الأحد، 24 أبريل 2016

طعنات في عثمان ـ رضي الله عنه ـ وفي سائر الصحابة وقريش بصفة خاصة
قال سيد قطب : ((وجاء عثمان ـ رضي الله عنه([1])ـ فلم ير أن يأخذ بالعزيمتين أو إحداهما .. .

1 ـ ترك الفضول لأصحابها فلم يردها ؟ .

2 ـ وترك الأعطيات كذلك على تفاوتها ، ولكن هذا لم يكن كل ما كان .

3 ـ بل وسع أولاً على الناس في العطاء فازداد الغني غنى ، وربما تبحبح الفقير قليلاً .

4 ـ ثم جعل يمنح المنح الضخمة لمن لا تنقصهم الثروة .

5 ـ ثم أباح لقريش أن تضرب في الأرض تتاجر بأموالها المكدسة فتزيدها أضعافـًا مضاعفة .

6 ـ ثم أباح للأثرياء أن يقتنوا الضياع والدور في السواد وغير السواد .

7 ـ فإذا عهد من عهود الإقطاع يسود المجتمع الإسلامي في نهاية عهده يرحمه الله))([2]).

التعليق :

أقول :

أولاً : انظر كيف يلوم عثمان على عدم أخذه بهاتين العزيمتين وقد تقدم لك أنّ شيئـًا منها لم يثبت عن عمر ـ رضي الله عنه ـ ، وعلى فرض ثبوتها عنه فلم يسلك سيد مسالك العلماء في احترام عثمان ولم يرَ مثلاً أن له حق الاجتهاد فإن علماء الأمة يرون أنه لا يحتج على مجتهد بقول مجتهد ولا يلزم مجتهدًا أن يقلد غيره ، فلماذا يرى سيد أن لأبي بكر وعمر حرية الاجتهاد ولا يرى مثل ذلك لعثمان ؟ ، لماذا يرى أن لأبي بكر أن يأخذ بمبدأ المساواة في العطاء ؟ ، ولماذا لم يحاسب عمر على مبدأ التفضيل في العطاء ؟([3]).

ولماذا يرى أن لأيّ إمامٍ من أئمة المسلمين أن يجتهد في مجال الاقتصاد الإسلامي وغيره ولا يرى مثل ذلك لعثمان ـ رضي الله عنه ـ ؟ ، ولماذا يرى لنفسه أن ينتقد ويرجح ويختار ما يوافقه من الآراء ويكتف عثمان عن كل ذلك ويغل يديه ويكبله وحده .

ثانيـًا : أضاف طعنة ثالثة فقال : ((ولكن هذا لم يكن كل ما كان بل وسع أولاً على الناس في العطاء فازداد الغني غنى ، وربما تبحبح الفقيرُ قليلاً)) .

أقول : الله أكبر ! هذا من محاسن عثمان وفضائله ـ رضي الله عنه ـ ، قال ابن شبة : حدثنا إبراهيم([4])قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير قال : أدركت زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ وما من نفسٍ مسلمة إلا ولها في مال الله حق))([5]).

هذا السند جيّد؛ لأنه من رواية عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة .

((حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : لم تكن الدراهم في زمان أرخص منها في زمان عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، إن كانت الجارية لتباع بوزنها ، وإن الفرسَ ليبلغ خمسين ألفـًا مما يعطيهم))([6]).

هذان الخبران ثابتان ، وقد ساقهما عروة وابن سيرين مساق المدح لعثمان ـ رضي الله عنه ـ ولعهده الزاهر الذي ساد فيه العدل والإخاء والمحبة والجهاد ، فازدهرت حياة المسلمين ، ورفرفت على العالم الإسلامي الواسع راية الأمن والإيمان والمحبة والإخاء؛ فضاق ابن سبأ وتلاميذه وسائر أعداء الإسلام من اليهود والمجوس وغيرهم بهذه العظمة الإسلامية ، فدبّروا المؤامرات ضد الإسلام لا ضد عثمان وحده ، فأثاروا الفتن الهوجاء التي أودت بحياة الخليفة الراشد ، ثم أعقبتها الفتن التي مزّقت الأمة وجعلتهم شيعـًا وأحزابـًا لا يرفع عنها السيف إلى يوم القيامة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن العجب العجاب : أن سيد قطب يسوق مفاخر عثمان ومزاياه مساق الذم والطعن والتشهير؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله .

ثالثـًا : ويزيد سيد طعنة رابعة بقوله : ((ثم جعل يمنح المنح الضخمة لمن لا تنقصهم الثروة)) .

أين برهانك على هذه ؟ .

وأين مصادرك التي تستقي منها هذه الدعاوي العريضة التي يضج منها الكون وتضجّ منها الملائكة والمؤمنون ؟؟! .

كم عدد هذه المنح الضخمة ؟؟ .

وكم عدد أهلها ؟! .

إن دعواك ضخمة جدًّا ، أضخم من دعاوي الثوار السبئيين وأمضّ منها .

رابعـًا : طعنة خامسة ، قوله : ((ثم أباح لقريش أن تضرب في الأرض)) .

وأقول : متى حرّم الله ومتى حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن تضرب في الأرض تتاجر بأموالها حتى تؤاخذ عثمان على هذه الإباحة وتريد منه أن يفرض عليهم الإقامة الجبرية ؟!! .

ثم من أين لك أنه كان لهم أموال مكدسة لا يخرجون إلا ليتاجروا فيها ؟!! .

فمن فتح الدنيا غيرَهم !؟؟ ، ومن المجاهدون حقـًّا الذين قال الله فيهم : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } إن لم يكن هؤلاء ؟؟! .

ثم متى حرّم الله على قريش التجارة وأباح لغيرهم من العرب والعجم الضرب في البر والبحر في التجارة ؟؟! .

ومن أين لك أن أبا بكر وعمر قد فرضا على قريش الإقامة الجبرية (السجن الكبير في المدينة) ؟؟! .

ومن أين لك أن أبا بكر وعمر قد حرما ما أحل الله ورسوله لقريش من التجارة؟!!.

وطعنة سادسة قوله : ((ثم أباح للأثرياء يقتنوا الضياع والدور في السواد وغير السواد ، فإذا عهدٌ من عهود الإقطاع([7])يسود المجتمع الإسلامي في نهاية عهده يرحمه الله)) .

ونقول : متى حرم الله على هؤلاء أن يقتنوا الضياع ... إلخ ؟؟! .

وهل كان يلزم عثمان أن يصادرها لو وقعت بغير علمه !!؟ .

أقول : كل هذا تنزلاً مع سيد قطب ، وإلاّ فإن الحال والواقع لم يكن على هذه الصورة ، ولا قريبـًا منها؛ وإذا كان لا بدّ من مثل هذا التهييج فليس له أيّ حقّ أن يتخطّى العصر الذي يعيشه وثلاثة عشر قرنـًا ونيّفـًا ، يتخطّى ما رآه بعينه في بلده وفي أوروبا وأمريكا إلى خير القرون وخير أمة أُخرجت للناس فيصورهم بصورة عصره الشوهاء التي شاهدها في بلدان لم تعرف الله ولا الدار الآخرة ، فلا دينَ لها ولا خلق ولا ضمير .

فما هو الإقطاع في نظر سيد قطب ؟ ، قال في كتابه ((الإسلام ومشكلات الحضارة))([8]): ((إن نظام الإقطاع في أوروبا وأمريكا لم يكن مجرّد وجود ملكيّات كبيرة ، ولكنه كان مصحوبـًا بخصائص هذا النظام الأساسية ، وأخص خصائص هذا النظام كانت :

1 ـ تبعية الفلاحين للأرض؛ حيث كان وضعهم فيها كوضع الآلات الزراعية وحيواناتها وانتقالهم مع الأرض إلى المالك الجديد كما تنتقل الآلات والحيوانات ، ولو كانوا لا يباعون كما هو الحال في نظام الرق ، ولكن تبعيتهم للأرض تحرمهم حق الانتقال منها إلى أرض أخرى كما تحرمهم بطبيعة الحال حق اختيار حرفة أخرى فردية مستقلّة .

2 ـ كما كانت إرادة السيد (الشريف) هي القانون في اقطاعتيه فهو الذي يشرع للأقنان (رقيق الأرض) وهو الذي يحدد علاقاتهم به وبالأرض وعلاقاتهم بعضهم ببعض .

وهذا هو الإقطاع كما عرفته أوروبا ، وكما ثارت عليه ـ أيضـًا ـ ، وهاتان الخاصتان تعتبران العلامتين المميزتين لهذا العهد البغيض؛ وقد ظلت أوروبا ترزح تحت وطأة هذا النظام الفظيع الذي تهدر فيه قيمة الإنسان - ابتداء - بجعله تابعـًا للأرض كالماشية وأدوات الزراعة ينتقل معها إلى المالك الجديد ، ولا يملك أن يحس بكينونتيه الإنسانية مستقلة عن الأرض ، ولا يملك أن يغادرها ولو إلى إقطاعية أخرى وإلا اعتبر آبقـًا بحكم القانون ووجب القبض عليه وردّه إلى الأرض التي يتبعها ...)) .

فإذا أطلق سيد قطب الإقطاعية على عهد عثمان فلا يعرف الناس الذين يكتب لهم من اليهود والنصارى والمنافقين العلمانيين والروافض ، بل حتى خلص المسلمين في هذا العصر إلاّ هذه الصورة الخبيثة التي ذكرها سيد هنا عن عهد الإقطاع في أوربا؛ فهل كان سيد مدركـًا جسامة الإساءة التي ارتكبها في حق أصحاب رسول الله ـ رضوان الله عليهم ـ لا سيما عثمان وقريش أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


([1]) لا توجد جملة (رضي الله عنه) في بعض النسخ ، ولعلها من بعض الناس للتلبيس .

([2]) ((العدالة)) ( ص : 207 ) ط الخامسة ، ( ص : 173 ) ط الثانية عشر ، وفيها : ((فإذا نوعٌ من الفوارق المالية الضخمة يسود المجتمع الإسلامي ...)) . وما هذا إلاّ تغيير لللفظ مع الحفاظ على المعنى .

([3]) نقول هذا على سبيل التنزّل وإلاّ فما طريق هؤلاء الخلفاء الراشدين إلاّ الاتباع ، وقد وضّحنا ذلك فيما سلف في هذا البحث .

([4]) إبراهيم هو : ابن المنذر الحزامي : صدوق .

([5]) ((أخبار المدينة)) : ( 3/241 ) .

([6]) ((أخبار المدينة)) : ( 3/241 ) .

