنفيذي، فعلى مستوى الجامعة والمنظومة التربوية بدأت عملية تطهيرها من البرامج التي كان يقال عنها أنها تساعد على انتشار الأفكار الهدّامة والإباحية مثل الماركسية، وراحت الجامعة تحت غطاء التعريب المبني على الجهالة تتحول إلى ثكنة للعقل الجامد، فتم فسخ الكثير من العقود مع الأساتذة الأجانب المشبوهين فكريا وثقافيا، فطرد اليساريون والعلمانيون والمثقفون النقديون باسم جزأرة الجامعة وتعريبها فتحول معهد الحقوق إلى معهد معرب مائة بالمائة وذلك عن طريق التضحية بالكفاءات النقدية وتعويضها بالكوادر ضحلة التكوين العلمي، لكنها موالية لحزب جبهة التحرير، كما أدمج الكثير من موظفي الإدارة والمناضلين في الجامعات دون حصولهم على شهادة البكالوريا، ولقد تحول هؤلاء المدمجون إلى إطارات نافذة داخل الجامعة، لكن أيضا داخل أجهزة الحزب في المحافظات والقسمات وعلى مستوى المناصب العليا في الإدارات المركزية والمحلية.. وساعد الخلق المتزايد للمعاهد الجامعية على تطويق تلك الدينامية التي كانت تقوى وتنتعش عند لحظة الانتقال والاحتكاك بين طلبة مناطق الوطن، وبالنسبة للثقافة والنشاط الإبداعي فلقد حاول الشاذلي بن جديد أن يطلق يد الحزب من جهة، ويد الليبيراليين من جهة أخرى، وهذا ضمن ثنائية انقسامية بين المعربين والفرنكوفونيين الذين كانوا برغم خلافاتهما وصراعهما يندرجان ضمن لعبة الهيمنة والسيطرة الأحاديتين.. بحيث أصبحت المسارح تحت السيطرة الكاملة للدولة من خلال خضوعها لوزارة الثقافة من جهة ولرقابة المحافظة من جهة ثانية لكن بحكم التراث اليساري والثوري للطليعة المسرحية فلقد ظلت عملية إدماجها ضمن اللعبة الأحادية عسيرة فكاتب ياسين الذي عاد إلى الجزائر في بداية السبعينيات عن طريق أحد المجاهدين والكوادر في وزارة العمل، وهو علي زعموم تمكن من أن يتحول إلى ملهم لتجربة مسرحية ثورية تقاسم بناءها وتشكيلها مع صاحب فرقة البحر قدور نعيمي وعدد من الوجوه الفنية الشابة آنذاك، مثل الصادق الكبير وسليمان بن عيسى وبوزيدة ومحفوظ المدعو موح الزيتون، وتمكنت فرقة البحر التي تحولت إلى الحركة الثقافية للعمال لتصبح النواة الرئيسية لمسرح سيدي بلعباس أن تحدث دينامية جديدة على صعيد تجذير الوعي السياسي والجمالي، بمسرحيات مثل “محمد خذ حقيبتك” و«حرب الألفي سنة” التي أظهرت لأول مرة على الخشبة شخصية الكاهنة التاريخية وقُدمت كذلك بالأمازيغية لأول مرة وهذا ما أحدث ثورة فعلية في الوجدان لكن سرعان ما تم تطويق هذه التجربة، فلم تقدم المسرحيات التي كان ينتجها كاتب ياسين وهو على رأس مسرح سيدي بلعباس على شاشة التلفزيون وهذا ما جعل كاتب ياسين يشعر بالرقابة والتهميش مما جعل صوته عاليا إلى جانب الاحتجاجات التي تولدت عن الربيع الأمازيغي وكان نقد كاتب ياسين الأساسي موجها إلى الإيديولوجيا العربية الإسلامية التي كان الحزب الحاكم في فترة الشاذلي بن جديد الأولى يسعى إلى توظيفها من أجل بسط هيمنته ونفوذه، لذا سعت وسائل الإعلام التابعة للحزب الحاكم والحكومة إلى تصوير كاتب ياسين كرجل عربيد وزنديق وملحد بشكل فج وانطلاقا من هذه الصورة الكاريكاتورية كانت مجموعات النفوذ في فترة حكم الشاذلي بن جديد تريد نزع كل صدقية لهذا الكاتب الذي ظل برغم وفائه لجبهة التحرير التاريخية نقديا لانحرافاتها السياسية والثقافية والإيديولوجية. وركز ياسين في عملية نقده للتوجهات الشاذلية بوصفها تعبيرا عن الحكم والممارسات اليومية للسلطة على الحوارات والتدخلات المباشرة في الفضاء العمومي ومن بينها الفضاءات التي أتاحتها الدينامية المترتبة عن حركة الربيع الأمازيغي، وإلى جانب كاتب ياسين ظهر أيضا صوت آخر كان احتجاجيا ونقديا في مجال الإبداع المسرحي وهو سليمان بن عيسى الذي تعاطف مع نضالات شباب حركة 20 أفريل وقدم مسرحية أمام الطلبة في تيزي وزو، لكن أيضا في الجزائر العاصمة وفي مدن أخرى كان عنوانها “بابور غرق” وهي مستمدة أو مستوحاة من مسرحية للمؤلف البولوني مروزاق.. شارك في المسرحية الممثلون، سيد أحمد أقومي وسليمان بن عيسى الذي كتب بدوره النص، وأحمد ڤندوز وكانت المسرحية خاصة في مقطعها الأخير والذي يمكن قراءته وتأويله كنص منفصل يقوم على جمالية شعرية تتوسل اللغة العربية الشعبية الأقرب إلى الشعر الملحون.. وكان النص عبارة عن مرافعة تاريخية ضد الإيديولوجيا العربو- إسلامية وإعادة بناء وبعث للشخصية الجزائرية ذات الجذور والأعماق البربرية، وهي من زاوية أخرى كانت رافدا من روافد الحركة الثقافية الأمازيغية المعروفة بربيع 20 أفريل البربري، وكانت مثل هذه المسرحية تشكل تحديا للتوجه الذي أراد أن يبسطه الحزب الواحد على المجتمع وعلى الثقافة، ومن هنا كانت أهمية هذا العمل باعتباره احتجاجا مباشرا ضد التوجهات الجديدة التي أراد أن يفرضها الشاذلي بن جديد عبر النظرة التمامية للحزب الواحد الذي انخرط في عملية إعادة هيكلة المجتمع والثقافة والتعليم في الجزائر.
لقد أعاد سليمان بن عيسى طرح مسألة الهوية بنظرة مغايرة للرؤية الرسمية القائمة على الأحادية والنظرة الأسطورية للتاريخ المفرغ من مضامينه الدالة على التنوع والتعدد، وضمن هذا التوجه بزغ إلى السطح في مجال الكتابة الروائية صوت احتجاجي آخر، هو الروائي رشيد ميموني، فهو من مواليد قرية بودواو، غير بعيدة عن العاصمة، عمل وهو صغير إلى جانب والده في زراعة التبغ، نال شهادة الليسانس عام 1968، اتجه نحو الكتابة في المجلات وهو لا زال فتى في مثل مجلات ثقافية مثل مجلة “آمال” لكن معظم كتاباته لم تجد طريقها إلى النشر في مؤسسة النشر والتوزيع الحكومية باستثناء روايته الأولى التي قبعت في رفوف المؤسسة أكثر من ثلاث سنوات، وعنوانها “الربيع لن يكون إلا أجمل”، اعتبرت كتاباته مزعجة ونقدية، لذا ظلت ترزح تحت الرقابة وهذا ما دفع بالكاتب أن يتوجه إلى دور النشر الفرنسية فأصدر رائعته “النهر المحوّل” ليعاد طبعها في أول دار نشر خاصة في الجزائر “لافوميك” في الثمانينيات وحاولت الرواية أن تتوجه بالنقد إلى هذه النظرة العقائدية والسياسوية في توظيف شرعية الشهداء إلى مآرب سياسية وإيديولوجية ومصلحية تخفي كالشجرة خلفها غابة الفساد الذي أطلقت عقاله في فترة الشاذلي بن جديد ومن هنا كان صوت رشيد ميموني يندرج من بين كوكبة هذه الأصوات التي رفضت الانضواء تحت النظرة المهيمنة التي عملت على احتواء الكتاب والمثقفين والفنانين لكن مع رواية “طومبيزا” لنفس المؤلف تمكن ميموني من الكشف عن الأوجه القبيحة لهذه البيروقراطية التي تمكنت في فترة الشاذلي بن جديد أن تتحول إلى سلطة حقيقية تكشف عن وجه قبيح ومرعب يسعى إلى تمسيخ المجتمع والإنسان الجزائري وذلك عن طريق التعسف والمحسوبية والرشوة وتعميم الجهالة.
الرواية عبرت عن تشاؤم حقيقي لفترة بن جديد التي شجعت الوصوليين والانتهازيين والمتسلقين والأصوليين الذين سيدفعون الجزائر إلى لحظة هي أشبه باللعنة وذلك هو عنوان روايته في التسعينيات في لحظة انهيار وإفلاس الشاذلية والتي عبرت عن عجز شامل دفع بالبلاد إلى حرب أهلية وإلى حالة من تيه الوعي وضياعه.. كما كانت “زمن النمرود” وهي رواية اعتمد فيها الروائي السايح الحبيب على لغة عربية شعبية تكشف من خلال عالم المهمشين لكن أيضا المتسلطين والمتعسفين عبر استعمالهم التعسفي للسلطة التي يمنحها إياهم الحزب المهيمن وذلك التوظيف القاتل للعروشية على المستوى المحلي، وأخذ مدينته سعيدة مثالا لذلك، فكانت الرواية بيانا جماليا وسياسيا منددا ببدايات الحقبة الشاذلية التي أرادت تصدير إنتاج الآلة الحزبية البعثية وكانت النتيجة أن منعت الرواية ولوحق صاحبها من طرف السلطة المحلية في سعيدة.. وكان هذا النوع من الإرهاب الثقافي والفكري يأخذ كل شرعيته عبر تثبيت التنظيمات التي كانت تسمى بالاتحادات داخل أعماق المشهد الثقافي، فاتحاد الكتاب الجزائريين والذي أضيف له الإعلاميون والتراجمة فيما بعد أصبح الانتماء إليه يشترط الحصول على بطاقة مناضل في حزب جبهة التحرير وكذلك الأمر كان بالنسبة لاتحاد الفنانين وكان كل خروج أو وجود خارج هذه الأطر التنظيمية التابعة للحزب الحاكم يعني عدم الاعتراف بالمبدع والعمل بل يتحول ذلك إلى شبهة.. ومن هنا فإن النشاط الثقافي كان لا يتم أو أريد له ألا يتم إلا تحت العين الساهرة للمحافظ أي للجهاز الحزبي المراقب.. وكانت هذه النظرة التمامية تتقدم بسرعة من أجل بسط يدها على المشهد الثقافي ومن هنا تدعمت المؤسسة الوطنية للكتاب بلجنة رقابة أطلق عليها لجنة قراءة، ونفس الشيء حدث بالنسبة للتلفزيون الجزائري فلقد أصبحت لجنة القراءة وهي لجنة رقابة بامتياز تحاصر كل الإبداعات التلفزيونية والمسرحية التي لا تتماشى والإيديولوجيا الرسمية ومن هنا كانت مسرحيات كاتب ياسين ومسرحية مثل “بابور غرق” لسليمان بن عيسى ممنوعة لأن تبرمج على شاشة التلفزيون لكن أيضا أصوات أخرى تم حظرها في التلفزيون والإذاعة، مثل المغني القبائلي فرحات مهني ايمازيغن إيمولا صاحب أغنية “لستعمار بولماحين ويحيا البريزيدان” وأغاني الفنان القبائلي المتمرد معطوب لوناس بل حتى أغاني لونيس آيت منقلات كانت محظورة في التلفزيون والإذاعة، ولقد سعى الشاذلي بن جديد أن يعطي صورة خادعة عن اهتمامه بالمثقفين والفنانين فسعى الى اختراع حيلة التكريم تكريم الفن والثقافة وذلك من خلال منح أوسمة للكتاب والفنانين الذين قبلوا الانضواء تحت راية الحزب الواحد أو تقديم الولاء للسلطة الصاعدة، وهكذا توافد العديد من الكتاب والشعراء لتسلم الأوسمة منهم كتاب معروفون كانوا محسوبين على تيار الحداثة واليسار، ولقد ألقى في ذلك اليوم الاحتفالي في قصر الشعب الشاعر محمد الأخضر السائحي قصيدة ستظل بمثابة الفضيحة على جبين المثقفين الجزائريين بحيث امتدح فيها الشاذلي بن جديد وحقبته وهي نفس القصيدة التي قيل أن الراحل محمد عبد القادر الأخضر السائحي الكبير كان امتدح فيها الجنرال ديغول في الخمسينيات فقط غيّر اسم ديغول باسم الشاذلي بن جديد.
وفي تلك الحقبة ظهرت كذلك أصوات تبنت الهامش وكان معظمها في الجامعات والجمعيات غيرالمرخص لها، اشتغلت على تطوير نقدية فنية وسياسية لتلك الرؤية المهيمنة التي سعى الحزب الحاكم إلى فرضها والسعي من خلالها إلى التنميط الموحد للمجتمع أذكر منها فرقة “تاڤراولة” التي كانت تقدم أغانٍ ملتزمة بالقبائلية وفرقة “الدبزة”، التي تأسست في العام 1980 أثناء أحداث الربيع البربري بحيث مزجت بين الأغنية السياسية النقدية وبين المسرح، وكانت نواتها الصلبة متكونة من عدد من الشبان طلاب وبطالون، نذكر منهم عمارة بن يونس رئيسها وأصبح فيما بعد من مؤسسي حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، ثم وزيرا في عهد بوتفليقة ورابح بلهوان الذي أصبح فيما بعد مناضلا في حزب الأرندي ونائب رئيس بلدية الجزائر الوسطى ومرزوق حمياني الذي ظل وفيا لفرقة الدبزة إلى يومنا هذا ومحمود راشدي مناضل في اليسار المتطرف وشاعر الفرقة وسعيد حيون مغني الفرقة وبوناب المدعو تيتيف كاتب الفرقة ولقد كتب عدة مسرحيات منها “المتهوم”، أضافت فرقة الدبزة على الصعيد الجمالي للأغنية السياسية النقدية جانبا نوعيا تمثل في توظيف الموسيقى ذات البعد الشعبي الإنساني وعلى تطوير القصيدة الشعبية النثرية ذات الإيحاء المكثف حينا والمباشرة اللاذعة لكن دون أن تنزل إلى الفجاجة والسوقية مثل أغنية “واش راه صاير في الجزاير” فثمة نقد جذري للنظام وتعرية للفساد والانحراف الذي حدث بالمقارنة إلى الجزائر الطوباوية التي استشهد من أجلها أبطال الجزائر، جزائر المساواة والحرية والعدل، وفي أغنية “واش قراوك اليوم في ليكول يا وليدي” نقد لاذع للمنظومة التربوية في عهد الشاذلي بن جديد التي راحت تفرض المواد الدينية التقليدية على حساب الانفتاح على المعرفة الإنسانية وذلك توافقا مع النزعة المحافظة التي راحت تتغلغل داخل المجتمع، نزعة تحتقر المرأة وتنبذ الاجتهاد وتكرس الطاعة العمياء والتبعية وإلى جانب فرقة الدبزة، أنشأ مجموعة من الطلبة فرقة مسرحية “كمال أمزال” انتهجت طريق الاحتجاج السياسي والفني، وتأسست هذه الفرقة عشية اغتيال الطالب كمال أمزال من طرف الإسلاميين داخل الحي الجامعي ببن عكنون، وكنت من بين مؤسسيها إلى جانب جمال غريب، ورابح خذري وحسين تومي ومصطفى مرزاق وياسين بورويلة وأنتجت فرقة كمال أمزال التي استمرت إلى غاية نهاية الثمانينيات عدة مسرحيات ذات طابع سياسي نقدي، أذكر منها “شمس الطوفان” و”مامية” التي تركز نقدها حول التوجه الليبرالي الهجين للسلطة في عهد الشاذلي بن جديد ولقد قدمت فرقة كمال أمزال أعمالها في المراكز والأحياء الجامعية، وفي القاعات غير الرسمية في الأحياء الشعبية والمدن الداخلية، لكن أبواب المسارح التابعة للدولة ظلت موصدة في وجهها وهذا لم يمنع أن يكون صداها عميقا في أوساط جمهور الشباب..
لقد كان هذا التوجه الاحتجاجي على الصعيد الثقافي علامة متميزة على طريق المقاومة الثقافية وتزامن ذلك مع إفرازات أخرى في المجال الفني مثل صعود أغنية الراي وتحولها إلى بؤرة صراع يعكس عمق وشدة التحولات البنيوية في الحقبة الشاذلية وذلك بالتشابك مع تعدد بؤر الاحتجاج الاجتماعي مثل الإضرابات والتظاهرات المتعاظمة والتي ستبدأ بأحداث القصبة في العام 81، لتتطور فيما بعد في مدن كبرى مثل وهران، وقسنطينة عام ٨٦لتتقاطع مع احتجاجات من طراز آخر، هي احتجاجات الطلبة الإسلاميين في نوفمبر 1982، ثم في العام 1983 أثناء جنازة الناشط الإسلامي عبد اللطيف سلطاني ليصل ذلك إلى لحظة أوجها مع أحداث أكتوبر 88 المعروف بخريف الغضب..
تطالعون غدا في الحلقة الخامسة الرقص مع الإسلاميين
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/45842——4—.html
==========
الاثنين, 15 أكتوبر 2012 00:21
منذ اعتلائه عرش قصر المرادية ارتدى الشاذلي بن جديد عباءة الرئيس المؤمن، وكانت الرسالة واضحة، وهو استقطاب قوة اجتماعية وسياسية صاعدة ممثلة في الإسلاميين.. لقد حاول الإسلاميون منذ الساعات الأولى للإستقلال الإعلان عن وجودهم وبقوة، عندما أعلن الرجل الأول في جمعية العلماء المسلمين الشيخ البشير
الإبراهيمي عن انزعاجه من حل جمعية العلماء المسلمين التي لعبت دورا حاسما في يقظة الوعي الوطني والإسلامي إبان الفترة الإستعمارية على يد نظام أحمد بن بلة الذي أقام نظام الحزب الواحد وانتهج الإشتراكية الشعبوية كطريق واختيار، وكان البيان الذي أذاعه البشير الإبراهيمي آنذاك، بمثابة الصاعقة التي أقلقت أول رئيس للجزائر المستقلة، مما جعله يقبل على وضع زعيم جمعية العلماء المسلمين تحت الإقامة الجبرية، وهذا إلى غاية وفاته عام 1964..
لكن موت البشير الإبراهيمي لم يثبط من معنويات المجموعات الإسلامية المبكرة التي اعترضت طريق السلطة آنذاك، سواء في فترة أحمد بن بلة الوجيزة والممتدة من 1962 إلى 1965، أو في ظل حقبة هواري بومدين التي امتدت من العام 1965 إلى غاية وفاته عام 1978 نحو إقامة نظام الحزب الواحد، وتبني الإشتراكية كنظام سياسي واقتصادي وإيديولوجي.. فجمعية “القيم الإسلامية” التي تأسست في 9 فبراير 1963 كان هدفها الرئيسي حسب رئيسها الهاشمي تيجاني “ملء الفراغ الذي تركته جمعية العلماء المسلمين لكن أيضا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العوام بأركان دينهم وجلال أعمال سابقيهم وإيقاظ المثقفين من أبناء ملتنا” وكان المؤسسون الأوائل لهذه الجمعية وهم الهاشمي تيجاني وزهير أحدادن وعيسى قصار إلى جانب الأفواج التي تلت وكان من بين عناصرها الأوائل مختار عنيبة، المتصرف في طبع مجلتي الجمعية (القيم) و(التهذيب الإسلامي) وعباس التركي ومصطفى خاوي توفي عام 1984، وعبد اللطيف سلطاني ومصباح حويدق والعرباوي وأحمد سحنون والشاعر عبد المجيد مصطفاي ورشيد بن عيسى ورضا بن فقيه وعباسي مدني وغيرهم من الشخصيات التي كانت ترعاها بعطفها وتشجعها مثل فرحات عباس ومحمدي السعيد ومحمد خيضر، قلت أن مثل هذه الجمعية ظلت منذ الساعات الأولى للاستقلال تسعى إلى إعادة أسلمة الجزائر الخارجة لتوها من الحقبة الكولونيالية بحيث طرحت في برنامجها الذي أعلنت عنه في احتفالية بعيد نوفمبر في قصر الشعب وبدعم من محمد خيضر عن ضرورة استبدال ظهر الخميس ويوم الجمعة بظهر السبت ويوم الأحد وذلك من خلال بحث أنجزه رئيس الجمعية الهاشمي تيجاني حول (الراحة الأسبوعية) ونادت بإلزام التعريب التدريجي الكامل لكافة مستويات التدريس من الإبتدائي إلى قسم التعليم العالي الشامل للعلوم اللغوية والأدبية والتاريخية والفلسفية والإنسانية والطبيعية والتقنية، كما حثت الجمعية على ضرورة بعث اللغة العربية والعودة إلى التمسك بالأخلاق القرآنية والسنة النبوية وإقامة الشريعة الإسلامية في الأحكام والحدود ولقد جلبت الجمعية على نفسها بسبب الأفكار التي أعلنتها في قصر الشعب بتاريخ 5 جانفي 1964، متاعب وهجومات جمة من طرف عدد من المثقفين المحسوبين على اليسار، يسار جبهة التحرير الوطني مثل محمد حربي ومراد بوربون وفضيلة مرابط وأحمد زهوان الذين أمضوا بيانا، سمي بيان 24 شخصية، اعتبروا برنامج جمعية القيم “رجعيا، وحشيا ومغاليا بشكل فاحش في التمسك البدائي بأسطورة الدولة الإلهية التي ترتكز على التقاليد المتحجرة المشجعة للإقطاعية والرأسمالية دون التقدم”، كما لم يتوان هؤلاء الإسلاميون المبكرون المنضوون تحت راية جمعية القيم عن رفع احتجاجهم إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن طريق السفارة المصرية ضد تنفيذ حكم الإعدام على المفكر الإسلامي سيد قطب وجاء فيه “يسرنا نحن جمعية القيم الإسلامية الجزائرية، أن نتقدم بالتوسل إلى حضرتكم أن تتفضلوا بالعفو عن سيد قطب ورفاقه المحكوم عليهم من قبل المحكمة العسكرية التابعة لنفوذكم بصفتكم رئيس محكمة الثورة والرئيس الأعلى لكافة المصالح العسكرية بمصر أختنا الشقيقة الكبرى فتحولوا الحكم عليهم بالإعدام إلى الحكم بالسجن، ونحن إذ نتوجه إلى فخامتكم بهذا الرجاء، لا نعتبر أنفسنا أكثر من جمعية إسلامية ثقافية دينية، لا خوض لها في الشؤون السياسية لا المصرية ولا الجزائرية نفسها” وكانت النتيجة هي حل الجمعية من طرف نظام هواري بومدين والزج برئيسها في السجن، وفي المساجد ظلت أصوات الدعاة النقديين والمطالبين بأخلقة السياسة وأسلمة المجتمع والدولة مثل الشيوخ عبد اللطيف سلطاني ومصباح حويدق والعرباوي مرتفعة، وهذا ما جعل شيخ مثل عبد اللطيف سلطاني يؤلف كتابا، ينشره في المغرب تحت عنوان “المزدكية أصل الإشتراكية” انتقد فيه بلغة لاذعة وبالغة العنف السياسة المنتهجة من قبل الكولونيل هواري بومدين مثل تأميم الأراضي الفلاحية وإعطائها للفلاحين المعدومين، بحيث أفتى عبد اللطيف سلطاني أن الصلاة لا تجوز على أرض مؤممة، واعتبر الثورة الزراعية بدعة شيوعية، وصبّ أيضا نقده على ممثلي التيار اليساري مثل الشاعر والروائي كاتب ياسين الذي انخرط في نقد الدين ورجاله، وبالرغم أن هواري بومدين حاول التعاطي مع صعود التيار الإسلامي بأسلوبين، أسلوب الاحتواء والتطويق، بحيث شجع على عقد مؤتمرات الفكر الإسلامي التي كان من وراء فكرتها كل من المفكر الإسلامي مالك بن نبي والناشط الإسلامي الذي تحول من الماوية إلى الإسلاموية رشيد بن عيسى ليصبح في الثمانينيات أقرب إلى الفكر الشيعي، ومقربا من الإمام الخميني وكذلك غض هواري بومدين النظر عن انتشار الشرائط الدينية ذات الطابع الإرشادي والتحريضي، مثل أشرطة الخطيب المصري الإسلامي الضرير عبد الحميد كشك الذي ساهم في بلورة أفكار الإسلام السياسي عند الناشئة الجزائرية، وكذلك عن انتشار كتب سيد قطب مثل “في ظلال القرآن” و”معالم في الطريق” ومحمد قطب، وكتب أخرى لمفكرين إخوانيين ساهمت في الترويج للفكرة الإسلاموية مثل أعمال عبد القادر عودة وسعيد حوى وسيد سابق وأبو بكر جابر الجزائري وفي ظل مثل هذه الأجواء تطورت الفكرة الإسلامية إلى تنظيم سياسي سري تمثل في تنظيم الإخوان المسلمين تحت تسمية “الموحدون” وكان من بين مؤسسيه محفوظ نحناح، محمد بوسليماني وسلام عبد اللطيف، ومصطفى بلمهدي وقيراط محمد وعبد اللطيف سلام وبوجمعة عياد ومحمد قندورزي ورشيد كسوري، ونشرت جماعة الموحدين بيانا انتقاديا لسياسة بومدين، تحت عنوان “إلى أين يا بومدين؟” جاء فيه ما يلي (بعد أن سلب خيرات الشعب لفائدة بعض حاشيته من السياسيين والعسكريين
بعد أن وجد الشيوعيون فرصة سانحة للعمل من أجل تحقيق الشيوعية طيلة حكم بومدين..
وبعد أن أعدم حرية التفكير والتعبير على كل المستويات الشعبية حتى وصل الأمر إلى المساجد، حيث منع الكلام إلا فيما يحبه ويرتضيه، وبعد أن دعا ليلة المولد النبوي الشريف رفيقه الشيوعي كاسترو، وليلة عيد الأضحى رفيقه “جياب” اللذين جاءا ليزوداه ويغذياه لمواصلة المسيرة الحمراء..
وبعد أن كوّن جهاز مخابرات لإرهاب الناس…
وبعد أن شوه الإسلام بهواه وميّع التعريب في محتواه..
وبعد هذه القائمة السوداء كلها:
نحن على موعد مع محكمة عليا نحن المجاهدين والعلماء لمحاكمته على فضائحه وجرائمه أمام الناس ومن غير مماطلة على حسب التعاليم الإسلامية…
ونقول
لا لإشتراكية بومدين ولا لغيرها
لا للميثاق الذي كتبته عناصر معروفة بخيانتها وولائها للشيوعية
لا للميثاق الذي جيء به لتثبيت نظام غير شرعي
نعم للإسلام: عقيدة ـ شريعة ـ منهج حياة
نعم للإسلام: دستورا ـ نظاما ـ اقتصادا
نعم للإسلام: حقوقا ـ واجبات ـ محاسبة
نعم للإسلام: شورى ـ عدالة ـ وحدة ـ أخوة
أما الأسلوب الثاني الذي تبناه هواري بومدين تجاه تنامي وتصاعد تيار الإسلام السياسي، فهو أسلوب يقوم على التشدد واستعمال العصا الغليظة، وعلى هذا الأساس تم اعتقال عناصر جماعة الموحدين عندما قامت بنشر بيانها المعادي لهواري بومدين وسياسته، وانخرطت في نشاطات تخريبية، بحيث حكم على أحد رجالاتها الكارزماتيين وهو محفوظ نحناح بـ 15 سنة سجنا نافذة، واعتبر البعض أن هذا الحكم القاسي كان سياسيا في الأساس لأنه كان يريد أن يكون استباقيا وردعيا، لكن مع صعود الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم فتحت الأبواب في بداية الأمر على مصراعيها أمام الإسلاميين لما اختار الشاذلي بن جديد أن يحدث قطيعة مع سياسة بومدين وتوجهاته ويدخل في رقصة فالز مع قوى الإسلام السياسي المتصاعد خاصة وأن المناخ العام كان يشجع على ذلك بعد اشتعال فتائل الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بالشاه عام ٧٩ وفي الوقت ذاته غذت الآمال وفتحت شهية الإسلاميين العرب لأن يطمعوا بالإستيلاء على السلطة، لقد شدد الشاذلي بن جديد على رسم صورة مخالفة تماما لصورة بومدين الذي كان ينعته الإسلاميون بالشيوعي والعلماني، فالصورة التي عمل الشاذلي على رسمها في أعين الإسلاميين والمحافظين تعطي الإنطباع بأنه رجل قريب من الإسلاميين، وتجلى ذلك بشكل صارخ عندما دعا الشاذلي بن جديد صديقه الشيخ محمد الغزالي إلى الجزائر والذي أصبح يقدم حصة أسبوعية في التلفزيون الجزائري، كما وجدت دور النشر الخاصة مثل دار البعث والشهاب تشجيعا من قبل مؤسسات الدولة لإعادة نشر كتب الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي والترويج لها.. كما شجعت السلطات الإسلاميين خاصة في الجامعات على تنظيم معارض للكتاب الإسلامي، وفتح المدارس الثانوية أمام الدعاة المشارقة للاحتكاك المباشر بالجيل الصاعد من الطلبة، وإلى جانب ذلك، فلقد شجع الشاذلي بن جديد على إنشاء أكبر جامعة للعلوم الدينية، وكان الشيخ الغزالي رئيس مجلسها العلمي، وهي جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، وكان ثمة مشروع آخر مماثل لكنه لم ينجز.. وهو عبارة عن جامعة للعلوم الدينية تحمل اسم عبد الحميد بن باديس بوهران، كما تغاضى الشاذلي بن جديد عن تلك الجمعيات التي تكاثرت كالطحالب بشكل لافت، كانت وراء بناء المساجد الموازية لمساجد الدولة.. وسهرت وسائل الإعلام، منها التلفزيون الجزائري على تقديم الشاذلي، خاصة بعد أن توجه إلى البقاع المقدسة كرجل مؤمن أقرب إلى صورة أمير المؤمنين، ولقد تحولت العمرة لدى الشباب إلى موضة، وهذا من خلال سياسة تشجيع الشباب على أدائها، وذلك ما فتح الباب أمام الإسلاميين السعوديين لجلب الشباب الجزائري نحو التطوع “للجهاد” في أفغانستان وبالفعل ارتفع عدد المجندين الجزائريين في أفغانستان إلى حوالي خمسة آلاف متطوع، ولقد لعب الإخوان الجزائريون ودوائر في السلطة أدوارا مهمة لاستقطاب الشباب إلى الدرجة التي أصبح ناشط مثل عبد الله أنس، وهو أصيل مدينة سيدي بلعباس يترأس جماعة الأفغان العرب ويصبح صهر الزعيم الإسلامي الفلسطيني عبد الله عزام.. واعترف لي فيما بعد الإخواني الراحل محفوظ نحناح في حوار أجريته معه في مقر حزبه في العام 1993، أنه وجد تشجيعا من طرف السلطات في الثمانينيات لتجنيد المئات من الشباب الجزائري في الجهاد الأفغاني ضد الإتحاد السوفياتي، وكان التلفزيون الجزائري في نشراته يصف في تلك الفترة الأفغانيين بالمجاهدين والمقاومين ضد الخطر الشيوعي الأحمر… ووجود مثل هذه الأجواء دفع بالإسلاميين الجزائريين، خاصة بعد إطلاق الشاذلي سراح نحناح ورفاقه الذين سجنهم هواري بومدين لمدة تتراوح بين 10 و 15 سنة وإعادة إدماجهم في وظائفهم، وهذا تلبية لوساطة كويتية دفع بالإسلاميين لأن يجهروا بدعوتهم بشكل واضح وصريح بنشاطهم ويخرجون من السرية إلى العلنية، وذلك ما ترك محمد عثمان يبادر بإنشاء جماعة إسلامية، أطلق عليها جماعة الدعوة والتوحيد.. وكان مركزها الرئيسي في مدينة سيدي بلعباس..