([7]) غَيَّر سيد هذه العبارة في بعض الطبعات الأخيرة بقوله : ((فإذا نوعٌ من الفوارق الضخمة يسود المجتمع الإسلامي في نهاية عهده يرحمه الله)) ، لكنه بقي مصرًّا على أصل الفكرة ، ومعنى العبارتين متقارب ، فلم يفعل شيئـًا ذا بال==========
: حالة قريش الاقتصادية في عهد عثمان - رضي الله عنه
إن كان لا بدّ لنا من الحديث عن حالة قريش الاقتصادية في عهد عثمان ـ رضي الله عنه وعنهم ـ فلنذكر ما رواه ابن شبّة([1])ـ رحمه الله ـ وإن كان في إسناده انقطاع :

قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثني ابن لهيعة قال : كان عثمان قد جعل لموالي قريش طعمة خمسة دنانير لكل رجل كل حول ، وذلك أن قريشـًا قالت : إنا لسنا كغيرنا ، وليس لنا مدد ، وإنما مددنا موالينا ، فجعل لهم هذه الطعمة؛ فكان يموت الرجل منهم فيكتب وليه ولدًا إن كان له ، وإن لم يكن له ولد كتب عليها من شاء ، لم يجعلها عثمان لأحدٍ من الموالي إلا موالي قريش .

فلو كانت قريش طبقة إقطاعية أتطلب هذا الطلب من عثمان ؟ ، وعثمان لا يعطي مواليهم إلا خمسة دنانير طعمة ، ثم يحرصون عليها بعد موت صاحبها .

أهذا حال الإقطاعيين ليس لهم مدد إلا مواليهم ؟ .

وقد تقدّم حال فقراء المهاجرين في حديث سابق وإن كان في إسناده كلام ، لكن إذا كان لا بدّ لنا من الحديث عن أحوالهم فنذكر ما يليق بحالهم ولا يجوز بحال أن نبحث عن الروايات الطاعنة فيهم ثم نطلق للأخيلة الباطلة العنان في تفسيرها ونضخم ما تراه الأخيلة الباطلة من مساويء .

قال الإمام الترمذي([2])ـ رحمه الله تعالى ـ : حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثني صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن محمد([3])بن أبي سفيان عن يوسف بن الحكم([4])عن محمد بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من يُرد هوان قريش أهانه الله)) .

قال أبو عيسى : ((هذا حديث غريب من هذا الوجه)) .

وأخرجه عبد الرزاق في ((مصنفه))([5])عن معمر عن الزهري عن عمر بن سعد([6])أن سعد بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((من يهن قريشـًا يهنه الله))([7]).


([1]) ((أخبار المدينة)) : ( 3/206 ) .

([2]) ((الجامع)) : ( المناقب ، حديث رقم : 3905 ) ، وابن أبي شيبة في ((مصنفه)) : ( 12/170 ) عن إبراهيم بن سعد ( به ) .

([3]) قال الذهبي : ((الصواب : عنبسة بن أبي سفيان)) ، وقد عده بعضهم في صغار الصحابة ، ومنهم من عده في التابعين ، وأورده ابن حبان في ((الثقات)) .

([4]) هو والد الحجاج بن يوسف : قال الحافظ في ((التقريب)) : ((مقبول)) ، وقال الذهبي عن كعب بن علقمة أنه كان صالحـًا .

([5]) ( 11/58 
=========
زعم سيد أن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ كانا يتشددان في إمساك رؤوس قريش
قال سيد قطب : ((كان أبو بكر وكان عمر من بعده يتشددان في إمساك الجماعة من رؤوس قريش بالمدينة لا يدعونهم يضربون في الأرض المفتوحة احتياطـًا لأن تمتد أبصار هؤلاء الرؤوس إلى المال والسلطان حين تجتمع إليهم الأنصار بحكم قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بحكم بلائهم في الإسلام وسابقتهم في الجهاد . وما كان في هذا افتيات على الحرية الشخصية كما يفهمها الإسلام؛ فهذه الحرية محدودة بمصلحة الجماعة والنصح لها([1]).

فلما جاء عثمان أباحَ لهم أن يضربوا في الأرض .

ولم يبح لهم هذا وحده ، بل يسّر لهم وحضهم على توظيف أموالهم في الدور والضياع في الأقاليم بعدما آتى بعضهم من الهبات مئات الآلاف .

لقد كان ذلك كله برًّا ورحمة بالمسلمين وبكبارهم خاصة ، ولكنه أنشأ شرًّا عظيمـًا لم يكن خافيـًا على فطنة أبي بكر وفطنة عمر بعده أنشأ الفوارق المالية والاجتماعية الضخمة في الجماعة الإسلامية ، كما أنشأ طبقة أرستقراطية فارغة يأتيها رزقها من كل مكان دون كدٍّ ولا تعب؛ فكان الترفُ الذي حاربه الإسلام بنصوصه وتوجيهاته ، كما حاربه الخليفتان قبل عثمان وحرصا على ألا يتيحاه عندئذ ثار الروح الإسلامي في نفوس بعض الناس ، يمثلهم أشدهم حرارة وثورة أبو ذر ، ذلك الصحابي الجليل الذي لم تجد هيئة الفتوى المصرية في الزمن الأخير إلا أن تخطئه في اتجاهه وإلا أن تزعم لنفسها بصرًا بالدين أكثر من بصره بدينه))([2]).

التعليق

أولاً : نقول هنا ما قاله سيد قطب لهيكل في سياسة أبي بكر وعمر : ((وإن أعجب فعجب لرجل يعيش بفكره ونفسه في جوّ هذه الفترة من التاريخ الإسلامي ، وفي ظلّ هذه الضمائر المرهفة الحسّاسة الشديدة الحساسية من رجاله ، ثم لا يرتفع ضميره هو وشعوره بتفسير الحوادث عن هذا المستوى المستمد مباشرة من ملابسات السياسة في عصرنا المادي الحاضر ، لا من روح الإسلام وتاريخه في تلك الفترة !! إنما هذه سياسة أيامنا الحاضرة تبرر الوسيلة بالغاية ، وتهبط بالضمير الإنساني إلى مستوى الضرورات الوقتية وتحسب هذا براعة في السياسة ، ولباقة في تصريف الأمور . وما أصغر أبا بكر في هذا التصوير الذي يقول الدكتور هيكل : إنه هو التصوير الصحيح ! .

لولا أن أبا بكر كان أكبر وأبعد من مدى المجهر الذي ينظر به رجل يعيش في عصر هابط ، فلا يستطيع إطلاقـًا أن يرتفع إلى ذلك الأفق السامق البعيد ، فضلا عن الجهل الفاضح بأوليات الشريعة الإسلامية))([3]).

ثانيـًا : متى وجد أبو بكر الوقت لمثل هذا التفكير السياسي ؟ ، فقد كانت خلافته قصيرة جدًّا لا تعدو سنتين وشهرين ، خاض فيها حروب الردة في الجزيرة العربية 
========
قادة حروب الردة وفتوحات الخلافة الراشدة كانوا من قريش
كان أكثر قادة حروب الردة في عهد أبي بكر من قريش وحلفائهم واستشهد فيها منهم كثير .

ثم دفع بهم أبو بكر إلى فتح العراق ثم الشام على قصر مدة خلافته رضي الله عنه.

أسماء قادة المسلمين للقضاء على حركة الردة :

كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ عقد أحد عشر لواء لهذه المهمة بقيادة :

1 ـ خالد بن الوليد .

2 ـ عكرمة بن أبي جهل .

3 ـ شرحبيل بن حسنة حليف بني زهرة من قريش .

4 ـ المهاجر بن أبي أمية المخزومي .

5 ـ خالد بن سعيد بن العاص .

6 ـ عمرو بن العاص .

7 ـ حذيفة بن محصن الغطفاني .

8 ـ طرفة بن حاجب .

9 ـ سويد بن مقرن .

10 ـ العلاء بن الحضرمي حليف ابن أمية([1]).

11 ـ عرفجة بن هرثمة .

12 ـ معن بن حاجز([2]).

هذا ، وقد استشهد من قريش ومن إخوانهم الأنصار كثير ـ رضي الله عنهم ـ ، منهم : زيد بن الخطّاب ، وأبو حذيفة بن عتبة الأموي .

وبعث أبو بكر لفتح الشام الجيوش الإسلامية بقيادة :

1 ـ خالد بن سعيد بن العاص .

2 ـ يزيد بن أبي سفيان ، ومعه جمهور الناس ، ومعه سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة .

3 ـ وأبا عبيدة بن الجراح .

4 ـ وعمرو بن العاص .

وأمّده أبو بكر :

5 ـ بالوليد بن عقبة .

6 ـ وبعكرمة بن أبي جهل ، وجماعة .

7 ـ وأقبل شرحبيل بن حسنة من العراق إلى الصدّيق فبعثه إلى الشام .

ثم اجتمع عند الصدّيق جماعة فأمّر عليهم :

8 ـ معاوية بن أبي سفيان ، وأرسله إلى أخيه يزيد بن أبي سفيان([3]) ، وفي المجاهدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل في وقعة اليرموك ، منهم : الزبير بن العوام ، وأبو سفيان بن حرب ، وهاشم بن عقبة بن أبي وقاص([4]).

وكانت لهم صولات وآثارٌ عظيمة في النصر والفتح ـ رضي الله عنهم ـ ، وقد عرف الصدِّيق ما فيهم من كفاءة عالية فقذف بهم المرتدين ، ثم قذف بهم فارس والروم؛ فهم يخوضون معامع الجهاد في هذه البلدان لإعلاء كلمة الله؛ فحقق الله بهم ما يشبه المعجزات .

وما كان أبو بكر ليضعهم في الأقفاص وفي السجن الإجباري خشية أن تمتد أعينهم إلى المال والسلطان؛ فهذا تفكير الماديين لا تفكير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كانت أعينهم تمتد إلى الجنة التي وعدها الله وأعدّها للمتقين ، وتمتد إلى إعلاء كلمة الله والشهادة في سبيلِه .

وهل كان هناك وقتٌ أمام أبي بكر لهذه الحسابات الفارغة في مدته الوجيزة التي أنجز فيها هو وإخوانه من المهاجرين والأنصار ما لا يدور بالخيال .

وأما عمر ـ رضي الله عنه ـ فكان عهده عهد جهاد وفتوحات ((لقد فتح عمر العراق ، وإيران ، وأكثر مناطق إرمينية ، وأرض الشام بما فيها سورية ، ولبنان ، وشرقي الأردن ، وفلسطين ، ومصر ، وليبيا ، والنوبة .

وخاضت جيوش المسلمين في أيامه ثلاث معارك حاسمة من معارك الفتح الإسلامي : معركة القادسية ، ومعركة بابليون ، ومعركة نهاوند)) ([5]).

كان قادة الفتوحات فيها من قريش ومن الأنصار ومن غيرهم من القبائل ، والذي يهمنا هم القرشيون ، فمنهم من قادة فتح العراق وفارس :

1 ـ سعد بن أبي وقاص .

2 ـ ضرار بن الخطاب الفهري .