ولد محمد عثـــمان في مدينــة ســيدي بلعباس عام 1948 وهو أب لسبعة أبناء، تخرج من المدرســة الثانوية الفرانكو ـ إسلامية بتلمسان، وكان جده الحاج أحمد محمد عثمان أول من فتح كتاتيب القرآن بمدينة سيدي بلعباس، التي كانت تسكنها أغلبية من الكولون واللفيف الأوروبي الأجنبي، وكانت عائلة عثمان في الأربعينيات تنتمي إلى حركة الإصلاح التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وترأسها فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي، وفي 1969 دخل محمد عثمان معهد الترجمة بجامعة الجزائر العاصمة، لكنه لم يواصل دراسته ليعود في العام 1971 إلى وهران ويدرس بجامعتها مادة الأدب واللغة العربية وكان لقاؤه مع الداعية أبو بكر الجزائري في سيدي بلعباس، بمثابة المنعرج الكبير في حياته الفكرية والروحية والسياسية، فانخرط سنة بعد لقائه بأبي بكر جابر الجزائري في جماعة الدعوة والتبليغ إلى جانب الحاج بلقاسم بلقاسمية الذي سيلقى حتفه على يد الجي جيان الفرنسي داخل الحرم المكي الذي احتلته لأيام جماعة جهيمان وكان ذلك عام 1979.. في بداية السبعينيات انخرط محمد عثمان في النشاط الدعوي السياسي العلني إلى جانب أساتذة مصريين كانوا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين وجعل من مسجد الفتح الكائن في قلب مدينة سيدي بلعباس بشارع ڤومبيطا معقله الرئيسي، يقول محمد عثمان الذي توفي عام 1998 بعد عودته من الولايات المتحدة والتي أصبح إماما في مسجد ناشطين إسلاميين بمشيغان، أنه في تلك الفترة (ركز على الجانب الأخلاقي لكن النقدي أيضا المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدخول إلى الحانات والتحاور المباشر مع روادها، لأن يكفوا عن مثل تلك الآفات، بل ودخوله إلى بيوت الدعارة التي كانت منتشرة في سيدي بلعباس، في حي فيلاج اللفت وإسداء النصائح لبائعات الهوى)! ويضيف محمد عثمان، “أن الثمار التي جنيناها باتباع هذا الأسلوب في بداية الدعوة كانت كثيرة وطيبة، وجلبت لجماعتنا سمعة وأنـصارا كثيرين، وهذا ما قادنا إلى بناء مسجد عثمان بن عفان الذي تحول إلى قلعة للدعوة”، وفي 1978 توجه محمد عثمان إلى المشرق، والتقى بناشطين إسلاميين في سوريا ولبنان ومصر ومن بينهم سعيد حوى وعبد الحميــد كشك وأبو بكر جابر الجزائري ومحمد قطب، ثم استقر لوقت قصير في العربية السعودية رفقة بلقاسم بلقاسمية..
تطالعون غدا في الحلقة السادسة الرقص مع الإسلاميين (2)
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/45925–5-1-.html
==========
سنـــوات الشــاذلي بـن جديـــد : 6 ـ الرقص مع الإسلاميين (2)
الاثنين, 15 أكتوبر 2012 19:46
اعتقد محمد عثمان أن فرصة وصول الإسلام إلى السلطة قد تبدأ خطواتها الكبرى مع حقبة الشاذلي بن جديد الذي ظهر كرجل غير معادٍ للإسلاميين، بل أشد ما كان يؤرقه هو التخلص من اليساريين حلفاء هواري بومدين، الذي فتح أمامهم الأبواب للتغلغل في الإدارة ومؤسسات الدولة الحساسة، وكان محمد عثمان صاحب خبرة في لعبة السياسة وأروقتها وهو إلى جانب ذلك، رجل طموح، يمتلك ناصية اللغتين والثقافتين، الفرنسية والعربية، ومتحدث لبق، صاحب نكتة وخطيب فصيح يعرف من أين تؤكل الكتف، ولقد أدرك بحسه الغريزي كيف يعقد علاقات متشابكة مع ليبراليي مدينته الوافدين من تلمسان، فمعظمهم كان من أصحاب المهن الحرة، ومن التجار بالجملة ومن المقاولين، وأدرك كيف يجلب لجماعته أصحاب المال الذين كانوا يحملون في أعماقهم كراهية شديدة لهواري بومدين وللشيوعيين وللإشتراكية التي وقفت حجر عثرة أمام رغبتهم في جمع الثروة.. ولم يخف الشاذلي بن جديد رغبته في استمالة هذه القوى الإسلامية الصاعدة في لعبته الهادفة إلى إخراج اليساريين وحلفائهم من المشهد السياسي على مستوى المدن الداخلية وفي الحواضر الكبرى، وعندما تلقف عثمان محمد الرسالة إلى مثال بالنسبة للإسلاميين الذين كانوا مترددين وحذرين في الخروج إلى النور والإستحواذ على مساحات الفضاء العمومية، فاتجهوا إلى خلق جماعات إسلامية أخرى أصبح لديها معاقلها عبر المساجد الخاصة التي أضحت تحت سلطتها بمساعدة وتواطؤ السلطات المحلية، وهكذا تعددت شبكات هذه الجماعات المتنامية عبر مدن مثل سعيدة وسيدي بلعباس ووهران ومستغانم وعين تموشنت والشلف بالغرب الجزائري، لكن أيضا في الجنوب مثل ورقلة، وفي الشرق مثل قسنطينة وفي الوسط مثل قسنطينة والعاصمة نفسها في أحياء كبرى مثل العاشور وواد الرمان وبوفاريك.. وبالرغم أن هذه الحرية التي أصبحت تحظى بها المجموعات الإسلامية صارت مصدر انزعاج وتذمر عند مناضلي حزب جبهة التحرير ولدى المجموعات اليسارية لكن أيضا بالنسبة لمصالح الأمن التي كانت تراقبها عن كثب إلا أن المقربين من الشاذلي بن جديد كانوا يهونون من التخوفات التي كان يعبر عنها البعض من تعاظم نفوذ التيار الإسلامي داخل المجتمع والمؤسسات التربوية، بل حتى داخل الإدارة وعلى مستوى الشارع الذي بدأ يتحول لونه إلى لون أخضر، رمز المد الإسلامي، وبالفعل سرعان ما شعر الإسلاميون أنهم أصبحوا قوة يحسب لها ألف حساب فامتلأوا بالثقة والإحساس بالقوة، فانتقلوا إلى مرحلة أخرى، حاولوا في ظلها استعراض عضلاتهم لاختبار مدى قوتهم وتفوقهم وفي الوقت ذاته اختبار مدى صدقية وجدية الشاذلي في مجال الإنفتاح على قوى الإسلام السياسي، ففي ربيع 1981، أصبح للإسلاميين في سيدي بلعباس، ثلاثة قلاع، وهي مسجد الأرقم، ومسجد السلام، ومسجد عثمان بن عفان الذي كان يسيطر عليه محمد عثمان، وأعلن هذا الأخير نفسه أميرا على منطقة سيدي بلعباس، وبالتالي تحول إلى قوة موازية لأعلى رموز ممثلي السلطة المركزية، مثل محافظة الحزب الحاكم، ووالي الولاية.. وهذا ما جعله يدخل في أول صدام مع السلطة عندما زار الدكتور عباسي مدني سيدي بلعباس باعتباره داعية ومقرب من تيار الجماعة الإسلامية الموصوفة بجماعة الجزأرة، وأراد أن يلقي دروسا بالمركز الجامعي لسيدي بلعباس، وأيضا بالجامع الكبير بالمدينة، وهو جامع أبو بكر الصديق وذلك بالتنسيق مع مفتشية الشؤون الدينية التابعة لوزارة الشؤون الدينية التي كان على رأسها آنذاك مولود نايت بلقاسم، لكن عباسي مدني الذي جاء مرفوقا إلى جامع أبو بكر الصديق ببعض الوجوه الرسمية قوبل بنقد لاذع من طرف جماعة عثمان الذين حاولوا منع عباسي مدني من إلقاء دروسه، وكان ذلك بحجة أن الدكتور عباسي مدني لم يستشر أمير الجماعة بالمدينة محمد عثمان، وفي لحظة تراشق بالكلمات حاولت جماعة عثمان اختطاف عباسي مدني ونقله إلى معقلها بمسجد السلام، وهنا تدخلت قوات الأمن واقتيد عثمان محمد إلى محافظة الشرطة وترتب عن ذلك مشادات، وكانت الأولى من نوعها بين أنصار عثمان محمد وقوات الشرطة لتتحول هذه المشادات إلى مظاهرات واحتجاجات واعتقالات في صفوف الإسلاميين، وقدم حينها عثمان محمد إلى المحاكمة وهذا ما دفع بجماعة العاشور التي كان على رأسها مصطفى بويعلي، ويساعده علي بن حاج والمدعو عبد الهادي والهاشمي سحنوني إلى إصدار بيان ينادي بإطلاق السراح الفوري لجماعة سيدي بلعباس، وعلى رأسها محمد عثمان.. كما انتقلت جماعة بويعلي إلى مرحلة أكثر راديكالية عندما نوت على تحضير مسيرة كبرى في قلب العاصمة عشية الفاتح مايو من العام 1981 تقودها عدة فصائل من التيار الإسلامي الذي كان يعتقد أن ساعته قد حانت إلا أن مصطفى بويعلي لم يجد استجابة لدى جماعة نحناح التي خرجت من السجن بفضل الشاذلي بن جديد، وكانت هذه الجماعة ترى فيما قام به محمد عثمان ومصطفى بويعلي ومقربوه هو نوع من المغامرة التي قد تضر بمصالح الحركة الإسلامية، وفي الوقت ذاته تمنح الفرصة لخصوم الإسلاميين وخصوم الشاذلي من البومدينيين وحلفائهم من العلمانيين واليساريين للإجهاض على هذه الفرصة التاريخية التي خلق خليفة هواري بومدين مناخها ورتب تربتها..
حوادث مثل هذه دفعت ببعض القادة الأمنيين ليطرحوا على الشاذلي خطة للتعاطي معها وذلك من أجل تطويقها وإدراجها ضمن الإستراتيجية التي لا تضر بالانفتاح ومصالح القوى الجديدة الوافدة إلى الحكم.. اعتبر الشاذلي أن مثل هذه الحوادث لن تثنيه عن تشجيع عودة الجزائريين إلى إسلامهم، وذلك من خلال ترقية الثقافة الدينية بتشجيع تكوين الأئمة المسلحين بالعلم وفتح المعاهد الدينية التي قد تقف سدا أمام كل انحراف وغلو.. ومن هنا شدد الشاذلي بن جديد على مواصلة ندوات الفكر الإسلامي التي كان يُدعى إليها علماء وشيوخ ومفكرون ودعاة من كل أصقاع الدنيا، فانعقد الملتقى الرابع عشر من واحد إلى سبعة سبتمبر عام 1981 بالجزائر العاصمة والسادس عشر من 27 جويلية إلى 3 أوت بالجزائر العاصمة والسابع عشر بقسنطينة من 19 إلى 26 جويلية عام 1983 والثامن عشر بقسنطينة من 10 إلى 16 جويلية عام 1985، والتاسع عشر ببجاية من 08 إلى 16 جويلية عام 1985 والعشرين بسطيف من 02 إلى 19 سبتمبر عام 1986 والواحد والعشرين بمعسكر في 26 / 08 إلى 01 / 09 عام 1987 والثاني والعشرين بالجزائر العاصمة من 30 أوت إلى 05 سبتمبر عام 1988.
وحاول الشاذلي بن جديد أن يخفف من تلك الهواجس التي عبرت عنها عصب أخرى داخل جهاز الحزب الحاكم وداخل المؤسسات الأمنية من جهة، ومن جهة ثانية حاول أن يكشف للإسلاميين عن حسن نيته تجاههم وعن جديته في دفعهم لأن يلعبوا أدوارا مهمة لكن إلى جانبه وليس بالتناقض مع سياسته فتقدم بعفو عن جماعة عثمان محمد وغيرهم من الجماعات الإسلامية الأخرى وكان ذلك اعتقادا منه لكسب ودهم ونصرتهم لتوجهاته السياسية التي كان يسعى لتثبيت أقدامها على مراحل، ولقد وجد الشاذلي بن جديد ترحيبا بهذه السياسة المنتهجة من قبله تجاه الإنفتاح الليبرالي، وتجاه الإسلاميين من قبل أصدقائه الجدد في الخليج وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية وإمارة دولة الكويت، لكن أيضا فيما بعد من طرف الإدارة الأمريكية عندما زار واشنطن عام 1985 بحيث تمكن من “تمرير مناوراته على الجميع، وحصل على فترة ولاية رئاسية ثانية”، وكانت الولايات المتحدة حينها تراهن على كسب الورقة المغاربية “مستفيدة من أجواء الانفتاح بين الشرق والغرب والتورط الفرنسي الكثيف في التشاد..”2 خاصة وأن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان كان هدفه الرئيسي يتمثل في تعزيز العلاقات مع الجزائر وعلى “مدّ الخيوط المتينة داخل المنطقة المحرمة الفرنسية تمهيدا لكسب الود الجزائري عبر جرّه إلى عقد صفقات والمعاهدات العسكرية وتثمير هذا الانفتاح للقبض على المنطقة المغاربية بأجمعها”3.
ولقد حصل الشاذلي بن جديد من الأمريكان على غنيمة لم يكن ليحلم بها، تمثلت في عقد عسكري باهر خاصة إذا ما صدقنا تقارير الإستخبارات التي تفيد بأن الجزائر أصبحت سادس دولة مستوردة للسلاح في العالم عام 1985.. وبالرغم أن ذلك أثار انزعاج الفرنسيين إلا أن الشاذلي بن جديد سعى إلى إرضائهم من خلال إيفاد رجله القوي العربي الذي أصبح فيما بعد رجل ديوانه ليعرض على الفرنسيين “إتمام صفقة السلاح التي جمّدها الجانب الجزائري عام 1983”.
لقد وجدت إدارة ريغان عملية الاستقطاب التي باشرها الشاذلي بن جديد ذكية ومفيدة في تحويل الجزائر من الوجهة الإشتراكية إلى الوجهة الليبرالية، خاصة وأن ريغان كان غارقا حتى النخاع في الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي الذي احتل أفغانستان، وأن خلق جبهة من الإسلاميين وإدراجها في إضعاف “إمبراطورية الشر” الممثلة في الإتحاد السوفياتي يخدم بامتياز المصالح والإستراتيجية الأمريكيتين..
وفي ظل هذه الأجواء تمكن جيل جديد من اكتشاف أدبيات السلفيين الوهابيين مثل كتابات الألباني والعثيمين وأدبيات عبد الله عزام السلفي الإخواني والزنداني الذي روج للنزعة العلموية في الخطاب القرآني وكان ذلك على حساب الكتابات النقدية لمفكرين علمانيين ويساريين، بحيث تم تشجيع حرق كتب حسين مروة مثل “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” وشنت حملة شعواء ضد هذا الكتاب الذي ألفه فيلسوف لبناني ينتمي إلى الحزب الشيوعي اللبناني في المساجد وعلى مدرجات المعاهد الجامعية وفي الثانويات، كما فتح المجال لارتداء الحجاب والذي تحول إلى مادة للسجالات الإيديولوجية والسياسية على أعمدة الصحف التي كانت مقربة من دائرة الشاذلي بن جديد ذات الجناح الفرانكفوني الليبرالي…
إن عملية الطمأنة التي حاول أن يشيعها الشاذلي في نفوس المقربين منه، سرعان ما أصبحت تصطدم بحقائق الواقع، فالإسلاميون لم يكونوا مستعدين أن يلعبوا دور الخرفان الوديعة وهم يرون يوميا قوتهم تتعاظم ونفوذهم يتسع ويتغلغل في أوساط المجتمع، أدركوا أن ميزان القوة لابد أن يميل إلى جانبهم إذا ما راحوا يسرعون من خطواتهم التي يجب أن تبوأهم مكانة أكثر تأثيرا وهيمنة وإلا سيقطف آخرون تلك الثمار التي ظنونها قد أينعت.. ومن هنا فكرت الجماعة الإسلامية التي كانت تنشط في المنتصف الثاني من السبعينيات داخل الجامعة وفي سرية مطلقة دخول المعترك السياسي والإيديولوجي وذلك من خلال بسط يدها على الأحياء والمراكز الجامعية..
تأسست الجماعة الإسلامية، وأحيانا كان يطلق عليها المجلس الثوري على يد الدكتور محمد التيجاني بوجلفة وهو أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر، وكان من حوله القبائلي محمد السعيد الذي سينفذ فيه في العام 1996، أمير الجماعة الإسلامية المسلحة جمال زيتوني حكم الإعدام والدكتور عباسي مدني، وعدد من المقربين من الشيخ أحمد سحنون مثل أنور هدام الذي التحق بالجماعة فيما بعد رفقة أحمد الزاوي وعبد القادر حشاني وعلي بن حجر ومن وجوه الموجة الثالثة من الطلبة بشير مصيطفى الذي أصبح وزيرا في حكومة عبد العزيز بوتفليقة الأخيرة. وعرفت هذه الجماعة إعلاميا باسم تيار الجزأرة، وتنسب التسمية إلى الراحل محفوظ نحناح الذي كان يعتبر الجماعة قريبة من السلطة ولا علاقة لها بالتوجه الإسلامي الأصيل، وكانت هذه التسمية من باب القدح، والإستخفاف.. باعتبار أن هذه الجماعة لم تكن موالية لجماعة الإخوان العالمية، وكانت تراهن على إسلام محلي واستقلالها عن كل المراكز الكبرى التي كانت جماعة الإخوان تشكل نواتها الصلبة، وكانت جماعة الجزأرة قريبة كما تقول في
أدبياتها من فكر الإصلاحي عبد الحميد بن باديس، والفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي الذي لم يكن يحظى بود الإخوان المسلمين القطبيين على حد سواء، وتزامن اتساع رقعة جماعة الجزأرة مع انشقاقات عن التنظيم الأم، الإخوان المسلمين الذي أفرز عدة تنظيمات راديكالية مثل جماعة المسلمين أو الهجرة والتكفير، وجماعة الجهاد في المركز المصري وكانت نشريات هذه الجماعة تسعى لأن تكون امتدادا لمجلتي “القيم” و “التهذيب الإسلامي”.
وبالرغم أن جماعة الجزأرة كانت تحرص على النشاط السلمي والإبتعاد عن المتسرعين لإعلان الجهاد والدخول في صراع مكشوف ضد السلطة إلا أنها تراجعت عن حذرها ومنهجها السري عندما تم اغتيال طالب
جامعي في ليلة 2 نوفمبر عام 1982 بالحي الجامعي بابن عكنون وذلك إثر الصراع على الأخذ بزمام الأمور للجنة الحي الجامعي ذكور، وكان الطالب الجامعي كمال أمزال، الطالب في معهد اللغات الأجنبية أحد النشطاء المناوئين لهيمنة الطلبة الإسلاميين على نشاطات الحي الجامعي الذين رفضوا تجديد الإنتخابات وراحوا يفرضون رؤيتهم الأحادية والمتصلبة على الطلبة.. اغتيل كمال أمزال عندما كان هذا الأخير يهم بإلصاق منشور داخل نادي الحي يدعو فيه الطلبة لجمعية عامة على يد إسلامي دخيل على الجامعة بضربة سيف، لكن في اليوم التالي وبعد التدخل المتأخر لقوات الأمن سارع الإسلاميون لنشر خبر مفاده أن أصحاب النزعة البربرية من العلمانيين والشيوعيين قاموا باغتيال أحد الإسلاميين، ولقد جاب الخبر المشوه كل أرجاء الوطن وكان ذلك ضمن حملة الدعاية التي أراد الإسلاميون من خلالها كسب عاطفة الرأي العام، وكان عباسي مدني وعناصر من جماعة الجزأرة ممن روجوا لمثل هذا الخبر في الجوامع والمساجد والمصليات ووجد نشطاء جماعة الجزأرة الفرصة مواتية لأن يستعرضوا قواتهم ويختبرون من جديد السلطة في التعامل معهم، فأقاموا تجمعا ضخما، حضره آلاف الإسلاميين من كل أنحاء الوطن بالجامعة المركزية، وقاموا بالتشاور مع وزارة الشؤون الدينية على تنظيم تجمعهم الضخم الذي لفت انتباه السلطات على مدى قوتهم المتنامية والمتسارعة وعلى مدى الخطر الحقيقي الذي أصبحوا يشكلونه على نظام الشاذلي بن جديد الذي ظن أنهم قاب قوسين ليكونوا في جيب السلطة.
كان التجمع بتاريخ 12 نوفمبر 1982 بالجامعة المركزية، في يوم جمعة، ولقد تناول الكلمة الدكتور عباسي مدني الذي قدم البيان المتكون من 14 بندا، ليتلوه كلالشة سليم بصوته الجهوري، وتناول الكلمة أيضا مصطفى براهمية الذي أشار إلى حوادث ابن عكنون وكذلك محمد السعيد.. وجاء في البيان ما يلي:
«في ضوء الأحداث الأخيرة التي تعرض لها شبابنا المؤمن من إرهاب واختطاف وسجن وتعذيب وتعرضت لها بيوت الله في الأحياء الجامعية ابن عكنون وتيزي وزو وغيرهما والتي لم تكن الأولى ولا الأخيرة من نوعها، وكذلك المساجد في كثير من المؤسسات التربوية كالثانويات والتكميليات أو المؤسسات العمالية في بعض المصانع والإدارات، هذه الأحداث لا شك أنها كانت بتدبير من الشيوعية العالمية والماسونية واليهودية والإمبرالية الأمريكية لمساعدة عملائهم دعاة الشيوعية والعنصرية والبعثية… الغرض منها توريط الدولة عن طريق استخدام أجهزتها في تنفيذ خطتهم ذات الصلة المباشرة بالمذابح الرهيبة التي تعرض لها المسلمون في لبنان وفلسطين وغيرها من دول العالم الإسلامي، إن تسخير الدولة في خدمة المستعمر لضرب ديننا الحنيف وتهديد وحدة وطننا والمس بكرامة أمتنا لاعتداء صريح على سيادتنا وشخصيتنا، لأن هدم المنشآت العمرانية لأهون من قتل الضمائر وهدم الشخصية والقضاء على حرب الاعتقاد وتثبيط عزيمة الأمة وإرادتها الخيرة التي تعتبر العامل الرئيسي لبناء حضارتنا وحمل رسالة الإسلام هداية ربانية في عالم طغت عليه النزعات المادية، إن الجزائر المسلمة إذا كانت قد حظيت بنسمات طيبة في ربوع البلاد في الحقبة الأخيرة جعل الأمة تتطلع إلى تصحيح أخطاء ما كانت الجزائر لتقع فيها لو سلكت فيها سبيل الرشاد على ضوء الكتاب والسنة”، ويضيف البيان الذي سمي ببيان النصيحة “نظرا لخطورة الموقف فإن التعاون المشترك بين العناصر الطيبة في الأمة أصبح أمرا لا بد منه وأي تهرب من المسؤولية من أي طرف يعد خيانة كبرى للإسلام والوطن، وجود هذا التعاون لا يتوفر في اعتقادنا إلا في ظل العودة الصادقة إلى الإسلام لنلح على الإسراع بالبت في القضايا التالية:
1ـ وجود عناصر في مختلف أجهزة الدولة معادية لديننا، متورطة في خدمة عدونا الأساسي، وعملية تنفيذ مخططاته الماكرة، الأمر الذي ساعد على إشاعة الفاحشة وضياع المهام والمسؤوليات على الدولة وغيرها..
2ـ تعيين النساء والمشبوهين في سلك القضاء والشرطة وغياب حرية القضاء وعدم المساواة في الأحكام لهو هدم للعدالة التي لا أمن ولا استقرار بدونها..
3ـ تعطيل حكم الله الذي كان نتيجة حتمية للغزو الإستعماري واحتلاله للبلاد الذي لم يعد له مبرر اليوم بعد عشرين سنة من الإستقلال فلا بد من إقامة العدل بين الناس بتطبيق شرع الله.
4ـ حرمان المواطن من حريته وتجريده من حقه في الأمن على نفسه ودينه وماله وعرضه وحرية التعبير عنها لهو اعتداء على أهم حقوقه ومبررات التزاماته بواجباته الشرعية والأخلاقية.
5ـ عدم توجيه تنميتنا الإقتصادية وجهة إسلامية رشيدة بإزالة كل المعاملات غير الشرعية، وتيسير السبل الشرعية، لاكتساب الرزق من زراعة وتجارة وصناعة وتسوية الناس في فرص الإستفادة من خيرات البلاد بدون تمييز..
6ـ تفكيك الأسرة والعمل على انحلالها وإرهاقها بالمعيشة الضنكة كانت سياسة بدأتها فرنسا وبقيت تمارس حتى اليوم بالإضافة إلى محاولة وضعها على غير الشريعة الإسلامية تحت شعار نظام الأسرة..
7ـ الإختلاط المفروض في المؤسسات التربوية والإدارية والعمالية انعكست نتائجه السيئة على المردود التربوي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي حتى صار يعطي مؤشرا خطيرا على سرعة الإنحدار الخلقي والحضاري.
8ـ الرشوة والفساد الممارسان في المؤسسات التربوية من المدرسة إلى الجامعة والإدارة وغيرها مرض بيروقراطي لاأخلاقي خطير لا يسلم مجتمع إلا إذا تخلص منه.
9ـ تسوية مفهوم الثقافة وحصره في المهرجانات الماجنة اللاأخلاقية عرقل النظام التربوي وحال دون توصله إلى إبراز المواهب والنبوغ والكفاءات التي تفتقر إليها البلاد للتخلص من الوضعية الثقافية المفروضة علينا.
10ـ إبعاد التربية الإسلامية وتفريغ الثقافة من المضمون الإسلامي زاد في تعميق الهوة واستمراريتها..
11ـ الحملة الإعلامية المسعورة للإعلام الأجنبي والوطني لاستعداء الدولة على الدعوة والصحوة التي تهدد مصالح الدوائر الإستعمارية في بلادنا..
12ـ إطلاق سراح الذين اعتقلوا دفاعا عن أنفسهم ودينهم وكرامتهم..
13ـ فتح كل المساجد التي أغلقت في الأحياء الجامعية والثانويات والتكميليات والمؤسسات العمالية.
14ـ عقاب كل من يتعدى على كرامة أمتنا وعقيدتها وشريعتها وأخلاقها وفق الحدود الشرعية الإسلامية”.
ولقد أمضى البيان التاريخي للإسلاميين كل من الشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد اللطيف سلطاني والدكتور عباسي مدني..
كان هذا الاستعراض المشهدي للقوة بمثابة الصدمة التي قضت مضجع الشاذلي بن جديد ومستشاريه.. لم يكن يتصور أن الإسلاميين في مثل هذا الوقت الوجيز يتجاوزون الخط الأحمر الذي كان يظن أنه قد رسمه لهم.. وفي جلسة مغلقة من القادة الأمنيين والمستشارين وصل الشاذلي بن جديد إلى قناعة مفادها أن يضرب بيد من حديد هذا التجاوز الذي قام به الإسلاميون، فتقرر إلقاء القبض أسبوعا بعد التجمع الضخم في الجامعة المركزية على النشطاء الإسلاميين ومن بينهم العناصر المنتمية إلى جماعة الدعوة والتوحيد التي كان يشرف عليها أمير سيدي بلعباس محمد عثمان، كما تم وضع عبد اللطيف سلطاني صاحب كتاب “سهام الإسلام” الذي دعا صراحة إلى الجهاد ضد النظام القائم واعتبر أن شهداء ثورة نوفمبر ليسوا بالضرورة شهداء في سبيل الله إن كانت نواياهم متعلقة فقط بتحرير البلاد من المستعمر وهكذا أعطيت الأوامر لسحب كتاب “سهام الإسلام” من المكتبات وشنت في جريدة المجاهد الحكومية حملة شعواء على الشيخ عبد اللطيف سلطاني دعمتها بيانات التنديد بالكتاب وصاحبه صدرت عن الإتحاد العام للعمال الجزائريين ومنظمة الإتحاد النسائي ومنظمة اتحاد الشبيبة الجزائرية.. وكذلك تم وضع الشيخ أحمد سحنون تحت الإقامة الجبرية، وزج بالدكتور عباسي مدني، وعلي بن حاج، وعبد الله جاب الله أمير الإخوان المحليين بالشرق في السجن، كما اعتقل العشرات من الطلبة الإسلاميين وحوكموا في قضية اغتيال الطالب كمال أمزال..