3 ـ أبو سبرة بن أبي رهم القرشي العامري .

4 ـ العلاء بن الحضرمي([6]).

5 ـ وهاشم بن عتبة الزهري([7]).

6 ـ وعقبة بن الوليد الأموي([8]).

ومنهم في قيادة الفتح في الشام ومصر :

1 ـ أبو عبيدة بن الجرّاح الفهري .

2 ـ وخالد بن الوليد المخزومي .

3 ـ أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

4 ـ خارجة بن حذافة العدوي .

5 ـ الزبير بن العوام .

6 ـ شرحبيل بن حسنة مولى بني زهرة .

7 ـ عبد الله بن حذافة السهمي .

8 ـ عمرو بن العاص السهمي .

9 ـ عكرمة بن أبي جهل المخزومي .

10 ـ عمير بن وهب الجمحي .

11 ـ معاوية بن أبي سفيان الأموي .

12 ـ يزيد بن أبي سفيان الأموي .

راجع ((قادة فتح الشام ومصر)) ، وبالذات ( ص : 393 ) .

قال ابن سعد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ : ((كان يستعمل رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ،
والمغيرة بن شعبة ، ويدع من هو أفضل منهم مثل عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ونظائرهم لقوة أولئك عن العمل والبصر به ، ولإشراف عمر عليهم وهيبتهم له .

وقيل له : مالك لا تولِّي الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال : أكره أن أدنسهم بالعمل))([9]).

فهذه وجهة نظر عمر وتعليله ـ رضي الله عنه ـ لا ما يقولُه سيد قطب ، بل كان هؤلاء مجلس شوراه الذين لا يستغني عن رأيهم ، بل وكان بعضهم يعرض عليه العمل فيأباه كالزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهما ـ .

وللمسلم أن يقسم بالله أنّ ما قاله سيد قطب من أبطل الباطل ، ومن أفسد الأقوال وأبعدها عن عدالة أبي بكر وعمر وطهارة القوم ونظافتهم ، ولما أدرك سيد فساد قوله ، قال : ((وما كان في هذا افتيات على الحرية الشخصية كما يفهمها الإسلام ، فهذه الحرية محدودة بمصلحة الجماعة والنصح لها)) .

فهل كانت حرية عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف تهدد مصلحة الجماعة ؟؟! .

وهل لو رغب أحد منهم للخروج للجهاد أو التجارة مثلاً فسمح له عمر يكون في ذلك غشّ للمسلمين ؟؟! .

حاشا عمر وحاشاهم ، ألا إنه الهوى والعياذ بالله هو الذي يقود إلى مثل هذه الأقوال الضالة .

قذائف

ثم وجّه سيد قطب قذائفه إلى الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - ، فقال : ((فلما جاء عثمان أباح لهم أن يضربوا في الأرض)) .

كأنهم في نظر سيد قطب مجرمي حرب أو عصابات إجرام كانوا في معتقلات سجن الصدِّيق والفاروق فأطلق عثمان سراحهم وأباح لهم وأطلق لهم العنان أن يعيثوا في الأرض فسادًا .

ولم يكتف بهذه القذيفة فواصل قائلاً : ((ولم يبح لهم هذا وحده ، بل يسر لهم وحضّهم على توظيف أموالهم في الدور والضياع في الأقاليم بعدما آتى بعضهم من الهبات مئات الآلاف)) .

هكذا سيد يقذف بالغيب من مكان بعيد ، كأن أمر عثمان والصحابة أهون من أن يحتاج إلى التروِّي والتثبّت والاحترام ، فإذا لم يجد رواية هزيلة أو باطلة يعتمد ويتكئ عليها وجّه السهام الظالمة التي هي من صنع يده وبنات أفكاره؛ وإلاّ فمن هؤلاء القرشيون الذين كان يحظر عليهم أبو بكر وعمر الخروج من المدينة فأباح لهم عثمان الضرب في الأرض ؟ ، سموهم لنا إن كنتم صادقين .

ومن أين له أن عثمان كان يحضهم على توظيف أموالهم في الدور والضياع بعد أن آتى بعضهم مئات الآلاف - أي : (من بيت مال المسلمين) - ، ولا يخدعنك قوله : ((لقد كان ذلك كله برًّا ورحمة بالمسلمين وبكبارهم خاصة)) فلو كان يعتقد في عثمان هذا الذي يقوله الآن لما هاجمه وطعن فيه عشرات الطعنات ، وإنما هذا من ذرّ الرماد في العيون أو من إضافات غيرِه خداعـًا ومكرًا؛ وانظر في ما الكلام قبله وبعده من خبث وطعن مشين .

يقول : ((ولكنه أنشأ شرًّا عظيمـًا لم يكن خافيـًا على فطنة أبي بكر وفطنة عمر بعده أنشأ الفوارق المالية والاجتماعية الضخمة في الجماعة الإسلامية ، كما أنشأ طبقة ارستقراطية فارغة تأتيها أرزاقها من كل مكان دون كدّ ولا تعب)) . أي أن عثمان والصحابة في عهده لا فطنة ولا ذكاء لديهم ولا نظر في العواقب ، ويمكن أن يلحق بهم سيد قطب عمر فإنه طوال خلافته كان يفضّل أناسـًا على أناس؛ لأن الله قد فضّلهم .

ويمكن لو اطلع سيد قطب على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضّل ناسـًا على أناس لمصلحة الدعوة الإسلامية لنظر إليه نظرة ذي الخويصرة وقال له : (اعدل ، فإنك لم تعدل) ، و (هذا عملٌ ما أُريدَ به وجهُ الله) .

ولو اطلع على ما عمله أبو بكر لغضب عليه وحنق؛ فقد نفَّل خالد بن الوليد سلب هرمز ، وكانت قلنسوته بمائة ألف ، وكانت مرصعة بالجوهر))([10]).

ثم نسأل سيد : من هي هذه الطبقة الارستقراطية ؟ ، أليست هي كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار مثل عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وأمثالهم من خير أمة أُخرجت للناس ؟؟! .

أتطبق عليهم اصطلاحات الماركسيين ضد الرأسماليين والإقطاعيين وأرباب المصارف والبنوك التي تسيطر على اقتصاد العالم وتمتصّ ثروات ودماء الشعوب .

ثم هل انغمس عثمان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الترف الذي حاربه الإسلام بنصوصه وتوجيهاته ، فلا يفقهون ولا يحترمون تلك النصوص والتوجيهات ويفقهها ويحترمها سيد قطب وأحلاس الإشتراكية الرعناء ؟!! .

أما كان هؤلاء الأصحاب الكرام يزكون ويتصدّقون ويصلون الأرحام وينفقون الأموال الطائلة في الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله إلى درجة أن يموت بعضهم مدينـًا وبعضهم يكاد تنفد أمواله . ((إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت))


([1]) انظر : ((البداية والنهاية)) لابن كثير : ( 6
========== 

الاثنين، 18 أبريل 2016

: تضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان

قال سيد قطب مواصلاً طعونَه وحملاته : ((ولقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته أنّ تقاليده العملية لم تتأصل على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول ، وقد نشأ عن عهد عثمان الطويل في الخلافة أن تنمو السلطة الأموية ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام ، وأن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان ( كما سيجيء ) وأن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية في وقت مبكر))([1]).

أقول : واضحٌ أن سيداً ينطلق في تجنيه ونفث سمومه من منطلقين :

الأول : منطلق اشتراكي قد تشبّع به غرس في نفسه الحقد الدفين على من يظن أنهم من طبقة الإقطاعيين والرأسماليين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بني أمية .

والثاني : تشبعه بروح التشيّع وأحقاده على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم تكن مواقفه هذه التي تقطر حقدًا على خيرة الناس من أصحاب رسول الله من رجلٍ سليم الفطرة حسن النية ، ولكنها وليدة دراسة وقائمة على منهج راسخ متأصّل في أعماق سيد قطب ، قد تشربتها روحه ورسخت في أعماقه؛ فصبّ ذلك سمومـًا قاتلة في هذه الصفحات السوداء .

وفي هذا النص يرى سيد أن الإسلام قد أصيب في مقاتله؛ فهو دين ناشيء باكره عثمان بالتمكين للعصبة الأموية ، فلم تتأصل تقاليده العملية على أسس من تعاليمه النظريّة .

إذ السياسة في الإسلام في نظر سيد تقوم على المساواة المطلقة وعلى الحريّة المطلقة ، أي : أنها تفوق الديمقراطية في هذا المجال .

وتقوم في الاقتصاد على أن المال للجماعة ، وأن أصحاب المال لا يعدون أن يكونوا وكلاء وموظفين .

والإسلام يوجب التوازن في المال ، ويقضي على الفوارق بين طبقات المجتمع .

فالإسلام إذًا يفوق الاشتراكية في هذا المجال ، لكن عثمان باكر هذا الدين في طور النشوء فضربه في مقتله بالتمكين للعصبة الأموية قبل أن تتأصل تقاليده الديمقراطية الاشتراكية !!! .

كأن بني أمية عصبة يهودية أحكمت التدابير والمؤامرات لضرب الإسلام في طور النشوء ! .

لقد استغلت هذه العصبة عهد عثمان الطويل فنمت سلطتها واستفحل أمرُها وتضخّمت ثرواتها ، فأصبحوا من أعظم الطبقات الإقطاعية والرأسمالية ، بالإضافة إلى استيلائها على المناصب في الدولة نتيجة لسياسة عثمان ، فتحولت الخلافة إلى ملك وراثي ، وتحوّل الاقتصاد إلى رأسمالية وإقطاعية .

أين الأدلة والبراهين لإثبات هذه الدعاوي ؟ .

الجواب : أغمض عينيك وردد :

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

أو قل رغم أنفك :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القولَ ما قالت حذام

ولو كان طعنـًا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفي غيظ قلوب الروافض ويدمي قلوب المؤمنين .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ، وفي الطبعة الخامسة ( ص : 189 ـ 190 ) ما يلي :

قال سيد قطب : ((ألا إنه لسوء الحظ فلقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته أن تقاليده العملية لم تتأًصل في البيئة العربية على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول . ولو تقدم الزمن بعثمان لكان الخير ، حيث لم تضعف قوته بعد ، ولو تأخر به فوليها علي بعد الشيخين قبل أن تنموا البذرة الأموية ويستفحل أمرُها في الشام وفي غير الشام ، وقبل أن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان ( كما سيجيء ) ، وقبل أن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية وارتباطها بروح الدين ... لو كان هذا لتغير وجه التاريخ الإسلامي ، ولسار في طريق غير الذي سار فيه .