وأمام حملة الاعتقالات التي تعرض لها نشطاء تيار الجزأرة وعدد من نشطاء تيارات الإسلام السياسي، جددت المجموعات التي كانت ملتفة حول مصطفى بويعلي نقدها لتوجهات تيار الجزأرة ولمواقف العلماء الدينيين الذين رفضوا تزكية السبيل الذي كان يريد مصطفى بويعلي انتهاجه، وهو السبيل المسلح والدخول في حرب عصابات ضد النظام ورموزه، وتوصلت المجموعات الموالية لنهج مصطفى بويعلي الجهادي إلى أن الشاذلي بن جديد لا يختلف عن سابقه هواري بومدين، إنهما وجهان لعملة واحدة يتركز هدفهما على تصفية الجيوب الإسلامية وتصفية الهوية الإسلامية للجزائر وذلك بالاعتماد على رجال الدين أنفسهم الذين رضوا بالخضوع إلى الحكام.. ومن هنا كان الحل الوحيد والأوحد للتخلص من الانحطاط والانحراف يتمثل في تكرار عملية نوفمبر تاريخية أي اللجوء إلى السلاح.. وهذا ما جعل مصطفى بويعلي ينكب على تشكيل جهاز عسكري أشبه من حيث البناء والهيكلة بجيش التحرير وذلك بالإعتماد على تجربته الشخصية في حرب التحرير، فلقد كان مصطفى بويعلي من أوائل الذين التحقوا بحرب التحرير في المنطقة الرابعة ولقد ترقى أثناء حرب التحرير إلى رتبة رقيب، ليجد نفسه بعد أزمة صيف 1962 التي كانت وجها من وجوه الصراع على السلطة ينخرط في صفوف حزب القوى الإشتراكية (الأفافاس) الذي رفع السلاح في وجه حكومة أحمد بن بلة الذي كان يوصف من طرف رفاقه السابقين بالمستبد والديكتاتور، لكن سرعان ما عاد مصطفى بويعلي إلى صفوف حزب جبهة التحرير بعد الفشل الذي مني به آيت أحمد ومحند أوالحاج، عندما اختار طريق المعارضة المسلحة.. وبالرغم أن مصطفى بويعلي تراجع عن فكرة المعارضة المسلحة بمحاولته في التقدم كمرشح في انتخابات البرلمان في منتصف السبعينيات إلا أنه وجد نفسه مغضوبا عليه من حزب جبهة التحرير بحيث أقصي اسمه من اللوائح إلا أن الفكرة عادوته من جديد، لكن هذه المرة من خلال إحداث القطيعة مع حزب جبهة التحرير والإنتقال بشكل راديكالي إلى إيديولوجية أخرى.. وهي إيديولوجيا الإسلام المسلح..
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/45970——6—–2-.html
==========
سنوات الشاذلي بن جديد : 7 بويعلي يتمرد (1)
الأربعاء, 17 أكتوبر 2012 19:20
أسابيع قبل اعتقاله على إثر المشادات التي جرت بينه وبين عباسي مدني، كان استقبل بمعقله بسيدي بلعباس، أول مساعدي مصطفى بويعلي، الشاب أحمد مراح الذي كلف من طرف بويعلي بالاتصال مع نشطاء الحركة الإسلامية في منطقة الغرب والشرق الجزائريين الذين كانوا مقتنعين باستعمال القوة والانخراط في النشاط المسلح… يقول سي عثمان محمد “… التقيت مع أحمد مراح في بيتي، وسط مدينة سيدي بلعباس، وكان رفقتنا بشير فقيه، وعبد الحق ديب ومحمد منور، واستمر نقاشنا إلى غاية ساعة متأخرة، وأيام بعد لقائنا مع أحمد مراح الذي سينقلب فيما بعد علينا وعلى مصطفى بويعلي، بحيث هو من قام بالتحقيق معي لما تم القبض عليّ ومع باقي الإخوة الذين استقبلوه في سيدي بلعباس، أن التقي بمصطفى بويعلي، وبالفعل توجهت إلى البليدة وكان لي لقاء مع محفوظ نحناح الذي لم يكن متحمسا لمثل هذا التوجه، واعتبر ذلك مغامرة غير محمودة العواقب
انتظرت يومين، والتقيت لأول مرة بمصطفى بويعلي الذي كان يعيش في سرية بإحدى المزارع ضواحي منطقة الأربعاء.. وفاتحني إن كنا وجماعتي على استعداد للانخراط في العمل المسلح، وسألني إن كان بحوزتنا المال والسلاح.. وعندئذ صارحته أننا نحضر لهذا اليوم المشهود منذ ثلاث سنوات أو أكثر، وبالفعل فلقد تمكنا من الحصول على بنادق من لدى عدد من المجاهدين في المنطقة الغربية، كما تحصلنا من عند بعض تجار المنطقة الغربية سيدي بلعباس، مستغانم، تلمسان على المال، كما أخبرت مصطفى بويعلي عن لقاءاتي بإخوة سوريين عرضوا علي مساعدة في تدريب عناصرنا وكذلك عن اتصالاتي ببعض الإخوة الذين كانوا ينشطون في جماعة الدعوة والتبليغ الذين عرضوا علي المساعدة المادية بالمال والسلاح وتدريب عناصرنا بالمنطقة الفرنسية نيس…”.
والسؤال الذي ظل يطرح بإلحاح، كيف انتقل مصطفى بويعلي من مناضل في جيش التحرير وجبهة التحرير ومرورا بجبهة القوى الاشتراكية إلى مؤسس تاريخ إحدى أقوى الجماعات الإسلامية الجهادية في تاريخ الجزائر؟ ما كان يعرف على مصطفى بويعلي أنه كان ذا مستوى متواضع في الثقافة الدينية، بل كان فرانكفونيا وذا ميولات نحو اليسار الشعبوي أكثر منه ميلا نحو الإيديولوجيا الإسلامية الراديكالية، مثل هذا السؤال الذي ظل يطرحه أكثر من مقارب على إطلاع على خبايا الحركة الإسلامية، يفتح الباب أمام فرضية أساسية، وهي، أن مصطفى بويعلي تم إدراجه داخل لعبة حبكت خيوطها في سرايا النظام والتي كان الشاذلي أو المقربون منه أحد نساجها.. فمصطفى بويعلي الذي كان يعيش حياته بعيدا عن أوساط الحركة الإسلامية سرعان ما سيكتشف عالم الإسلام باعتباره قوة روحية لكن أيضا سياسية، وحدها القادرة على إعادة الإعتبار لتضحيات الشهداء من أجل استقلال الجزائر وأيضا على إنقاذ الثورة الجزائرية من الإنحرافات التي شابتها وذلك منذ الإنقلاب الذي قامت به مجموعة وجدة وجيش الحدود الغربية ضد الحكومة المؤقتة التي كان يرأسها يوسف بن خدة، فبويعلي مصطفى لم يكن جهويا وهذا بالرغم أنه انضوى تحت راية جبهة القوى الإشتراكية عندما اختارت هذه الأخيرة طريق المعارضة المسلحة ضد مجموعة أحمد بن بلة التي استولت على السلطة بقوة السلاح، لكنه كان يشعر بالمرارة تجاه جماعة وجدة التي اتجهت بإقامة نظام الحزب الواحد، وأجهزت على الحريات، وأصبح كل من يعارضها يعد في قائمة المغضوب عليهم، وأدرك مصطفى بويعلي أن الإنقلاب الذي قاده الكولونيل هواري بومدين على رفيقه أحمد بن بلة لم يكن تصحيحيا لمسار الثورة، بل كان تثبيتا للسلطة الشخصية وللديكتاتورية خاصة بعد أن تمكن بومدين من القضاء على كل وجود في الحياة السياسية الناشئة للمعارضة بمختلف وجوهها التاريخية وأطيافها الإيديولوجية والسياسية.. ولقد انتبه مصطفى بويعلي أن الجزائريين في ظل عملية التصحير الإيديولوجي اتجهوا بوجدانهم نحو الإسلام باعتباره قوة أخلاقية قادرة على التجنيد وتعبئة الرأي العام.. وكان هواري بومدين يدرك ذلك جيدا، لذا فبالرغم أنه حاصر الإحتجاجيين الإسلاميين الذين كانوا ينتقدون توجهاته الإيديولوجية والسياسية مثل الشيخ العرباوي، وحويدق مصباح وعبد اللطيف سلطاني ظل محافظا بالإعتناء بالإسلام وذلك من خلال إقامة ملتقيات الفكر الإسلامية واستعمال الدعاية الدينية بالتحالف مع الجزء الموالي له من قدامى مناضلي جمعية العلماء المسلمين مثل الشيخ أحمد حماني الذي أصبح على رأس المجلس الإسلامي الأعلى، وعبد الرحمان شيبان الذي سيصبح مفتشا في التربية ووزيرا فيما بعد للشؤون الدينية.. وكان لقاء مصطفى بويعلي بشاب كان يقيم بفرنسا وجاء إلى الجزائر لأداء خدمته العسكرية حاسما ومنعرجا كبيرا في حياته الروحية والسياسية، وكان هذا الشاب يدعى عبد الهادي دودو، وهو أصيل منطقة الجنوب بالوادي.. كان مزدوج اللغة، وفصيحا باللغة العربية، تتوفر فيه كل سجايا الخطيب، استمع إليه مصطفى بويعلي لأول مرة في مسجد الأرقم الذي كان يشرف عليه خطيب الشيخ أحمد سحنون وأتباعه من جماعة الجزأرة وعلى رأسهم محمد السعيد، وكان عبد الهادي مقربا من علي بن حاج الذي بدأ نجمه يبزغ في تلك الفترة، عرض عليه مصطفى بويعلي أن يصبح إماما خطيبا بمسجد العاشور الذي كان مصطفى بويعلي يتولى رئاسة لجنته، وسرعان ما أصبح مسجد العاشور بؤرة ومعقلا حقيقيا لتيار الإسلام الراديكالي الذي أخذ على عاتقه بناء وبلورة خطاب جديد مختلف عن خطاب الإخوان المسلمين المسالم تجاه السلطة، لقد تحول مسجد العاشور إلى جهاز حقيقي منتج لخطاب لكن أيضا لسلوكات جذرية ونقدية لسلطة الشاذلي بن جديد التي اتهمت بالفساد والترويج لقيم غربية معادية للإسلام ولعقائد الجزائري الدينية.. وعندما غادر عبد الهادي الجزائر عائدا لفرنسا، خلفه مصطفى بويعلي ليتولى منبر الخطابة، وكان هذا الأخير تمكن في وقت وجيز من تحسين لغته ومعلوماته ووظف بذكاء لكنته القبائلية في إنتاج خطاب له خصوصيته وكان بالفعل خطابا بسيطا مباشرا وراديكاليا، وهذا مما أعطاه سمعة جماهيرية وبعدا شعبيا بحيث أصبح مسجد العاشور منبرا حقيقيا لكل الساخطين والمتذمرين من سياسة خليفة بومدين التي وصفت بالنفاق وبمحاولة خداع المؤمنين والمخلصين للوطن والدين.. ظلت التقارير المعدة من طرف أجهزة الأمن تصل إلى مكتب الرئيس تباعا وكانت كلها تنصب حول ضرورة إيقاف هذا الرجل الذي أصبح يهدد الأمن العام، لكن الشاذلي بن جديد لم يكن متحمسا لاستعمال اليد الفولاذية، فبدا له ذلك مبكرا وغير مفيد، خاصة وأنه لم يكن ينظر بعين راضية لليسار الممثل في حزب الطليعة الإشتراكية حتى وإن كان هذا الأخير عبر من خلال لسان حاله، “صوت الشعب” عن دعمه للتوجهات الجديدة، وأيضا لما يحدث في منطقة القبائل، وفيما يبدو أن مصطفى بويعلي قد تلقف الرسالة من خلال بعض رفاقه من قدامى المجاهدين الذين أسروا له أن الشاذلي بن جديد ينوي لكن خطوة خطوة التخلص من كل من يقفون حجر عثرة لأسلمة الدولة، فأقبل مصطفى بويعلي على عملية جديدة تمثلت في إنشاء “مجموعة النهي عن المنكر” وهي عبارة عن شرطة إسلامية موازية لجهاز الأمن الرسمي، بحيث راحت تقوم بحملات تأديبية ضد محلات بيع الخمور، ودور الدعارة وضد الاختلاط في الحدائق والأماكن العمومية وداخل بعض المؤسسات التابعة للدولة، أثار مثل هذا التحدي قلاقل وتذمرا داخل الأجهزة، وهذا ما دفع ببعض الجهات داخل السلطة إلى محاولة توقيف مصطفى بويعلي بتاريخ 10 أكتوبر، داخل وحدة سونيليك العاشو حيث كان على رأس “وحدة الصحة والأمن” وباءت محاولة توقيفه بالفشل عندما تمكن مصطفى بويعلي من الهروب وبالتالي دخل السرية، وأضفى عليه ذلك مسحة أسطورية باعتباره ملاحقا من قبل الأمن.. وعُرفت هذه القضية بقضية العاشور، وسعى الإسلاميون الراديكاليون إلى استثمارها في خطب الجمعة بمسجد العاشور وفي مساجد أخرى على مستوى التراب الوطني، مثل مساجد السلام، والأرقم وعثمان بن عفان في سيدي بلعباس، وفي مساجد ورڤلة، وسطيف وقسنطينة.. تدخل رفاق مصطفى بويعلي في منظمة المجاهدين لدى مدير الأمن القوي حينذاك، الهادي لخضيري الذي كان محسوبا على التيار الليبرالي من أجل إيجاد حل وتسوية، ولم يجد الشاذلي من بأس لإعادة المياه إلى مجاريها، وهكذا شعر يوسف يعلاوي الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين بالرضا والإطمئنان ونظم لقاء سريا بين مصطفى بويعلي ورجل الأمن القوي الهادي لخضيري الذي منحه ضمانات من خلال اتفاق غير مكتوب ليواصل “نشاطاته الدعوية” لكن بشرط ألا يخل بالنظام العام وألا يتناول بالنقد المباشر شخص رئيس الجمهورية في خطاباته أيام الجمعة.. لكن هذا الإتفاق لم تنظر إليه الإستخبارات العسكرية والتي دخلت وقتها في حرب خفية ضد المديرية العامة للأمن الوطني التابعة لوزارة الداخلية وبالتالي المقربة من دوائر الرئاسة بعين الرضا، لقد اعتقدت أن ثمة لعبة تنسج خيوطها من خلال مجموعات الإسلام الراديكالي ضدها خاصة بعد أن ظهر مصطفى بويعلي من جديد على الساحة أكثر قوة واعتدادا بالنفس في عدة مساجد بالجزائر العاصمة عندما هاجم بشكل مباشر مصالح الأمن العسكري التي اتهمها بممارسة التعذيب وغلق الأفواه والاعتداء على شرف الجزائريين.. وقادت المحاولة التي باشرتها مصالح الأمن العسكري لتوقيف مصطفى بويعلي من جديد باسم تهديده للأمن العام إلى مصرع أخ مصطفى بويعلي، وهذا ما دفع بهذا الأخير إلى العودة مجددا للسرية، والدخول في مرحلة أكثر حسما وجذرية تمثلت في إنشاء “الحركة الإسلامية المسلحة” وكان من أهدافها الرئيسية إقامة دولة إسلامية عن طريق الجهاد المسلح.. وفي بيان التأسيس الذي سجله مصطفى بويعلي في شريط سمعي تم توزيعه في المساجد والأحياء الشعبية، أعلن مصطفى بويعلي عن الجهاد ضد النظام الحاكم العسكري الفاسد، وطالب الجزائريين الشرفاء بالالتحاق بحركته المسلحة الجهادية وذلك من أجل إقامة الدولة الإسلامية التي كانت من أهداف ثورة نوفمبر 1954، كما طالب الشرفاء من رجال الشرطة والدرك ورجال القضاء التخلي عن النظام، وحذر كل من يظل مرتبطا بالدفاع عن النظام “الطاغوتي والمستبد” هو في عداد المرتدين، وكل مرتد يقتل كما قال في البيان التأسيسي للحركة الإسلامية المسلحة، كما وصف في نفس البيان شخصيات دينية، مثل الشيخ محمد الغزالي بعلماء السلطان والخونة لقضية الإسلام ونعتهم بالمرتشين وإخوان الشياطين… كاد الشاذلي بن جديد أن يفقد عقله من شدة الغضب وهم يضعون على مكتبه الشريط التأسيسي للحركة الإسلامية المسلحة، وهو يصغي إلى تلك الأوصاف والنعوت القاسية التي وصفه بها مصطفى بويعلي، وربما لأول مرة كما يقول أحد مستشاريه المقربين تسربت الشكوك إلى نفسه حول مدى صدقية الإسلاميين ووفائهم، وبدا وكأنه أصيب بخيبة أمل مريرة، يقول لي هذا المستشار “كانت الساعة حوالي السادسة مساء عندما استدعاني الرئيس إلى مكتبه، والغضب ظاهر على ملامحه، وقال لي، ماذا تريد هذه الجماعة.. ألم تقولوا لي، أنهم كانوا يشعرون بالرضا والسعادة على ما وفرته لهم من أمان وحرية..؟! ألم أخلصهم مما كانوا يعانون منه من ظلم واضطهاد في وقت الهواري..؟! ثم من يكون هذا بويعلي ليجرّح في شخصية عالم كبير، مثل الشيخ محمد الغزالي؟!!” أعطى الشاذلي بن جديد الضوء الأخضر لمصالح الأمن أن تضرب بقوة وبدون تهاون كل من يريدون إشعال نار الفتنة في الجزائر..