وليس في هذا القول مبالغة ولا تضخيم لدور الفرد في الأحداث العامة؛ فمن الواضح أن اتجاه الخليفة الثالث في توزيع الأموال واتجاه مستشاره مروان وتوليته معظم المناصب لبني أمية؛ هذا كله أنشأ أوضاعـًا وأحوالاً عامة كان لها أثرها في خطّ سير التاريخ؛ فلم تعد دور فرد إنما انتهت إلى أن تكون أوضاعـًا لها ثقل ولها دفع . وهذا هو المعنى الذي قصدت إلى تقريره في هذا المجال))=================
نقلة بعيدة جدًّا في التصور للحياة والحكم وحقوق الأمراء
قال سيد : ((ومع كل ما يحمله تأريخ هذه الفترة وأحداثها من أمجاد لهذا الدين وتكشف عن نقلة بعيدة جدًّا في تصوّر الناس للحياة والحكم وحقوق الأمراء وحقوق الرعية إلاّ أن الفتنة التي وقعت لا يمكن التقليل من خطرها وآثارها البعيدة المدى))([1]).

الظاهر أن سيد قطب يريد بهذه الفترة ذات الأمجاد ... إلخ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؛ أما فترة عثمان فليس لها شيءٌ من الأمجاد ، بل هي مرحلة فتنة ومحنة على الأمة باكر بها هذا الدين الناشي ، فأهدرت فيه حقوق الرعية .

ولم يحتج أمراء العصبة الأموية إلى من يعرف ويعترف بحقوقهم ، وإنما لسان حالهم : (من عزَّ بزَّ ، ومن غلب استلب) ، (وإنما تؤخذ الدنيا غلابـًا) .

وكلُّ هذا على رأي سيد ، والدليل على هذا التفسير سياق الكلام وسباقه
===============
تمكين عثمان للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام
وقال سيد قطب : ((مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض ـ وبخاصة في الشام ـ ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام : من إقامة الملك الوراثي ، والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع مما أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام .

وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية ـ إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن الخليفة يؤثر أهله ، ويمنحهم مئات الألوف ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله ، وليبعد مثل أبي ذر؛ لأنه أنكر كنز الأموال ، وأنكر الترف الذي يخب فيه الأثرياء ، ودعى إلا مثل ما كان يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الإنفاق والبر والتعفف ... .

فإن النتيجة الطبيعيّة لشيوع مثل هذه الأفكار ـ إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن تثور نفوس ، وأن تنحل نفوس تثور نفوس الذين أشربت نفوسهم روح الدين إنكارًا وتأثّمـًا ، وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداءًا ، ولم تخالط بشاشته قلوبهم ، والذين تجرفهم مطامع الدنيا ، ويرون الإنحدار مع التيّار . وهذا كلُّه قد كان في أواخر عهد عثمان))([1]).

أقول : تَصوَّر شابـًّا يثق بسيد قطب ويعتبره من الأئمة المجدِّدين ـ كما صوّره دعاة الفتن والشغب ـ بأي منظار سينظر إلى عثمان الذي جنى على هذه الأمة في دينِها ودنياها حسب تصوّر سيد .

كم من الشباب المسلمين قرأ هذا النص وأمثاله ؟؟! .

كم من الشباب الذين ربّوا على تقديس سيد قطب وتقديس كتاباته ؟؟! .

كم منهم سيقع في حبائل الرفض والحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتقارهم والإزراء بهم ؟؟! .

لو كان سيد قطب من أهل الحق والسنة لوجه هذه الحملات على الروافض على الحكومات العبيدية الباطنية في مصر والمغرب وما فعلت بالإسلام والمسلمين وبدمائهم وأموالهم والمجازر التي نزلت بالمسلمين وخاصة العلماء ، وعلى دولة البوهيين وما فعلت بالمسلمين وبالخلافة الإسلامية ، وعلى دولة القرامطة وما فعلت بالمسلمين في العراق والجزيرة العربية في مكة بالذات ، وعلى الدولة الصفوية بالمسلمين في الشرق الإسلامي حيث أجبرتهم على عقيدة الرفض بالحديد والنار ، وعلى الروافض وعلى رأسهم النصير الطوسي وابن العلقمي حيث تآمروا مع التتار على الأمة الإسلامية وعلى خلافتها فأسقطوها وارتكبوا من الفظائع والمذابح الوحشية ما لم يعرف مثله في تاريخ الإنسانية.

ولعل هذا كله مما يسر سيد قطب ولا يسوءه ، وإلا فلماذا يغفله كله ولا يشير إلى شيءٍ منه لا من قريب ولا من بعيد ، ثم يقفز عبر القرون إلى العهد الذي أعزّ الله فيه الإسلام وأظهره على الأديان كلها عهد الفتوحات الواسعة العظيمة وعهد الانتصارات الإسلامية على الأديان الباطلة في مشارق الأرض ومغاربها؛ حيث دخلت في الإسلام معظم شعوب الأرض وأممها بفضله تعالى ونصره ، ثم بفضل جهاد عثمان ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده ـ ، ثم بفضل جهاد خلفاء بني أمية وقادتهم العظام ـ رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته ـ .

يقول سيد قطب : ((إن عثمان مضى وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض وخاصة في الشام وبفضل ما مكّن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع وعدم المبالاة بروح التآخي والإيثار والتكافل مما أحدثَ خلخلة في الروح الدينية ذاتها لدى الأمة الإسلامية)) .

إن المسلم الحق لا يحتمل سماع هذا الظلم والافتراء فضلاً عن أن يسجله وينشره بين الخافقين .

فهل قامت هذه المبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام وقامت الدولة الأموية بالفعل في عهد عثمان !!؟ .

وهل قامت هذه الدولة وقامت مبادؤها بفضل تمكين عثمان لها ؟؟ .

فكيف استطاع الصحابة والأمة الإسلامية من ورائهم أن يعقدوا بيعة الخلافة لعليّ ـ رضي الله عنه ـ إذا كانت دولة بني أمية قد قامت بالفعل ؟!! .

لا يشكّ مسلم أن عثمان لو مات موتـًا عاديـًّا أو قُتل بغير تلك الثورة الجاهلية لما حصل اختلاف بين المسلمين ولا انقسام ، ولكن قدر الله غالب .

لقد كان قتل عثمان فتنة دفعت خيار الصحابة كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم إلى المطالبة بدمه .

ودفعت كذلك معاوية وأهل الشام إلى المطالبة بدمه وتسليم قتلة عثمان لهذا الغرض فأبى ذلك عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، وهو المصيب إلا البيعة أوّلاً ثم المطالبة فالقصاص ممن تقوم عليه الحجة أنه شارك في قتل عثمان .

ذلك كان مطلب معاوية وقبله طلحة والزبير وعائشة ومَن شاركهم من الصحابة .

فكيف يترك سيد قطب هذه الحقائق ويركض وراء أقوال الروافض وأساطيرهم وترّهاتهم ؟ .

إن معاوية لم يطلب بالبيعة من المسلمين ولم يدع الأمر لنفسه بل كان مطلبه ومطلب من ذكر سابقـًا القصاص ممن قتل عثمان ، وقد كانوا في جيش عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، وكان ذلك قد أثار شبهـًا وظنونـًا حول عليّ ـ رضي الله عنه ـ وهو منها برئ؛ إن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ لم يشارك في دمه ، ولا أَمر ، ولا رضي؛ وقد روي عنه أنه قال : (والله ما قتلتُ ولا رضيت) ، وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان فقال : (اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر ، والسهل والجبل) ، وروي أن أقوامـًا شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان([2]) ، وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم ، وأنه من قتلة عثمان ، وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله .

وهذا ـ وأمثاله ـ مما يبيّن شبهة الذين قاتلوه ، ووجه اجتهادهم في قتاله ، لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقـًا))([3]).

ومذهب أهل السنة والجماعة : السكوت عما جرى بين الصحابة ، واعتبارهم مجتهدين جميعـًا ، للمصيب منهم أجران ، وللمخطئ أجر؛ وكان عليّ هو المصيب ومعاوية هو المخطئ ، وكان زمنهما زمن فتنة فلم يتبيّن للناس المصيب من المخطئ إلا بعد انتهاء هذه الفتنة .

والأمر كما يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ((وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت ، فأما إذا أقبلت فإنها تُزين وُيظن أن فيها خيرًا)) .

إن خلافة بني أمية كانت عزة ومنعة ، وكانت فتوحـًا في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها ، وكانت راية التوحيد والسنة عالية رفيعة ، وأهل البدعة شواذّ مقموعون ، فإذا ارتفعت رؤوس بعضهم قطعتها سيوف الحق .

روى مسلم في ((صحيحه))([4])عن الشعبي عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال : انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي فسمعتُه يقول : ((لا يزالُ هذا الدينُ عزيزًا منيعـًا إلى اثنى عشر خليفة)) فقال كلمة صمّنيها الناس فقلت لأبي ما قال ؟ ، قال ((كلهم من قريش)) .

وروى الإمام أحمد هذا الحديث في ((مسنده))([5])من طريق الشعبي عن جابر بن سمرة بلفظ : ((لا يزال هذا الأمر عزيزًا منيعـًا ينصرون على من ناوءهم عليه إلى اثنى عشرة خليفة)) ، ثم قال كلمة أصمنيها الناس فقلت لأبي ما قال ؟ ، قال : ((كلهم من قريش)) .

وقد حمل أهل السنة هذا على عهد بني أمية؛ فعهد بني أمية كان عهد خلافة ، وكان الإسلام في عهدهم عزيزًا منيعـًا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما هو الواقع التاريخي .

ولو لم يكن عهدهم عهدَ خيرٍ وعزّة للإسلام والمسلمين لما مدح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابن ابنته الحسن ـ رضي الله عنه ـ بالتنازل لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ : عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرّة وإليه مرة ويقول : ((إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين من المسلمين))([6]).

ولم يتنازل الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ عجزًا ، لكنه آثر مصلحة المسلمين وحقْن دمائهم ـ رضي الله عنه ـ ، ولم يكن معاوية ـ رضي الله عنه ـ راغبـًا في سفك دماء المسلمين ولا في الفتنة ، بل كان يكره ذلك ويقلق منه .

قال البخاري([7])ـ رحمه الله تعالى ـ : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسنَ يقول : ((استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانَها ، فقال له معاوية ـ وكان والله خيرَ الرجلين ـ : أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ ، من لي بنسائهم ؟ ، من لي بضيعتهم؛ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الله بن عامر بن كريز فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه؛ فأتياه فدخلا عليه ، فتكلّما وقالا له وطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ ، قالا : نحن لك به؛ فما سألهما شيئـًا إلا قالا : نحن لك به ، فصالحه؛ فقال الحسن : ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ((إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) .

فهذا الحسن ـ رضي الله عنه ـ يتنازل في ضوء توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنَّ جيشَه كان أمثال الجبال ، أفلو كان لبني أمية مبادئ وأصول تتنافى مع الإسلام وتتجافى مع أصوله وروحه أكان يستحل الحسن ـ ومن وراءه من هؤلاء الرجال كالجبال ـ التنازل والتسليم لدولة ذلك واقعُها وحالُها ؟؟ .