حاول مصطفى بويعلي أن يكثف من اتصالاته بالدعاة والعلماء الدينيين والناشطين ليزكوا حركته ومن بينهم العرباوي وأحمد سحنون وعباسي مدني وعلي بن حاج.. لكنه لم يجد أذانا صاغية، إلا من الشيخ الشاب علي بن حاج الذي تم القبض عليه بتهمة الانتماء إلى جماعة مصطفى بويعلي… شرع مصطفى بويعلي في تأسيس الفروع للتنظيم الجديد المسلح والحصول على الأسلحة اللازمة.. وفي شهادة عن أخيه يروي محمد بويعلي للصحفي الأمريكي روبرت فيسك فيقول:
«أصبح مصطفى بويعلي في حالة فرار وبدأ بإجراء اتصالات من أجل العمل العسكري، تحدث إلى معظم العلماء.. إلى الشيخ نحناح وعلي بن حاج والشيخ أحمد سحنون وعباسي مدني ـ وقال إنه سيلجأ إلى العمل العسكري وإن عليهم التحدث في المساجد.. والتقى مئات من أصدقائه الفدائيين القدامى في الجبال.. وشكل منهم مجموعات مسلحة، كما اتصل بشباب باب الواد وبدأ يصنع قنابل”، ويضيف “في أواخر 1982 أطلق بويعلي النار على ضابط شرطة وجرحه عند نقطة تفتيش على الطريق فتحركت الحكومة ضد أنصاره جميعا، وجرى اعتقال 47 منهم بين منتصف ديسمبر وبداية جانفي 1983، و 103 آخرين في ماي.. وفي السنوات التالية لجأ بويعلي إلى عمليات السلب لجمع الأموال، وقامت الحركة الإسلامية المسلحة بمهاجمة كلية الشرطة للحصول على الأسلحة، وركزت حركة بويعلي المسلحة على عمليات هي أشبه بالعمليات التي انتهجها جيش التحرير عشية أول نوفمبر 1954، فتمثلت العملية الأولى في الإستيلاء على كمية متفجرات من مقلع كاب جنات، كان ذلك في نوفمبر 1982 وشارك فيها مصطفى بويعلي، أحمد مراح، عبد الكريم رمضان، عبد العزيز عوالي وعمر فرّاح، وكانت الخطة المعدة للتوسيع من نشاطات الحركة الإسلامية المسلحة تتمثل في اغتيال عدة مسؤولين سامين منهم الوزير الأول في حكومة الشاذلي بن جديد أحمد بن عبد الغني ومسؤول حزب جبهة التحرير محمد الشريف مساعدية والمسؤول الأول على الناحية العسكرية الأولى العقيد عطايلية، بالإضافة إلى تفجير مطار هواري بومدين الدولي ومقر حزب جبهة التحرير ومبنى الإذاعة والتلفزيون الجزائري وفندق الأوراسي ومقر جريدة المجاهد الحكومية.. ومن وجهة نظر رسمية جاء في قرار الإحالة أنه بتاريخ 5 جانفي قدم قسم الأبحاث التابع للدرك الوطني بالجزائر العاصمة مجموعة، عددهم 47 متهما أمام النيابة العامة بمجلس أمن الدولة… وحسب ما أتى في التحقيق فسبب تحريك هذه القضية هو الإعتداء المسلح الواقع في 17 / 11 / 1982، بالمكان المسمى مونكادا بابن عكنون من طرف بويعلي مصطفى ومراح أحمد وبن رمضان عبد الكريم الذين أطلقوا نار رشاشاتهم على الدركيين القائمين بمراقبة المرور، عندما قام هؤلاء بمراقبة وثائقهم..” وتوصلت الوثيقة إلى أن “هذه المنظمة بدأت أولى نشاطاتها في 1979 وهو التاريخ الذي سلم فيه أحد عناصرها رايت كمال مبلغ 5000 دج للمسمى سريد محمد قصد شراء بندقية رشاشة، وكان لهذا الأخير أن انتقل إلى دوار الزارمة بولاية برج بونعامة واشترى من بوقصة محمد السلاح، وما بين بداية سنة 1981 إلى شهر أفريل 1982 كان بويعلي مصطفى يلقي دروسا دينية يتطرق فيها إلى الكلام عن بعض الأوضاع كالتبذير والآفات الإجتماعية الأخرى وبعث الشباب على أن يلتفوا حول ما يسميه بمجموعة تغيير المنكر، ومن بين أنصاره المجتهدين لإنجاح الخطة نجد بوسنينة محمد المدعو حمودي وبن ميرادي محمد ومراح أحمد وبن رمضان عبد الكريم ومغني عبد القادر وشارف محي الدين الذين كانوا يحضرون هذه الدروس…. وابتداء من أفريل 1982 اختفى بويعلي مصطفى وكلف بوسنينة محمد بتنظيم لقاءاته ببساتين واد الرمان مع أعضاء المنظمة الذين وزعوا كالتالي: المجموعة الأولى المسماة بالجزائر الساحل وأعضاؤها: بوسنينة محمد وشارف محي الدين وبن ميرادي محمد والمجموعة الثانية المسماة بمجموعة المتيجة وأعضاؤها مصطفى بويعلي وبويعلي محمد وبن رمضان عبد الكريم…”.
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/46085——7—1-.html
==========
سنوات الشاذلي بن جديد: 8 بويعلي يتمرد (2)
الأحد, 21 أكتوبر 2012 23:23
يصف الضابط السابق في الإستخبارات الجزائرية خلال الثمانينيات والكاتب الصحفي فيما بعد، عيسى خلادي الكمين الذي نصبته قوات الأمن المشتركة لأمير الحركة الإسلامية المسلحة يوم 3 فبراير من العام 1987 بهذه السطور “كان يوما شديد المطر، وكان الوقت ليلا، وكان بويعلي يفضل تناول العشاء قبل السفر إلى بلدة بوڤارة، (الروفيڤو سابقا، وهي ضاحية بمدينة البليدة)، ومن المكان الذي كان مختبئا فيه، وهي بلدة الأربعاء كان بويعلي قادرا على تحسس الطريق الضائع في الظلام في الأسفل على بعد بضع مئات من الأمتار كان الطريق الصغير يفضي إلى الطريق الوطني.. وعند المفترق، في ظل الغابات والأشجار ومختلف العوائق الأخرى، كان عشرات من الرجال بالبزة العسكرية وباللباس المدني، والمسلحين حتى الأسنان ينتظرون الإشارة بصبر وصمت، هذه الإشارة كانت إضاءات يطلقها العميل، سائق الشاحنة التي كان على متنها أمير الحركة الإسلامية المسلحة، فجأة رأوا الكتلة السوداء من جنود الإستطلاع تعبر الطريق ببطء، ثم أضاء العميل، مرة، مرتين، ثلاث مرات.. عندئذ انهمرت الطلقات النارية من كل الجهات، أصيبت شاحنة بويعلي برصاصات خارقة، وعلى الفور قتل بويعلي والعميل وكل المجموعة تقريبا، وكذلك قتل ضابط شرطة”.
وفي رواية أخرى، ذكر لي طيب عمامرة في مقابلة أجريتها معه في العام 2011، أن العميل الذي انقلب على مصطفى بويعلي وتعاون مع الإستخبارات هو محفوظ حية المدعو بوعلام.. وكان هذا الأخير ناشطا إسلاميا مقربا من مصطفى بويعلي ومن النواة الصلبة لجماعته، وكان يثق في إقامة دولة إسلامية في الجزائر إلا أن إلقاء القبض عليه من طرف مصالح الأمن في 16 ديسمبر من العام 1982 وخشيته من تعرضه للتعذيب، جعله يلين لعملية غسل دماغ، يتهم أن من وقف وراءها هو الشيخ محفوظ نحناح، الذي سبق وأن زاره مصطفى بويعلي رفقة أصيل منطقة المتيجة زايت كمال الذي سيعود من جديد في التسعينيات إلى إنشاء خلايا إسلامية مسلحة، وكان وقتها الشيخ نحناح يعيش بين نارين، فهو من جهة كان ممتنا للشاذلي بن جديد الذي أصدر عفوا في حقه والعناصر التي كانت معه في السجن منذ 1975.. لكن أيضا كان يثق في نية الشاذلي بن جديد الذي كان جادا في عملية التخلص من اليساريين وأنصار الحركة الثقافية البربرية الذين كانوا يشكلون إزعاجا بالنسبة للشاذلي في بداية عهدته، وهو من جهة ثانية كان يحرص على ألا يستعدي قسما من الحركة الإسلامية التي كان قيادوها الجدد يستعجلون الوصول إلى السلطة، وعلى أقل تقدير الإستيلاء على مساحات معتبرة لصالح جماعات الإسلام السياسي.. ويقول عدد من الإسلاميين الذين كانوا مقربين من مصطفى بويعلي في جلساتهم، أن اللقاء الذي جرى بين المدعو بوعلام، سائق مصطفى بويعلي والشيخ محفوظ نحناح أمام أنظار وتحت رعاية قيادات في مصالح الأمن، بحيث كان لب الحوار، أن ما يسير عليه أمير الحركة الإسلامية المسلحة هو مضر أساسا وبالدرجة الأولى بمصلحة الإسلام والإسلاميين الذين يجدون الرعاية من طرف خليفة بومدين وكذلك يشكل بداية لفتنة لن يستفيد منها إلا أعداء الإسلام والإسلاميين، وهي إشارة صريحة لليساريين وأنصار الحركة الثقافية البربرية، ولقد منح نحناح ضمانا للمدعو بوعلام بأنه سوف لن يتعرض إلى مضايقات من طرف مصالح الأمن وهذا خاصة بعد عدم موافقة العلماء لخط مصطفى بويعلي.. وفيما يبدو أن محفوظ حية يكون قد اقتنع بنصيحة الشيخ محفوظ نحناح، خاصة وأنه كان قريبا كذلك من محفوظ نحناح الذي تربى في حركته التي كانت سرية في تلك الفترة على أن يتعاون مع مصالح الأمن.. ومن هنا أفرج عن محفوظ حية المدعو بوعلام، وعاد دون أن يلفت إليه أي شكوك من طرف مصطفى بويعلي الذي كان يوصيه على عائلته الصغيرة، ولقد أفاد محفوظ حية المدعو بوعلام بمعلومات ثمينة عن تنقلات بويعلي وعن مخابئه، ولم يكن العميل يظن أن بويعلي قد يتفطن إلى خيانته عندما أشار بالإضاءات إلى قوات الأمن، وهنا كما قال لي طيب عمامرة وهو أحد الذين حكم عليهم بالإعدام في قضية بويعلي، ثم شمله عفو الشاذلي بن جديد إلى جانب عبد القادر شبوطي ومنصور ملياني وعبد الرحمن حطاب وعز الدين باعة وغيرهم ممن مكثوا في السجن بعد مصرع مصطفى بويعلي، إن مصطفى بويعلي عندما شعر بالخيانة وجه مسدسه نحو العميل، وصرخ في وجهه “أيها الخائن” وما أن سدد طلقاته باتجاه رأسه حتى انهال الرصاص من كل الجهات على الشاحنة التي كان يمتطيها مصطفى بويعلي..
إن النهاية المأساوية التي عرفها مصطفى بويعلي، أثلجت صدور قطاع كبير من القادة الإسلاميين، ومن بينهم الشيخ محفوظ نحناح والشيخ بوسليماني اللذين التقيا مع مصطفى بويعلي ونصحاه بالتراجع عن الخيار المسلح، وهذا جعلهما يتلاسننان بلهجة غلبت عليها الحدة والإتهامات..
في نظر الشيخ نحناح، كان التوجه نحو العمل المسلح هو فخ حقيقي لم ينصب فقط لجماعة بويعلي بل نصب للإسلاميين من أجل دفعهم نحو العنف، وبالتالي تجريدهم من صدقيتهم وسحب البساط من تحت أرجلهم وذلك من خلال تقديمهم إلى الرأي العام الوطني والدولي كمجموعات إرهابية، وقد رجع قادة الإخوان في الجزائر إلى مرجعيات في المشرق فوجدوا التأييد والتشجيع على ألا ينخرطوا في لعبة العنف التي أودت بالمئات من الإسلاميين إلى السجون في مصر، وذلك منذ اغتيال النقراشي على يد نواة متشددة داخل الإخوان، ما جعل زعيمهم آنذاك، الشيخ حسن البنا يصدر بيانا يتبرأ فيه من متشدديه، تحت عنوان “ليسوا بإخوان، ولا بمسلمين”.. وإن كان البعض الآخر يرى أن ليلة مصرع بويعلي، “أغلب البيوت أصيبت بالصدمة، وخيم الصمت الثقيل على العاصمة الجزائرية، لأن بويعلي كان من قدامى مجاهدي الثورة الجزائرية الكبرى، وصاحب ماضي نظيف، وسجل ناصع لا يزال عالقا في أذهان الجزائريين، بكى بعض أبناء شهداء حرب التحرير على رجل كان يشملهم برعايته وعطفه وحنانه، وفي أحد بيوت حي القبة، أرملة وابن أكبر سمح له بعد ستة أشهر من الحجز الإجباري بمغادرة ثكنته العسكرية، وستة أولاد عاشوا سنة كاملة من الإقامة الجبرية، إنه بيت الشهيد مصطفى بويعلي، المناضل الذي انقلب على المؤسسة الحاكمة فغدا طريد عدالتها الإنقلابية” 1.
ويقول أحمد كرفاح، وهو من رجال بويعلي، وكان وقتها طالبا في كلية العلوم الإقتصادية “نحن لم نكن هاربين من القانون، كنا نريد الإصلاح والقضاء على الآفات الإجتماعية، وكان يراد اختطافنا ليلا والقضاء علينا دون أن يدري أحد… وهذا ما رفضناه وقاومناه”، ويضيف أحمد كرفاح بنفس الشهادة لجريدة المسار المغاربي، في ديسمبر 1990، “في بداية الأمر أعلنت الحكومة عن نيتها في إجراء حوار، ولو سريا مع جماعتنا، جاءنا أناس مكلفين من الحكومة للتحاور معنا، فطرحنا عليهم شروطا تتمثل في النقاط التالية:
1ـ إطلاق سراح الإسلاميين الذين اعتقلوا على إثر تجمع 12 نوفمبر 1982
2ـ السماح للدعاة بالنشاط العلني في المساجد
3ـ الكف عن الظلم
4ـ والبدء في عملية التغيير
وشددنا على أن كل السلاح الذي بحوزتنا هو جزائري، وليس من أية جهة أجنبية.. لكنهم رأوا في مطالبنا شروطا تعجيزية.. وذلك ما جعلهم لا يلوون إلا القوة وممارسة التعذيب، وأنا بدوري أشربت ماء المراحيض، ومورس علي التعلاق والكهرباء، وأجلسوني على يد مكنسة، ولما اقتدت إلى جانب إخوة لي إلى سجن البرواڤية، فرنسا التي دشنت هذا السجن لتعذب فيه الجزائريين، وضعت له النوافذ، أما الجزائر المستقلة فلقد أغلقت النوافذ بالآجر، وطيلة 27 شهرا لم يفتح باب الزنزانة التي كنت قابعا فيها”.