كلا ، ثم كلا . لقد تنازل لرجلٍ مسلم وصحابي جليل ، عرف القاصي والداني حسن إسلامه ، وصدقه ، واستقامته ، وعدله .

وإن هذا النص ليعطيك أنّ معاوية كان مشفقـًا رؤوفـًا بهذه الأمة ، ((أرأيت إن قَتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ ، من لي بنسائهم ، من لي بضيعتهم ؟)) ، ثم بعث رجلين أمينين مصلِحين ناجحين فالتزما بكلّ مطالب الحسن ـ ولا يطلب إلاّ حقـًّا ـ؛ فكان بهذا التنازل لمعاوية سيدًا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في ((الفتح)) : ((وفي هذه القصة من الفوائد : عَلم من أعلام النبوة .

ومنقبةٌ للحسن بن علي؛ فإنه ترك المُلك لا لقلّة ولا لذلّة ولا لعلّة ، بل لرغبته فيما عند الله لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين؛ فراعى أمرَ الدين ومصلحة الأمة .

وفيه : ردٌّ على الخوارج الذين كانوا يكفِّرون عليـًّا ومن معه ومعاوية ومَن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .

وفيه : فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيّما في حقن دماء المسلمين .

ودلالة على رأفة معاوية بالرعية ، وشفقته على المسلمين ، وقوّة نظره في تدبير الملك ، ونظره في العواقب .

وفيه : ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل؛ لأن الحسن ومعاوية ولي كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريّان . قاله ابن التين))([8]).

فينبغي أن ينظر المسلم إلى عهد بني أمية من خلال هذه النصوص النيّرة ، ومن خلال فهم علماء الإسلام لها؛ فلو كان في ملك بني أمية ومبادئهم مجافاة لروح الإسلام وعلى الصورة الشوهاء التي يصوّرها من أعمى بصائرهم الهوى ، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يقول في دولتهم وخلافتهم ما قال ؟؟! .

وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجّع الحسن والأمة على الصلح ، ويثني على الحسن ذلك الثناء العاطر أم كان يحثهم على الجهاد وإنقاذ مبادئ الإسلام من براثن بني أمية ؟ الذين وصف سيد قطب مبادئهم بأنها مجافية لروح الإسلام ؟! .

إن المسلمين حقـًّا في ذلك العهد وإلى اليوم يعتبرون ذلك الصلح والتنازل عام خير وسعادة على الأمة الإسلامية حتى سمّوه (عام الجماعة) ، وإن خلافتهم كانت عزّة وفتوحـًا ، أدخل الله بسببهم أممـًا وشعوبـًا في الإسلام كما أخبر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، كما تشهد بذلك الأمة الإسلامية وتاريخها المشرق .

وروى البخاري([9])من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه سمعه يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ـ وكانت تحت عبادة بن الصامت ـ ، فدخل يومـًا فأطعمته ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استيقظ يضحك ، قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ ، فقال : ((ناسٌ من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ، يركبون هذا البحر ملوكـًا على الأسرّة)) أو قال : ((مثل الملوك على الأسرة)) يشك إسحاق؛ قالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا ، ثم وضع رأسه ، فنام ، ثم استيقظ يضحك ، فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ ، قال : ((ناسٌ من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكـًا على الأسرة)) أو مثل الملوك على الأسرة ، فقلت : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت من الأولين؛ فركبت البحر زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت .

فهذه رؤيا نبوية صادقة من أعلام النبوة وقع مصداقها في زمن عثمان بقيادة معاوية ـ رضي الله عنه ـ دالّة على عزّة الإسلام وعزّة أهله في هذه الفترة ، وأن حالتهم حالة الملوك في الهيئة والأبّهة ـ لا كما يصورهم المغرضون من حالة البؤس والشقاء ـ ، وأن جهادهم في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله .

فمن خلال هذه النصوص الصحيحة المشرقة نتحدّث ونحكم على عهد عثمان وبني أمية والأمة الإسلامية في تلك العهود الزاهرة عهد عزّة الإسلام والمسلمين ومنعته ومنعتهم .

وإليك صورةً مشرقة عن عهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ يتجلّى فيها صدق إيمانهم وورعهم وكمال أخلاقهم ، وأنهم من خير القرون بحقٍّ وجدارة :

قال أبو إسحاق الفزاري عن صفوان بن عمرو قال : حدثنا حوشب بن سيف قال : غزا الناس في زمان معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد فغلَّ رجلٌ من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم الرجل فأتى عبد الرحمن بن خالد فأخبرَه خبره ، وسأله أن يقبلها منه ، فأبى وقال : قد تفرّق الجيشُ فلن أقبلها منك حتى تأتي بها يوم القيامة؛ فجعل يستقرئ أصحاب النبي عليه السلام يسألهم فيقولون مثل ذلك ، فلما قدم دمشق على معاوية فذكر ذلك له ، فقال له مثل ذلك؛ فخرج من عندِه وهو يبكي ويسترحم؛ فمرَّ بعبد الله بن الشاعر السكسكي ، فقال : ما يبكيك ؟ ، فذكر له أمرَه ، فقال : أمطيعي أنت يا عبد الله ؟ ، قال : نعم ، قال : فانطلق إلى معاوية فقل : اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارًا ، وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدّق بها عن ذلك الجيش؛ فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلمُ بأسمائهم ومكانهم؛ ففعل الرجل ، فقال معاوية : لأن أكون أفتيتُه بها أحبّ إليّ من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل))([10]).

ولا يجوزُ الحديث عنهم بتصوّرات الإشتراكيين الثائرين على الإقطاعيين والرأسماليين ، ولا نتحدّث عنهم من خلال روايات الروافض الحاقدين .

وقول سيد : ((وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية ـ إن حقـًّا وإن باطلاً([11])ـ أن الخليفة يؤثر أهله ويمنحهم مئات الألوف ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .

هذا يدلّ على رغبة سيد قطب الجامحة في الطعن في عثمان وبني أمية ، وعلى الرغبة الجامحة في الإشادة وكيل المديح لتلاميذ ابن سبأ أصل كل بلاء وفتنة نزلت بالأمة .

إن الطيور على أشكالها تقع ، وإن الأرواح جنودٌ مجندّة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .

وقد تقدّم للقارئ ما يُزيِّف هذه الأكاذيب في إغداق عثمان الأموال على بني أمية ، ولعله يأتي إيضاحات أخرى .

أما قوله : ((ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداءَه)) .

فلا يسعُنا إلا أن نقول : { ولولا إذْ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتانٌ عظيم } ، وإن في هذا الكلام لطعنـًا في دين عثمان وأمانته ما وراءه طعن .

ولا أدري أتلقّف سيد قطب هذا من الروافض أم هو من إنشائه تعاطفـًا معهم وتودّدًا إليهم ، ولسان حاله يقول : نحن لا نقلّ عنكم حقدًا على عثمان وبني أمية ، بل على ذلك المجتمع الطاهر في عهد عثمان وبني أمية ، فلذا نقذفهم بهذه القذائف دون أيّ احترام لذلك المجتمع ودون احترام لمشاعر أهل السنة .

أيعزل عثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليولي أعداء
رسول الله ؟؟؟ .

أين براهينك على هذه الاتهمات الظالمة ؟ .

أهذه منزلة خير القرون عندك ؟ .

والذي يعرف مذهب سيد في التكفير لا يتردّد أنه يكفِّر ولاة عثمان .

وهكذا يتجرّأ سيد هذه الجرأة العظيمة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .

هل هذا هو واقع عثمان وواقع ولاته ؟ .

وهل ينظر علماء الإسلام إلى عثمان وولاته بهذا المنظار الأسود الكريه ؟ .

أولاً : لم يكن عثمان يعزل ويولي تبعـًا لهواه ـ حاشاه ـ ، وإنما يراعي في ذلك مصلحة المسلمين وتلبية لرغبتهم في عزل من كرهوه من الولاة ولو كان صالحـًا .

قال ابن جرير : وكتب إليَّ السري عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي حارثة وأبي عثمان قالا : لما ولي عثمان أقر عمرو بن العاص على عمله ، وكان لا يعزل أحدًا إلا عن شكاة أو استعفاء من غير شكاة([12]).

فهذا هو الذي يتّفق مع أخلاق عثمان ، وشرفه ، ومروءته ، وإيمانه ، وحيائه ، وخوفه من الله .

إننا نعتمد مثل هذه الرواية وإن كانت ضعيفة لأنّ لها ما يدعمها ، ولأن الأصل براءة المسلم لا سيّما أصحاب رسول الله ـ كما قدّمنا ذلك غير مرّة ـ؛ وهذا أخفّ ألف مرّة من الاعتماد على أكاذيب الروافض .

ثانيـًا : قال عثمان في اعتذراه عن تجنِّي أهل الفتنة عليه : قالوا : استعملت الأحداث ، ولم أستعمل إلا مجتمعـًا محتملاً مرضيـًّا؛ وهؤلاء أهل عملهم ، فسلوهم عنه ، وهؤلاء أهل بلده؛ ولقد ولى مَن قبلي أحدثَ منهم ، وقيل في ذلك لرسول الله أشدّ مما قيل لي في استعماله أسامة ، أكذلك ؟ ، قالوا : اللهم نعم([13]).

وما أظن أنه خطر ببال أهل الفتن أنّ عثمان يولي أعداء الله فضلاً عن أن يتفوّهوا بذلك .

ثالثـًا : أن لعثمان أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بنو أمية أكثر القبائل عمالاً .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ((وقد كان في بني أمية قومٌ صالحون ماتوا قبل الفتنة ، وكان بنوا أمية أكثر القبائل عمّالاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتّاب بن أسيد بن أبي العيص([14])بن أمية ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخويه أبان بن سعيد ، وسعيد بن سعيد على أعمال أخر ، واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران))([15]).

وقال في موضع آخر : ((وكان كثير من أمراء النبي صلى الله عليه وسلم على الأعمال من بني أمية؛ فإنه استعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العيص([16])بن أمية ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مذحج وصنعاء اليمن ، ولم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ، واستعمل عَمْرًا([17])على تيماء وخبير وقرى عرينة ، وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضـًا على البحرين برّها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي ، فلم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم .

وولاه عمر ـ رضي الله عنه ـ ولا يُتَّهم في دينه ولا في سياسته .

قال الحافظ ابن حجر في ((الإصابة))([18]): ((وأخرج أبو العباس السرّاج من طريق خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد حدثني أبي أنّ أعمامَه خالدًا وأبانـًا وعمرو بن سعيد بن العاص لما بلغتهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا عن أعمالهم فقال لهم أبو بكر : ما أحد أحقّ بالعمل منكم ، فخرجوا إلى الشام فقتلوا بها جميعـًا ، وكان خالد على اليمن ، وأبان على البحرين ، وعمرو على سواد خيبر)) .