لقد أخذ بويعلي صورة أسطورية في مخيال مناصريه وأتباعه إثر مصرعه، وهذا ما جعل المفرج عنهم، 15 في عام 1989، بعد ظهور حركة الإنقاذ وسقوط نظام الحزب الواحد يقدمون أنفسهم للرأي العام على أساس أنهم مقاومون ومجاهدون في سبيل إقامة دولة إسلامية، وليسوا كما وصفتهم الصحافة الحكومية مجرد خارجين على القانون وإرهابيين.. ولقد وصفت مجموعة 15 المفرج عنها في بيان لها في الوقت أن الإفراج ما هو “إلا مجرد مناورة سياسية لتمرير قضايا سياسية أخرى” وفي نظر الجماعة “لا يمكن للسلطة الغاشمة التي أصابت كرامتنا وأنفسنا وأجسادنا أن تخدعنا بمثل هذا الإفراج المفاجئ” لذا يقول البيان “الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نعرف بها صدق السلطة وحسن نيتها في الإفراج، تتمثل في تحقيق المطالب التالية:
1ـ إعادة الإعتبار لعائلات الشهداء الذين سقطوا برصاص السلطة الجائرة، وعددهم 15 عائلة وإعالة أولادهم وذويهم بحكم أن السلطة هي المتسبب في كل ما وقع..
2ـ فتح المجال لكل إخواننا المتابعين في نفس القضية وهم الآن خارج الوطن دون قيد أو شرط..
3ـ إعادة الإعتبار لجميع الإخوة الذين سجنوا في قضية بويعلي وذلك بإزالة كل تزييف للحقائق وقلب الأمور رأسا على عقب، الذي جعل الرأي العام يصدق كل ما يقال في هذه القضية من كذب وزور، وخاصة قضية مصرع الحارس بوقزولة عشية الهجوم على مدرسة الشرطة بالصومعة..
4ـ متابعة كل من تورط بتعذيبنا تعذيبا وحشيا وانتهك حرمة نسائنا وأقاربنا واحتلال منازلنا وتدمير بعضها بمادة الديناميت
5ـ التعويض المالي لكل ضرر، مادي وأدبي، ورد جميع الممتلكات المصادرة ورد الحقوق جميعها بما فيها حق العمل وحق السكن وحق السفر..
كانت جماعة بويعلي تشعر بالنشوة والانتصار إثر أحداث أكتوبر 88 وسقوط نظام الحزب الواحد، وكان المناخ السياسي الذي أعقب الإعلان عن تعديل الدستور الذي كرس التعددية وميلاد أحزاب سياسية ذات طابع ديني يسمح للشاذلي بهذا العفو أن يكمّل خطته المتمثلة في الإنفتاح على الإسلاميين وتوظيفهم كورقة ضاغطة ضد خصومه من المتشددين في الأفالان الذين ظلوا إلى آخر لحظة يقاومون التعددية الحزبية لكن كذلك ضد حلفائهم من العسكريين الذين كانوا على رأس المؤسسة العسكرية والإستخبارات.. إن جماعة بويعلي لم تجد في نفسها أمام مثل هذه الأجواء أية رغبة أو ميل لأن تقدم اعتذاراتها للمجتمع عن السبيل المسلح الذي تبنته من أجل تحقيق مصالحها، ولذا نجد واحدا من عناصرها يروي وبكل فخر على أعمدة جريدة حكومية الماضي التبجيلي القريب لما قامت به جماعتهم منذ نهاية السبعينيات إلى غاية حلها وإلقاء القبض على أنصارها وعناصرها الذين كانوا يقدرون بـ 600 شخص ناشط.. يقول هذا الناشط (مصطفى حمزة) رفقة رفيقه لجريدة أضواء لـ 2 أوت 1989، (مصطفى معيزي) “أن قضية بويعلي كانت غامضة في بداية الأمر حتى بالنسبة لنا، وذلك خاصة بعد التصعيد الإعلامي الذي تلا فرار الشيخ بويعلي وهذا ما جعلنا نتوجه لشيخنا العرباوي كي نستفتيه في الأمر، فرد بكل صرامة كون القضية أكبر من الأشخاص وأن المهم في الحركة ذاتها، وهذا ما شجعنا على أن نواصل تحضيرنا الداخلي الذي حدده الدليل الذي أعده الشيخ بويعلي مصطفى والذي طلب فيه منا أن نعد العدة لعمل قاعدة كبير وسري بحيث لا يثير الشبهات في من ليسوا بمطاردين من قبل الأمن..” ويضيف رفيق بويعلي مصطفى معيزي قائلا “بعد تكوين المنظمة وقبول المخطط أو الدليل بدأت عمليات الإتصال بالإخوة في مدينة الأربعاء في حدود عام 1983، وهكذا دخلت عملية توسيع الحركة مجال التنفيذ والإتصال المباشر، ولذلك برمجنا لقاء الـ 22 الذي قسمنا فيه الإخوان إلى سبعة أفواج، تكلف البعض بالشورى، والبعض الآخر بجمع الأسلحة وهكذا، وعمل كهذا لا يمكن أن يفسر بالتخريبي، أبدا، إنه تنظيم داخلي محض وتخطيط لأهداف بعيدة المدى.. كانت حسب بويعلي إحداث نواة الدولة الإسلامية من المحيط إلى الخليج وللحكومة الإسلامية في الجزائر، ولذا أفهمنا الشيخ أن كل مسؤول فوج مطالب بوضع خطة عمله التي تقدم للجنة الإستفتاء التي تحدد هي وحدها فقط نجاعتها أم لا، وهذا بعد عرضها على العلماء..” في البداية يواصل مصطفى معيزي (لم نكن نفكر في مواجهة الدولة والسلطة، بل كنا مكلفين بالتحضير فقط وبصورة سرية بعيدا عن العنف واستعمال السلاح، وعندما وجدنا التقسيم وبصورته تلك لا يساهم إلا في عرقلة عملنا، غيّرنا خطتنا فقسمنا الجزائر إلى 10 مناطق وعلى رأس كل منطقة مسؤول أول مؤقت وجماعة ترافقه إلى تلك المنطقة، أين تبدأ عملية البحث عن الناس الصادقين الأكفاء الذين يكتمون السر، ويقبلون المساهمة في حركتنا، ومن بينهم يمكن أن نختار من نوليه المسؤولية، المسؤولية لم تكن هدفا في حد ذاته، بل لم نتجاوز إطار الوسيلة التي يمكن أن نعمل بها لا غير، خاصة وأن الظرف تطلب منا أن نباشر حياة جديدة في المناطق التي وضعنا فيها حتى نباشر عملية الإنتقاء والإتصال بالناس”، ويقول نفس الناشط حول الإستيلاء على الأموال من المؤسسات العمومية مثل حادثة عين نعجة “بادئ ذي بدء أؤكد أن الحركة لا تمت بأي رباط لأية جهة أجنبية كانت، حركتنا، هي حركة إسلامية جزائرية بحتة، نشاطها رغم كل الصعوبات موّل بمالنا الخاص، وبمساعدات الإخوة والأخوات اللواتي تبرعن بمجوهراتهن، لكن عندما تغير الأمر وطرحت مسألة تقسيم الجزائر إلى مناطق ونواحي، صارت عملية تمويل الخطة تطرح نفسها بإلحاح، الشيء الذي دفعنا إلى التفكير في مصدر مالي يضمن لنا نشر أفكارنا، ويضمن لنا الإستقرار في المناطق التي ننشئها، فوجدنا مؤسسة البناء لعين نعجة، وبالفعل وبتواطؤات معينة التي كان يعمل بها أحد رفاقنا وهو جعفر بركاني واستولينا على أموالها كلها وعندئذ اكتشفنا أن الإعلام الرسمي شن حملته علينا انطلاقا من هذه النقطة، ولقد كنا متفهمين أن هذه الأموال هي أموال الدولة وليست أموال الشعب، لأنها لم تصل بعد إلى العامل.. ولقد كان من المقرر أن تصل كمرتبات ومنح عيد الأضحى، لكن الفرق هو كون هذه الأموال في الشركة، ولنسأل العمال إن هم لم يتقاضوا مرتبات ذلك الشهر، ثم لنسأل الدولة عن تبذيرها للمال العام.. نحن لم نأخذ المال من جيب المواطن والعامل، بل أخذناه من المصدر الذي لم يستطع حمايته، ولم يحمِ يوما المال العام، هنا الفرق، والفتاوى صريحة في هذا الشأن، وفيما يتعلق بالهجوم على ثكنة الصومعة للشرطة يوضح معيزي مصطفى أن الظروف هي التي أملته، في حين يسرد أحد رفاقه قصة الهجوم على الصومعة على أعمدة جريدة المنقذ لسان حال الجبهة الإسلامية للإنقاذ وذلك في عددها المؤرخ بـ 11 أكتوبر 1990، فيقول “.. في ليلة دامسة من ليالي صيف 1985، وفي عمق جبال تابلاط، كانت منطقة سوحان على موعد مع التاريخ باحتضانها مجموعة صغيرة من أبناء الحركة الإسلامية المسلحة… ولئن كانت هذه الثلة المؤمنة قليلة العدد، فمسعاها كان عظيما، يكفيها فخرا، أنها قادت معارضة مشرفة لأنها كانت ترفع الإسلام شعارا لها، تخوض به معركة لا ترحم وعنيدة لا تلين، قوية قوة جبال تابلاط، وربوع هذا الوطن، المجاهد مصطفى بويعلي الشهيد، محمود، محمد، الملياني، عبد القادر، جعفر بركاني، معمر العيد، رابح.. أو عبد الله، ماحي، الإمام عثمان.. سليمان، عبد النور، حمزة سيد علي، سبعة عشر (17) رجلا اجتمعوا على كلمة سواء، الإستحواذ على السلاح، اللغة الوحيدة التي يفهمها النظام المهترئ.. بعدما قمنا بضبط مهام العملية والإجراءات المفضية إلى نجاحها، تحرك موكب الشهادة صوب مدينة بوڤرة، مرورا بمدينة الأربعاء عبر مسالك لا يراقبها الدرك وعلى متن سيارتين تجاريتين من نوع فولسفاڤن في حال جيدة وسيارة ثالثة من نوع مازدا تجارية تنقل على متنها بقية العناصر… وعند الوصول إلى مدينة بوڤرة وعلى بعد عدة كيلومترات من ثكنة الصومعة وقف الركب وهناك أوقفت سيارة مازدا وركب الجميع سيارتي فولسفاڤن، ربما للوقت وتحسبا لكل طارئ، وكان الشهيد مصطفى بويعلي كعادته، في كل عملية يتفقد إخوانه للتأكد من أن الجميع على أتم الإستعداد نفسيا، وجسديا، وكذلك كان الحال..
احميدة عياشي
http://www.djazairnews.info/bloknote/46307—–8—2-.html
==========
سنوات الشاذلي بن جديد: 9 بويعلي يتمرد (3)
الثلاثاء, 23 أكتوبر 2012 18:47
“… وتكفل بالإشراف على عملية الهجوم على ثكنة الصومعة من ألفها إلى يائها عبد العزيز لحويج المدعو سليمان كما كلف السعيد بيدي بتهيئة العملية من داخل الثكنة، أما محمود بن عمر فقد أسندت إليه مهمة ترتيب العملية وتهيئتها خارجيا.. ووفقا لمعطيات العملية قسمت الجماعة إلى لجان أسندت مهمة الحراسة وقطع أسلاك الهاتف ومنبه الإنذار إلى كل من عمار جنادي وأحمد ومحمد خيدة ومحمد رابحي..”.
ويضيف صاحب الشهادة المدعو أبو يحيى “.. وكانت اللجنة الرابعة وهي اللجنة الأخيرة التي أخذت على عاتقها مسألة شحن الأسلحة، وكانت متكونة من كل، من رابح صغير وعبد القادر شبوطي ومصطفى معيزي.. وعندما اجتزنا مدينة بوڤرة ووصلنا إلى مدخل حلوية توقفت الجماعة قرب جنان الحوامض ومنه بدأت الترتيبات الأخيرة قبل الشروع في اقتحام الثكنة.. أما الوسائل التي استعملت فقد لوحظ أن مصطفى بويعلي كان يحمل رشاشا ومنصوري ملياني كانت بحوزته بندقية صيد وتقاسم كل من محمود عمار وعبد العزيز منصوري مسدسين، وكان باقي الأعضاء يحملون العتاد الضروري لإنجاز العملية، من مسامير ومقلع أسلاك، ومقصين من حديد، وحمل البعض الآخر السلاح الأبيض.. كان مصطفى بويعلي يتفقد الجماعة للتأكد أنها على تمام الإستعداد، ليتوجه إلى كل من السعيد بيدي وعبد الرحمن حطاب، حيث طلب من الأول أن يتقدم نحو الحاجز ووصل الثلاثة قبالة العيادة ليتأكدوا من خلو المكان ثم أعطيت الإشارة للتنقل مرة أخرى حتى أصبحوا على مقربة من مركز المراقبة (حوالي 30 مترا) من الجهة الخلفية، ثم بعد ذلك تم قطع الأسلاك ليتسنى للجماعة المرور من خلالها ومرت بعد ذلك كل اللجان، فوجا تلو الآخر، آخرهم الفوج المكلف بقطع الأسلاك ومنبه الإنذار والحراسة..” تجمع الجميع داخل الثكنة بعدما تسربوا من خلال الفتحة التي هيئت لذلك، وبالقرب من مركز الحراسة تم تنظيم حلقة (سنة الإنطلاق) حيث تم تذكير الجماعة بتجنب إراقة الدماء وذكّر بويعلي إخوانه جميعا بالإستعداد وتلا قوله تعالى (وإذا عزمت فتوكل على الله) ثم توجه بنفسه نحو مركز الشرطة، حيث أمر بوڤزولة المدعو بوعلام برفع يديه، لكن هذا الأخير بعدما خرج مذعورا أعاد أدراجه نحو الداخل صارخا، وقد كان مركز المراقبة محاصرا، فقد تمكنت عناصر اللجنة الثالثة المكلفة باقتحام المركز من تثبيت الحراس ماعدا بوڤزولة الذي أظهر مقاومة.