قال شيخ الإسلام : ((وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابتٌ مشهور عنه ، بل متواتر عند أهل العلم؛ فكان الاحتجاج على جواز استعمال بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معيّن من بني هاشم بالنص؛ لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل ، وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل .

وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي منهم إلاّ عليـًّا على اليمن ، وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة))([19]).

وقد ثبت في ((الصحيح)) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم)) ، قالوا : ومعاوية كانت رعيته تحبُّه وهو يحبهم ، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم .

رابعـًا : أن له أسوة في أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام ، وأقرّه عمر ، ثم ولى عمر بعده معاوية .

ونقل الحافظ ابن حجر في ((الإصابة))([20])ما رواه البرقي في ((تاريخه)) عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد : أن الليث قال : كان ابن أبي سرح على الصعيد زمن عمر ، ثم ضمّ إليه عثمان مصر كلها ، وكان محمودًا في ولايته))([21]).

وقال ابن عبد الحكم : ((توفي عمر ـ رضي الله عنه ـ ومصر على أميرين عمرو ابن العاص بأسفل الأرض ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على الصعيد))([22]).

وذكر ابن عبد الحكم أن عثمان لم يول عبد الله إلاّ بعد أن رفض عمرو بن العاص العودة إلى مصر إلا أن يوليه مصر كلها فلم يستجب له عثمان ، ثم ولّى عبد الله ابن سعد على مصر كلها؛ قال ابن عبد الحكم : فلبث عبد الله عليها أميرًا محمودًا ، وغزا فيها ثلاث غزوات كلهنّ لها شأن : إفريقية ، والأساود ، ويوم ذي الصواري؛ وله جهاد وفتوحات ، منها : فتح إفريقية))([23]).

وأَقرّ عمر ـ رضي الله عنه ـ سعد بن أبي وقاص أن يؤمر الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ ، فتوجّه لقتال الروم ، فلما قدم على تغلب نهض معه مسلمهم وكافرهم ، ثم إنه تشدّد على تغلب فلم يقبل منهم إلا أن يسلموا حتى ثناه عن ذلك عمر))([24]).

خامسـًا : لم يقصر عثمان الولايات على بني أمية ويغدقها عليهم كما يقول خصومه ، بل كان هناك أمراء كثر من شتّى القبائل يلون أمور المسلمين في جهات كثيرة في زمن عثمان .

وقد ذكر ابن جرير في ((تاريخه)) عددًا من عمال عثمان الذين استعملهم على الأمصار ، فمنهم :

1 ـ الأشعث بن قيس : إلى أذربيجان .

2 ـ وسعيد بن قيس : على الري .

3 ـ وكان سعيد بن قيس : على همذان ، فعزل ، وجعل عليها النسير العجلي .

4 ـ وعلى أصبهان : السائب بن الأقرع .

5 ـ وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي .

6 ـ وعلى الموصل : حكيم بن سلامة الحزامي .

7 ـ وجرير بن عبد الله : على قرقيسيا .

8 ـ وسلمان بن ربيعة : على الباب .

9 ـ وعلى الحرب : القعقاع بن عمرو .

10 ـ وعلى حلوان : عتيبة بن النهاس([25]).

هؤلاء من وقفنا عليهم في جهة المشرق .

وكان عبد الرحمن بن خالد أميرًا على حمص .

ثم لماذا يتجاهلون أنّ عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ قد ولى من هو دون من ولاهم عثمان ، ويتجاهلون أنه قد ولى أناسـًا من أقاربه ؟ ، والعجب أن سيد قطب قد نهج هذا المنهج؛ فلا حولَ ولا قوة إلا بالله .

وقد زعم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه ((منهاج الكرامة)) أن عثمان ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية .

فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ((منهاج السنة))([26])
و ((المنتقى))([27])منه للذهبي : ((أن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ ولى زياد بن أبي سفيان وولى الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء .

ولا يشكّ عاقل أن معاوية خير من هؤلاء كلهم ...)) ، ثم قال : ((ومن العجب : أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية ، ومعلوم أن عليـًّا ولى أقاربَه من قبل أبيه وأمه :

1 ـ فولّى عبيد الله بن عباس على اليمن .

2 ـ وولى على مكة والطائف قثم بن العباس .

3 ـ وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف ، وقيل : ثمامة بن العباس .

4 ـ وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس .

5 ـ وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي ربّاه في حجره ( لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيرًا ) .

ثم إن الإمامية تدّعي أن عليـًّا نصّ على أولاده في الخلافة أو على ولده ، وولده على ولده الآخر وهلم جرّا .

ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكرًا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال))؛ فكما لا يجوز الطعنُ على عليّ بما فعله اجتهادًا كذلك لا يجوز الطعنُ على عثمان بما فعله اجتهادًا ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ .

ولا يفرق بين العملين والرجلين إلاّ أصحاب الأهواء والأغراض .

وإنما يذكر شيخ الإسلام هذا تقريعـًا وتوبيخـًا لأهل الأهواء وبيان تناقضهم وفضح نواياهم .

سادسـًا : لماذا يكثر الروافض ومَن سار على طريقهم الطعن على عثمان بإيثار بني أمية بالمناصب في الدولة ـ على حدّ زعمهم ـ ، وينسون أنّ له سلفـًا وأسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينسون أنّ هذا اجتهاد مراعـًا فيه مصلحة الأمة ، وينسبون كثرة بني أمية؛ إذْ هم أكثر بطون قريش عددًا ، وينسون كفاءتم لهذه الأعمال والفتوحات العظيمة التي فتحها الله على أيديهم والعزّ العظيم الذي بلغه الإسلام والمسلمون على أيديهم ، وينسون الأخلاق العالية التي كان يتمتع بها هذا البطن من قريش من الحلم ، والأناة ، والصبر ، والجود .

ومَن أحبَّ أن يعرف هذا فليقرأ في التاريخ سيرهم وتعاملهم مع الناس .

قال الشيخ محب الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ : ((أما الذي يرجع إلى الصحيح الممحص من وقائع التاريخ ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليه ـ ، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية ، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمة وسعادتها فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي))([28]).

أقول : وأعجب لقول سيد قطب في عهد بني أمية : ((لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد ، ولكن روحه انحسرت بلا جدال؛ وما قيمة الرقعة إذا انحسرت الروح ؟))([29]).

وقول سيد قطب : ((ويبعد مثل أبي ذر لأنه أنكر كنز الأموال ، وأنكر الترف الذي يخبّ فيه الأثرياء ، ودعى إلى مثل ما كان يدعو إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الإنفاق والبرّ والتعفّف)) .

يصف سيد قطب ذلك المجتمع من الصحابة وخيار التابعين تارةً بالترف وتارة بالإقطاع وتارة بالأرستقراطية ، وكلها في غاية القبح .

((فالمترف: هو الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش وأترفته النعمة أي أطغته كما في لسان العرب ))([30])

أما حكم المترف عند سيد قطب فهو كما يقول في هذا الكتاب:

((والآيات القرآنية والاحاديث النبوية في كراهة الترف وتحريمه متواترة كثيرة بصفة بارزة تشعر بأنه من أكره الحرام الى الله ورسوله والاسلام الذي يحض الناس على التمتع بطيبات الحياة ويكره أن يحرموها على أنفسهم وهي لهم حلال يدعو إلى جعل الحياة بهيجة مقبولة لا قاتمة ولا منبوذة ... هذا الإسلام نفسه يكره السرف والترف تلك الكراهية الشديدة العنيفة.

فالقرآن يصف المترفين أحيانا بسقوط الهمة وضعف القوة وهبوط الأريحية: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين}.

وإذا عرفنا حرص الإسلام على الجهاد وحثه عليه وتعظيم من يتطوعون له حتى ليقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق )) أدركنا في الجانب الآخر كم يحتقر أولي الطول هؤلاء لتخلفهم وقعودهم عن صفوف المجاهدين.

ولا غرابة في هذا ، فالمترف مترهل ضعيف الارادة ناعم قليل الرجولة لم يعتد الجهد فسقطت همته ، وفترت أريحيته ، والجهد في الجهاد يعطل عليه متاعه الشهواني الرخيص ويحرمه لذاته الحيوانية فترة من الوقت وهو لا يعرف قيمة في الحياة سوى هذه القيم الداعرة الشائنة ))([31]) ... ثم يواصل الكلام على المترفين ويسوق الآيات فيهم ... ثم يقول معلقا على بعض الايات: ((ولا غرابة في هذا فالمترفون حريصون على حياتهم الرخوة الشاذة المريضة حريصون على شهراتهم ولذائذهم حريصون على أن تكون من حولهم حاشية وبطانة خاضعة لنفوذهم))([32]) ثم يواصل الكلام في هذا الصدد.

واذا كانت هذه هي نظرة سيد الى المترفين ، بل هى نظرة جميع المسلمين فلماذا يصف ذلك المجتمع الطيب الخير بالتمرغ فيه وكبار اغنيائه من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يحاربون الترف أكثر من سيد وأمثاله.

ولا شك أن المال قد فاض في عهد عثمان لاتساع الفتوح وكثرة الغنائم والفيء وتدفق الخير على الأمة ، فتوسع بعض الناس لما وسع الله عليهم فبالغ أبو ذر في الشدة والانكار عليهم.

ولم يكن أبو ذر من دعاة الثورة والفتن والخروج حاشاه .

بل كان يعلن السمع والطاعة ويذكر الاحاديث النبوية في ذلك - رضى الله عنه.


([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ، و ( ص : 190 ) ط خامسة .

المترف : الذي أبطرته النعمة وسعة العيش . وأترفته النعمة ، أي : أطغته .

([2]) لا يبعد أن يكون هؤلاء من تلاميذ ابن سبأ؛ وهذه من مكايدهم .

([3]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن كتاب ((أمير المؤمنين معاوية)) للأخ محمد مال الله
( ص : 48 ) .

([4]) ( 33 ، كتاب الإمارة ، حديث : 1821 ( 5 ـ 10 الرقم الخاص ) .

([5]) ( 5/98 ـ 99 ، حديث : 20964 ـ 20975 ) .

([6]) البخاري : ( فضائل الصحابة ، حديث : 3746 ) .

([7]) في ((صحيحه)) : ( 53 : كتاب الصلح ، الحديث : 2407 ) .

([8]) انظر : ((الفتح)) : ( 13/66 ) .

([9]) في ((صحيحه)) : ( 79 : كتاب الاستئذان ، الحديث : 6282 ـ 6283 ) .

([10]) كتاب ((السير)) لأبي إسحاق الفزاري ( ص : 249 ) .

ورواه سعيد بن منصور ، وابن عبد البر في ((التمهيد)) : ( 2/24 ) نقلاً عن محقق ((السير)) ، وقد رجعتُ إلى ((التمهيد)) فوجدت فيه مغايرة في الإسناد والمتن لما هنا .

([11]) من أعجب العجائب إن سيد قطب يشك في صحة الشائعات هذه ضدّ عثمان وأهله ، ثم يقدم بجرأة وعنف على مهاجمتهم والطعن فيهم ، وفي الوقت نفسه يمدح أهل الفتن الذين افتعلوا هذه الشائعات ، ثم من هم أعداء رسول الله الذين كان يوليهم عثمان .

والجواب : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل معاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن أبي سرح ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر بن كريز العامري؛ وكلٌّ منهم له صحبة وسيرة حسنة في رعيته ، ولهم فتوحات إسلامية عظيمة في الشرق والغرب .

وقد ولاهم ـ قبل عثمان ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ .

ومن الطريف : أنّ كلاًّ من أبي بكر وعمر قد ولى الوليد بن عقبة وهو من أشدّ ما ينقم به المغرضون على عثمان .

فمن ينكر على عثمان ـ رضي الله عنه ـ تولية هؤلاء فلينكر على أبي بكر وعمر
ـ رضي الله عنهما ـ .

ومن ينكر على عثمان أن يولي الأكفّاء من بني أمية فلينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد ولى منهم الكثير على أعماله .

([12]) ((التاريخ)) : ( 4/253 ) .

([13]) ((تاريخ الطبري)) : ( 4/347 ) .

([14]) في الأصل : ((العاص)) ، والصواب ما أثبت .

([15]) ((منهاج السنة)) ( ص : 144 ـ 145 ، ج 4 ) .

([16]) في الأصل : ((العاص)) ، والصواب ما أثبت .

([17]) هو : عمرو بن سعيد بن العاص . انظر : ((الإصابة)) .

([18]) ( 2/532 ) .

([19]) ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) ( ص : 383 ) .

([20]) ((الإصابة)) : ( 2/309 ) .

([21]) نفس المرجع السابق .

([22]) ((فتوح مصر)) ( ص : 471 ) .

([23]) ((فتوح مصر)) ( ص : 173 ـ 174 ) .

([24]) انظر : ((تاريخ ابن جرير)) : ( 4/51 ، 54 ، 55 ) .

([25]) ((تاريخ ابن جرير)) : ( 4/422 ، 264 ـ 265 ) .

([26]) ( 3/173-176) .

([27]) ( ص : 382-383) .

([28]) حاشية ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) 
==========
اتهامات خطيرة للصحابة والمجتمع المسلم في عهد عثمان
وقول سيد : ((فإن النتيجة الطبيعية لشيوع مثل هذه الأفكار ـ إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن تثور نفوس ، وأن نتحل نفوس ... تثور الذين أُشربت نفوسهم روح الدين إنكارًا وتأثّمـًا ، وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداءً ولم تخالط بشاشته قلوبهم ، والذين تجرفهم مطامع الدنيا ويرون الإنحدار مع التيّار . وهذا كلُّه قد كان في أواخر عهد عثمان)) .

أقول : مَن هم هؤلاء الذين أُشربت نفوسهم روح الدين من المنكرين على زعمه غير أبي ذرّ ؟؛ فإنه لا شك قد أشربت نفسه روح الدين ، ولكنه قد انفرد عن إخوانه من الصحابة الكرام الذين فيهم مَن هو أفضلُ منه ومنهم عثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاّص ، وغيرهم ممن هم أفضل من أبي ذرّ ، وأشربت نفوسهم روح الدين وخالطت بشاشته قلوبهم رضي الله عنهم أجمعين .

لا يستطيع سيد أن يسمّي أحدًا من الصحابة ولا من خيار التابعين؛ ثم إن أبا ذر لا علاقة له بالاشتراكيّة التي نسبها إليه وإلى الإسلام الاشتراكيون ومنهم سيد قطب .

وأقول : إن هؤلاء الثائرين الذين وصفهم سيد بأن نفوسهم قد أُشربت روح الدين إنما هم تلاميذ ابن سبأ من أهل الفتن والشغب والنفاق .

ولا علاقة للصحابي الجليل أبي ذرٍّ بهم ولا بمنهجهم ولا بمطالبهم ولا بشغبهم وفتنهم .

وهم على ظلمهم لا علاقة لهم بالمذهب الاشتراكي الذي يمدح سيد أهل الفتن من أجلِه؛ والدليل قوله فيما سبق : ((وأخيرًا : ثارت الثائرة على عثمان ، واختلط فيها الحقُّ بالباطل والخير بالشر ، ولكن لا بدّ لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام ويستشعر الأمور بروح الإسلام أن يقرّر أن تلك الثورة في عمومها كانت فورة من روح الإسلام؛ وذلك دون إغفال لِما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ ـ عليه لعنة الله ـ))([1]).

ولا شكّ أنه يقصد بقوله : ((وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداء ولم تخالط بشاشته قلوبهم ...)) إلخ أشملُ وأعمٌّ من بني أمية مما يدخل في عمومه جلّ الصحابة الموجودين وأغلب خيار التابعين؛ فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله .

ونعوذ بالله من هوىً يصل بأصحابه إلى هذا المصير ، وإلى مثل هذا الإطراء للأشرار والإزراء بالأبرار الأخيار .

وذلك لا يرضي إلا أعداء الله من اليهود والنصارى والشيوعيين والباطنيين والحاقدين على ذلك المجتمع الخيِّر الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خيرُ القرون .

إن غالبيهم أصحاب مبادئ ودين وخلُق .

وأهل السنة لا ينظرون إليهم بمنظار سيد قطب ، وإنما يقولون : إنهم مجتهدون بعضهم يصوِّب اجتهادهم ، وبعضهم يخطئوه .

ثم يرى سيد أن منهج عليّ الإصلاحي أو التغييري لردّ الأمر إلى نصابه وردّ التصوّر الإسلامي إلى نفوس الناس والحكام هو بأكل الشعير الذي تطحنه امرأته .

كان يجب على سيد أن يدرك أنه يعالج موضوعات وقضايا خطيرة تحتاجُ إلى نقولٍ صحيحة ، وإلى استرشاد بمنهج أهل العلم والسنة والحق ، وإلى تأدبٍ جمّ مع عثمان والصحابة والتابعين في عهده ، كيف نسي سيد هذا الفقه العظيم ؟ ، ونسي هذا المقصد الأسمى الذي شرعه الإسلام للمسلمين لتنطلق نفوسهم إلى ما فوق الضرورة من التفكير العالي والإحساس الراقي والتأمل في الكون والخلْق والنظر إلى الجمال والكمال ؟! .

ثم كيف يجعل سيد هذا الشظف من فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ وهو يقول في هذا الكتاب : ((فإذا كان الإسلام يعطي الفقير فضلة من أموال الزكاة يوسع بها على نفسه ويستمتع بما هو فوق ضرورته فأولى أن ينفق الواجد وأن يتمتع بالحياة متاعـًا معقولاً ، وأن لا يحرم نفسه من طيباتها وهي كثيرة لتغدو الحياة بهيجة جملية ، ولتنطلق النفس إلى ما هو فوق الضرورة من التفكير العالي والإحساس الراقي ، والتأمُّل في الكون والخلْق ، والنظر إلى الجمال والكمال؛ والرسول الكريم يقول : ((إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته))([2]).

فيعد الشظف والمتربة ـ مع القدرة ـ إنكارًا لنعمة الله يكرهه الله([3]).

كيف يرضى سيد لعلي ـ رضي الله عنه ـ أن يعيش دون هذا المستوى ودون تحقيق هذه الأهداف مخالفـًا هذه المقاصد الإسلامية العليا والغايات النبيلة ومخالفـًا التوجيه النبوي الكريم ؟ .

ولا شكّ أن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ كان من أكبر كبراء فقهاء الصحابة ، وكان بعيدًا عن تلك الصورة التي صوّرته بها الروايات الرافضية أو الصوفية الغالية؛ فلقد كان عليّ ـ رضي الله عنه ـ يتمتّع بالطيبات ، ويلبس اللباس الجميل اللائق بمكانته ـ رضي الله عنه ـ .

ولكن سيد استروح إلى تلك الروايات الباطلة ، وتناسى فقهه في هذه القضية ليظهر الفرق الكبير بين عثمان وعلي .

عثمان وسائر الصحابة يعيشون في غاية الترف ، وعليّ ـ رضي الله عنه ـ يعيش في غاية الشظف ، وإن كان في داخل نفسه يرى أن هذا الشظف إنكار لنعمة الله؛ فلا حولَ ولا قوة إلا بالله .

قال سيد : ((وربما باع سيفه([4])ليشتري بثمنه الكساء والطعام ، وكره أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة مؤثرًا عليه الخصاص([5])التي يسكنها الفقراء؛ جاء ليعيش كما روى عنه النضر بن منصور([6])عن عقبة بن علقمة([7])قال : دخلتُ على عليّ عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته ، وكسر يابسه ، فقلت : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟ ، فقال لي : يا أبا الجنوب كان رسولُ الله يأكل أيبس من هذا ، ويلبيس أخشنَ من هذا ـ وأشار إلى ثيابه ـ ، فإن لم آخذ بما أخذ به خفتُ ألا ألحقَ به .

أو كما روى عنه هارون بن عنترة عن أبيه قال : دخلتُ على عليّ بالخورنق([8])وهو فصل شتاء ، وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه ، فقلت : يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبـًا وأنت تفعل هذا بنفسك ؟ ، فقال : ((والله ما أرزؤكم شيئـًا ، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة))([9]).

وهكذا ينقل سيد هذه النقول ليبيِّن بها الفروق الهائلة بين تصوّر الحكم في نفس عليّ وتصوّر الحكم في نفس عثمان .

والفروق الهائلة بين علي وقد سار في طريقه يرد للحكم صورته كما صاغها النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده وبين عهد عثمان الذي تحطّمت فيه الأسس التي جاء بها الإسلام ليقيمها بين الناس .

ولا يحتاج سيد إلى أن يذكر المصادر ولا إلى دراسة الروايات للتأكّد من صدقها أو كذبها ، بل يكفي أن تلك قيلت في ذم عثمان وعهده ، وهذه قيلت في مدح علي في نظره؛ لأن هذه الحياة لم يعشها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام .

ولو درس سيد قطب حياة الخلفاء الأربعة دراسة علمية منصفة واعتمد على الأحاديث والروايات الصحيحة في فضلهم لَما فرّق بينهم هذا التفريق المفزع ، لكنه تصوّر الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعليـًّا بناء على الروايات الواهية أنّ حياتهم كانت حياة قوم طبقوا النظام الاشتراكي تطبيقـًا دقيقـًا على أنفسهم وغيرهم ، وإن كان عمر قد خالف الاثنين لكنه ندم ورجع إلى مذهبهم في المساواة في العطاء .