اضطر بعض الإخوة إلى ضربه حتى يتمكنوا من إنجاز مهمتهم، وقيد الجميع خمسة حراس بمن فيهم بوڤزولة، وتنبهت الجماعة إلى فرار اثنين من داخل الثكنة باتجاه مركز الدرك لحراسة الثغر حينها أمر بويعلي عبد العزيز لحويج بالتوجه صوب مركز الدرك لحراسة الثغر، وأمر باقي الجماعة بأن تكمل عملها دون الالتفات إلى شيء حتى وإن سمعت طلقات رصاص، وبعد ذلك شرعت لجنة تحطيم الأبواب في كسر نافذة غرفة الأسلحة حيث كانت تقبع 500 قطعة بين رشاش ومسدس، وبعد تعاون كل اللجان مع لجنة شحن الأسلحة، تم خلالها شحن ما يلي:
10 بنادق من نوع “ماط” 56
120 بندقية عادية
35 رشاشا من نوع “ماط” 49
27 مسدسا من نوع “سميث ولسون”
02 رشاشان من نوع “موزير”
140 مسدس من مختلف الأنواع
01 بندقية للقنابل
02 رشاشان ثقيلان
02 بندقيتان من نوع “كارابين”
15 قنبلة يدوية
12 ألف رصاصة لرشاش “ماط” 49
140 علبة ذخيرة للرشاش
180 رصاصة لبنادق “الكارابين”
وبعد عملية الشحن يواصل صاحب الشهادة “قفلت السيارتان راجعتين نحو بوڤرة، وهناك توقفنا بحيث قام بويعلي بإلقاء كلمة لما لاحظ نوعا من القلق باديا على الوجوه، خاصة وأن بشائر الفرح بدأت تلوح في الأفق وكانت الجماعة حريصة على أن يصل السلاح في الوقت المحدد حتى لا يضيع الجهد في مهب الريح، ولقد قال بويعلي حينها كلمة يتذكرها من شارك في العملية بأن “هذا السلاح إن كان من نصيبنا فلن يأخذه منا أحد وإن لم يكن من نصيبنا فلن نستطيع الاحتفاظ به”.
إن هذا الإنتقال النوعي نحو العمل المسلح، وسلب ثكنة الصومعة للشرطة أثار لغطا ونزاعا شديدين في قمة سرايا النظام وعصب السلطة وفي أوساط الأسلاك الأمنية المتنازعة والمتصارعة ضمن حرب سرية كانت تتوقف على تواجهات ميزان القوة فيها الوجه الجديد لمستقبل السلطة والجزائر معا، فالمجموعة الموالية للشاذلي بن جديد، والمتكونة من عصبة الإصلاحيين الجنينية والبيروقراطيين الجدد من ذوي التوجه التكنوقراطي وأصحاب النزعة الدينية الأخلاقية المعادية لليسار بكل أطيافه وزمرة الكوادر من أصحاب الجنسية المزدوجة الجزائرية الفرنسية، والتي تسعى إلى توظيف القوة الإسلامية الصاعدة ضمن مخطط تكتيكي يهدف أساسا إلى إضعاف نفوذ اليساريين والموالين للمعسكر الإشتراكي والإتحاد السوفياتي سابقا داخل المؤسسات الإدارية والتربوية وداخل جهاز حزب جبهة التحرير سرعان ما شعرت بالخطر يهددها من جماعة بويعلي التي وظفت بشكل آخر وغير مباشر من طرف أطراف المجموعة المنافسة لها داخل سرايا النظام عندما تمكنت الجماعة بتلك السرعة أن تعلن تمردها المسلح الصاخب، ومن هنا وجد الشاذلي بن جديد الذي كان يفضل لعب دور الحكم بين الزمر والعصب المتصارعة في وضع غير مريح، وهو الذي كان يخطط لكسب القوة الإسلامية السلمية لصالحه في تلك اللعبة التي كانت في طور التشكل، ومن هنا عندما اطلعت قياداته الأمنية على آخر تقاريرها حول الهجوم على ثكنة الصومعة، أعطى الضوء الأخضر للضرب بقوة لجماعة بويعلي التي تجاوزت حسب رأيه الخط الأحمر والهامش المتاح.. فلقد كان الشاذلي بن جديد وهو ابن المؤسسة العسكرية يخطط إلى تقليم أظافر العسكر وأساسا جهاز الإستخبارات ليواجهه بقوة موازية تتمثل في وزارة الداخلية من جهة، وفي جهاز الدرك الوطني من جهة ثانية، تلقفت القيادات الأمنية الرسالة لتعلن حربها ضد الإرهاب، لكن هذه الحرب تميزت بصراعات بين الأجهزة الأمنية، فالعقيد عطايلية قائد الناحية العسكرية الأولى والذي لم يكن يرتاح للدرك الوطني الذي كان يشرف عليه الرائد شلوفي بمساعدة التواتي وبوسطيلة قرر دون التنسيق مع قوات الدرك الوطني ضرب معاقل جماعة بويعلي فكانت النتيجة كارثية، بحيث قتل خمسة من الدركيين وجرح العشرات منهم، ونشرت حينها جريدة المجاهد الحكومية بتاريخ 27 أكتوبر 1987 على صفحتها الأولى “استشهاد خمسة دركيين، وهم يؤدون واجبهم في محاربة الإرهاب على يد جماعة بويعلي” كما تمكنت قوات الأمن من مطاردة جماعة بويعلي والقضاء على عدد من عناصرها مثل رابح بن زهرة وعبد العزيز منصوري الذي تلقى طلقات نارية من طائرة مروحية ومحمود بن عمر ونور الدين خيذة وعبد السلام غريب وعبد العزيز لحويج وأمعمر التواتي وعبد العزيز ماحي وجعفر بركاني.. ولقد تنفس الهادي لخذيري الصعداء عندما تم مصرع رأس الجماعة مصطفى بويعلي، بحيث دعا عددا من المسؤولين للتفرج على جثته التي اخترقها الرصاص وتم نقلها إلى مدرسة الشرطة بالشاطوناف… ويذكر أحمد مراح المساعد الأول لبويعلي أن قائد الدرك الوطني مصطفى شلوفي رفض دعوة الهادي لخذيري وأعرب بغضب عن استيائه من هذا الأسلوب وبعدما أعلنت جريدة المجاهد الحكومية عن نهاية كابوس جماعة بويعلي، لم تهدأ المعركة وإن خَفَتَ مؤقتا جمرها بين القيادات الأمنية، والعصب المتصارعة داخل سرايا النظام، فلقد تم إطلاق سراح جماعة الجزأرة وعباسي مدني وعدد من الإسلاميين الذين تورطوا في أحداث الحي الجامعي بابن عكنون، وكان ضحيته الطالب كمال أمزال الذي قتل على يد أحد الموظفين بالمديرية العامة للأمن الوطني، ولقد حكم على المتهم بثماني سنوات سجنا نافذا إلا أن عفو الشاذلي بن جديد شمله بعد وقت غير طويل، واعتبر المراقبون آنذاك أن الشاذلي بن جديد الذي انزعج لوقت قصير بالتجاوز الذي أحدثته جماعة بويعلي سرعان ما كشف عن إصراره في كسب الإسلاميين لصالحه وذلك من أجل توطيد ركائز حكمه والتحضير لعهدات رئاسية أخرى.. ومن هنا شجع الشاذلي بن جديد تيار الإخوان لبسط وجوده داخل المجتمع وأيضا داخل المؤسسات الدينية والتربوية، وأعطي لزعيم الإخوان المسلمين الجزائريين وذلك بالتواطؤ مع مؤسسات أمنية لتشجيع الشباب نحو التطوع إلى الجهاد في أفغانستان، وعلى صعيد ثاني فلقد شجع الشاذلي بن جديد عودة الإسلام الطرقي وذلك من أجل خلق توازن داخل الحقل الديني، فتم إعادة الإعتبار لعدد من التيارات الصوفية والطرقية التي جردها هواري بومدين من ممتلكاتها ومن النفوذ الذي كان بحوزتها داخل المجتمع وداخل المؤسسات الرسمية، فأصبحت طرقا مثل الرحمانية والعلوية والتيجانية تحظى بدعم مادي ومعنوي وسياسي من طرف مؤسسة الرئاسة لكن أيضا من طرف المؤسسة الأمنية، وأصبحت الزاوية التي تنتمي إليها عائلة حرم الرئيس الشاذلي بن جديد قوة ضغط حقيقية لها سلطة الحل والعقد في تعيين رؤساء الدوائر والولاة وفي ترقية الكوادر داخل المؤسسات الدينية وفي ترقية الضباط داخل المؤسسات الأمنية.. وفي فتح المجال أمام أصحاب المشاريع التجارية والإقتصادية.. كما سمح للإسلاميين من جماعة الجزأرة أن ينشئوا جمعية تحت مسمى البناء الحضاري وكان يرأسها محمد السعيد والتي تحولت إلى قناة لنشر الأفكار الإسلامية البعيدة عن العنف وكانت هذه الجمعية تحظى بتأييد وتشجيع من طرف الرجل المقرب من الرئيس الشاذلي بن جديد، الهادي لخذيري الذي سيرقى إلى وزير للداخلية فيما بعد، لقد تمكن الإسلاميون وهذا بالرغم من المواجهات التي سجلت بينهم وبين جناح من السلطة أن يصبحوا قوة حقيقية وجدت تشجيعا صريحا من طرف الشاذلي بن جديد الذي كان يعطف عليها وفي الوقت ذاته إلى الإحتفاظ بها كورقة ضغط لكن أيضا كأداة لتغيير النظام دون إحداث صدمة تكون نتائجها سلبية على تطورات الوضع والمشهد السياسيين، وكان تعيينه لشخصية من جمعية العلماء مثل عبد الرحمان شيبان يهدف أساسا إلى استرضاء قطاع كبير من الإسلاميين وأسلوب من أساليب اختراق الإتجاه الديني لقلعة جبهة التحرير الوطني، وقد ظهر ذلك جليا بعد أحداث أكتوبر مباشرة عندما ظهرت حساسية تتبنى الخطاب الإسلامي داخل جبهة التحرير الوطني تمثلت في شخصيتين رئيسيتين عبد العزيز بلخادم الذي سيصبح على رأس البرلمان، ولحسن صوفي وزير العدل في حكومة الشاذلي بن جديد والذي سيصبح فيما بعد أشد قربا من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولقد كتب في لسان حالها، جريدة المنقذ سلسلة من المقالات التي تنتصر لأطروحة الدولة الإسلامية كبديل عن الدولة الوطنية التي نخرها الفساد وحادت عن طريق الإسلام يقول وزير العدل في حكومة الشاذلي بن جديد في إحدى مقالاته المنشورة في جريدة المنقذ عدد 25 “… وإذا كانت الإيديولوجيتان، الإشتراكية والرأسمالية غير صالحتين، ولا مقبولتين لدى شعبنا المسلم فضلا عن إفلاسهما، فلم ولن يبق للشعب الجزائري غير الإسلام منهجا وسبيلا، وإذ تقلب اليوم عبر الساحة السياسية الحزبية والعقائدية في وطننا بحثا عن رجال يحققون المشروع الحضاري الإسلامي المؤمل وهم بصدد تزكية قرآنية سليمة الوجهة فستتجه أنظار المسلمين بلا تردد إلى الشباب المسلم الذي ينتشر عبر أرجاء الوطن جميعه وكله تصميم، متحديا جميع القوى المعادية لأمتنا مهما تعددت الذي لا يرى اليوم في غير الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحركة رسالية ذات مصداقية كاملة مجالا لأداء رسالته الجهادية، ليجعلنا نجزم أنه قدر من قدر الله تعالى في زمننا هذا، في بلدنا هذا، طلائع تاريخية، موكول إليها لا إلى غيرها عبء التغيير الثقيل..”.
بالقضاء على تمرد بويعلي استطاع الشاذلي تطويق خصومه الذين راحوا يطلقون من حوله الإشاعات باعتباره أصبح حليفا للإسلاميين الذين سيلقى على أيديهم حتفه ونهايته الدموية مثلما حدث ذلك للرئيس المصري محمد أنور السادات الذي أطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن عندما أطلق أيدي إسلاميي مصر في حقبته الإنفتاحية والتي كان أحد أهدافها الرئيسية التخلص من التركة الناصرية.. واقتنع الشاذلي بن جديد أن الإسلاميين أصبحوا رهن إشارته وهو على أهبة الإنطلاق إلى مرحلة جديدة وجذرية، هي مرحلة الإصلاحات العميقة وذلك لمواجهة على صعيد آخر انخفاض مداخيل الجزائر المتضمنة البترول والغاز من صادراتها بنسبة ضخمة بلغت 40٪ “مجردة الدولة من خمسة مليارات دولار تقريبا من الدخل المتوقع” 1.
إن هذا الشعور بالنشوة الذي كان يبديه الشاذلي بن جديد لمقربيه سرعان ما أثار الذعر في نفس رجل جبهة التحرير الذي بدأ نفوذه يتعاظم وبالرغم أنه وجد دعما من طرف الشاذلي بن جديد بالمقارنة بما لاقاه من احتقار وإجحاف من قبل هواري بومدين إلا أن ذلك لم يثنيه من التعبير عن استيائه من هذا الحلف الناشئ وغير المعلن بين الشاذلي بن جديد والإسلاميين الذين أصبحوا يشكلون على الصعيد السياسي والعقائدي تحديا صارخا لحزب جبهة التحرير وكان محمد الشريف مساعدية يعزو ميل الشاذلي بن جديد نحو الرهان على الإسلاميين كحلفاء استراتيجيين إلى مستشاري السوء من عصبة الإصلاحيين الذين كان ينعتهم في جلساته الخاصة بـ “عصابة الأشرار” وإلى ضحالة ثقافة الشاذلي بن جديد السياسية باعتباره عسكريا لم يهتم في السابق بالسياسة وكواليسها وإلى ضعف شخصيته غير القادرة على مقاومة الأفكار المغرية ومن هنا صرح محمد شريف مساعدية بصريح العبارة حسب صاحب كتاب “سنوات الفوضى والجنون” محمد خوجة أن الجزائر “بحاجة إلى رجل قوي، وكان يومها ينسج على مهل لإعداد شيئ ما، سوف يظهر في المؤتمر السادس للحزب”.
لقد كان محمد الشريف مساعدية وهو الزيتوني يدرك أن الإسلاميين إذا ما تمكنوا بمساعدة الشاذلي التسلل إلى الساحة السياسية سوف لن تعرف شهيتهم حدا، وأنهم لن يرضوا إذا ما اكتشفوا أن الجماهير بين أيديهم بفتات المائدة مثلما قبل اليساريون ذلك عندما غمرهم هواري بومدين بعطفه بعد إخراجهم من السجون.. وهذا ما أكده لي محمد الشريف مساعدية عندما التقيته في منزله عام 1994، وقال لي “أن الشاذلي كان منذ البداية مخدوعا عندما فكر أن يحسم صراع ميزان القوة لصالحه خاصة في ولايته الثانية بالإعتماد على قوة الإسلاميين المتصاعدة، ويرد محمد الشريف مساعدية انخداع الشاذلي إلى التأثيرات التي مارسها عليه بالدرجة الأولى الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ابن الشيخ البشير الإبراهيمي الذي يزين للشاذلي محاسن التوجه نحو الإسلام المنفتح والمعتدل قصد التخلص من مضار الثقافة اليسارية والبربرية، ويأتي بالدرجة الثانية، يقول محمد الشريف مساعدية، زمرة الإصلاحيين وعلى رأسهم الشاب الطموح مولود حمروش الذي كان يثق فيه الشاذلي بن جديد بشكل أعمى وكان يخطط لتحضيره على المدى المتوسط كخليفة له.. ويضيف محمد الشريف مساعدية أن نفس الفخ الذي سقط الشاذلي بن جديد في شباكه حدث لعباسي مدني أيام مجده عندما اعتقد أنه بإسقاط مولود حمروش، رئيس حكومة الشاذلي بن جديد يمكن أن يحدث التحالف بين الشاذلي والإسلاميين على حساب العسكر… والنتيجة يقول مساعدية، كانت نهاية الإثنين، الشاذلي والإسلاميين.