ولو درسهم دراسة فاحصة لربما هجم عليهم هجومـًا لا هوادةَ فيه كما هاجم أخاهم عثمان ـ رضي الله عنه ـ .

ولنضرب أمثلةً من حال علي ـ رضي الله عنه ـ :

قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن محمد بن كعب القرظي : أن عليـًّا قال : ((لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأربطُ الحجرَ على بطني من الجوع ، وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفـًا))([10]).

وقال ابن أبي يحيى عن محمد بن كعب القرظي عن عمّار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ في حديثٍ ساقه قال : ((أقطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ بذي العشيرة من ينبع ، ثم أقطعه عمر ـ رضي الله عنه ـ بعدما استخلف إليها قطيعة ، واشترى عليّ ـ رضي الله عنه ـ إليها قطيعة وحفر بها عينـًا ، ثم تصدّق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل ، القريب والبعيد ، وفي الحياة والسِّلم والحرب ، ثم قال : صدقة لا تُوهب ولا تورث ، حتى يرثها الله الذي يرث الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين))([11]).

أموال علي ـ رضي الله عنه ـ :

قال([12]): وكانت أموال علي ـ رضي الله عنه ـ عيونـًا متفرِّقة بينبع ، منها : عينٌ يقال لها : (عين البحير) ، وعين يقال لها : (عين أبي نيزر) ، وعين يقال لها : (عين نولا)؛ وهي اليوم تدعى العدر ، وهي التي يقال لها أن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ عمل فيها بيده ، وفيها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم متوجهة إلى ذي العشيرة يتلقى عير قريش . وفي هذه العيون أشراب بأيدي أقوام زعم بعض الناس أن ولاة الصدقة أعطوهم إياها .

وزعم الذين هي بأيدهم أنها ملك لهم ، إلا ( عين نولا ) فإنها خالصة ، إلاّ نخلات فيها بيد امرأة يقال لها (بنت يعلى) مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

وعمل عليّ ـ رضي الله عنه ـ بينبع (البغيبغات) ، وهي عيون منها : عين يقال لها : (خيف الأرك) ، ومنها عين يقال لها (خيف ليلى) ، ومنها عين يقال لها : (خيف بسطاس) فيها خليج النخل مع العين .

وكانت (البغيبغات) مما عمل علي ـ رضي الله عنه ـ وتصدّق به؛ فلم تزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يأكل ثمرتها ويستعين بها على دينه ومؤونته على أن لا يزوّج ابنته يزيد بن معاوية بن أبي سفيان؛ فباع عبد الله تلك العيون من معاوية ـ رضي الله عنه ـ .

ولعليٍّ ـ رضي الله عنه ـ عينٌ يقال لها : (عين الحدث) بينبع ، ولعليّ ـ رضي الله عنه ـ في صدقاته (عين ناقة) بوادي القرى ، يقال لها : (عين حسن) بالبيرة من العلا .

وكان له صدقات بالمدينة : (الفقيرين) بالعالية ، و (بئر الملك) بقناة ، و (الأدبية) بالأضم؛ فسمعتُ أن حسنـًا أو حسينـًا باع ذلك كله .

وله بوادي القرى ـ أيضـًا ـ : (عين موات) ، ولعلي ـ رضي الله عنه ـ أيضـًا حقّ على (عين سكر) ، وله ـ أيضـًا ـ ساقي على عين بالبيرة ، وهو في الصدقة .

وله بحَرّة الرجلا من ناحية شعب زيد وادٍ يُدعى الأحمر ، شطرُه في الصدقة وشطره بأيدي آل مناع من بني عدي منحةً من علي ، وكان كله بأيديهم حتى خاصمه فيها حمزة بن حسن فأخذ منهم نصفه .

وله ـ أيضـًا ـ بحرّة الرجل وادٍ يقال له : (البيضاء) فيه مزارع وعفا وهو في صدقته([13]).

وقد ذكر ابن شبّة بعد هذا أملاكـًا لعلي ـ رضي الله عنه ـ وصدقات وعبيدًا وعتقاء لا يتّسع البحث لسردِها .

قال ابن حزم في كتابه ((الملل والنحل))([14]): ((وأما علي ـ رضي الله عنه ـ فتوسّع في هذا الباب من حلِّه ، ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد ، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدًا من ذكر وأنثى ، وترك لهم العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم . هذا أمرٌ مشهور ، لا يقدر على إنكاره من له أقلّ علم بالأخبار والآثار؛ ومن جملة عقاره التي تصدّق بها كانت تغلّ ألف وسق تمرًا سوى زرعها؛ فأين هذا من هذا ؟)) .

كيف يكون موقف سيد قطب من عليّ لو اطلع على هذه الأخبار التي تدلّ على أنّ عليـًّا كان يملك الأراضي والآبار والعيون والوديان ، ولو تصدّق بالكثير منها كغيره من الصحابة .

أما نحن فنقول : إن هذا لا يضر عليـًّا ولا إخوانه من أغنياء الصحابة كعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف فإنّ الله وسع عليهم وأدرَّ عليهم رزقه وفضله؛ فكانوا فيه سمحاء أسخياء أبرار متصدّقين ووصالين لأرحامهم؛ فقد والله فقهوا الإسلام فاتخذوا الأموالَ نجائب ومطايا إلى الجنة .

قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في ((المحلى)) : ((الحرام حرام ولو أنه مقدار ذرة ، وكثير الحلال حلال ولو أنه الدنيا وما فيها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وإن هذا المال خَضِرة حُلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل)) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنه من يأخذه بغير حقِّه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة))([15]) ، وفي لفظ : ((وإن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بحقه ، ووضعه في حقِّه ، فنعم المعونة هو ، ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع))([16]) ، وهو من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ ، وعن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ : ((نعم المال الصالح للمرء الصالح))([17]).

إن سيد قطب يصرّ ويلحّ على أن الحكم قد فسد في عهد عثمان ، وقد تشتدّ عبارته أحيانـًا ويلطفها أحيانـًا .

قال سيد في موضع آخر : ((وفي سبيل تبرءة الإسلام روحه ومبادئه من ذلك النظام الوراثي الذي ابتدع ابتداعـًا في الإسلام نقرّر هذه الحقائق لتكون واضحة في تصوّر الحكم الإسلامي على حقيقته ، ولكي ندرك عمق هذه الحقيقة يجب أن نستعرض صورًا من سياسة الحكم في العهود المختلفة على أيدي أبي بكر وعمر ، وعلى أيدي عثمان ومروان ، وعلى يدي علي الإمام ، ثم على أيدي الملوك من أمية ومن بعدهم من بني العباس بعد هذه الهزّة المبكرة في تاريخ الإسلام))([18]).

وقال : ((قام أبو ذرّ ينكر على المترفين ترفهم الذي لا يعرفه الإسلام ، وينكر على معاوية وأمية خاصّة سياستهم التي تقرّ هذا الترف وتستزيد منه وتتمرّغ فيه ، وينكر على عثمان نفسه أن يهب من بيت المال المئات والألوف فيزيد في ثراء المثرين وترف المترفين علم أن عثمان أعطى مروان بن الحكم خُمس خراج أفريقية والحارث بن الحكم مائتي ألف درهم ، وزيد بن ثابت مائة ألف . وما كان ضمير أبي ذرّ
ليطيق شيئـًا من هذا كله ، فانطلق يخطب في الناس : لقد حدثت أعمال ما أعرفُها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ، وإني لأرى حقـًّا يطفا ، وباطلاً يحيا ، وصادقـًا مكذّبـًا ، وأثرة بغير تقى)) ([19]).

فأنت ترى قناعة سيد بفساد الحكم في عهد عثمان ، وأن حقيقة التصوّر الإسلامي للحكم قد تهدمت أسسه ثم ذهب .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 160 ـ 161 ) ط ثانية عشرة ، وفي ط خامسة يقول ما نصُّه :

((إن تلك الثورة في عمومها كانت أقربَ إلى روح الإسلام واتجاهه من موقف عثمان ،
أو بالأدق من موقف مروان ومن ورائه بنو أمية)) ا.ه‍ .

([2]) انظر : أبا داود في ( كتاب اللباس ، حديث رقم : 4063 ) ، وانظر : ((جامع أبي عيسى الترمذي)) : ( حديث رقم : 2819 ، بكتاب الأدب ) ، وانظر : ((صحيح النسائي
=============== 
تحطم أسس الدين في عهد عثمان في زعم سيد قطب
ويقول : ((لقد كانت هذه الصيحة يقظةَ ضمير مسلم لم تخدره الأطماع أمام تضخم فاحش في الثروات يفرّق الجماعة الإسلامية طبقات ، ويحطم الأسس التي جاء بها هذا الدين ليقيمها بين الناس))([1]).

هكذا يتصور سيد عهد عثمان وخلافته ، ويصوّره هذه التصوير المرعب الذي من جملة مساوئه في نظره أن الجماعة الإسلامية أصبحت طبقات ، وأن الأسس التي جاء بها الإسلام قد تحطّمت .

لا نريد أن نناقشه ولا نشرح كلامه لأنه واضح للقارئ الفطن المنصف ، فليفهمه.

ثم واصل سيد بذكر المبررات لصبر عليّ على حياة الجوع والشظف ، ثم قال : ((ولقد كان منهاجه الذي شرعه هو ما قاله في خطبته عقب البيعة له : أيها الناس إنما أنا رجلٌ منكم ، لي ما لكم ، وعليّ ما عليكم ، وإني حاملكم على منهج نبيّكم ومنفِّذ فيكم ما أمرت به؛ ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل عطاء أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال؛ فإن الحق لا يبطله شيء([2]) ، ( ولو وجدته قد تزّوج به النساء ، وملك به الإماء ، وفرّق في البلدان لرددته؛ فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحقّ فالجورُ عليه أضيق([3]) ) .

أولاً : أن هذا الكلام لا يثبت عن علي ـ رضي الله عنه ، وبرّأه الله منه ـ .

ثانيـًا : هل هذا هو منهج عليّ لا يدندن إلاّ حول المال ؟! .

ثالثـًا : إقطاع الإمام للرعايا أمرٌ ثابت في شريعة الإسلام من تصرّفات
الرسول صلى الله عليه وسلم علياًوخلفائه الراشدين ، واتفق عليه فقهاء الإسلام؛ فقد
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بئر قيس والشجرة وسأل علي رضي الله عنه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأقطعه ينبع .

وأقطع عمر خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن مسعود ، وخبّاب ، وأسامة بن زيد ، والزبير؛ وأمر أبا موسى أن يقطع رجلاً أرضـًا بالعراق لا تضّر بالمسلمين .

روى كلّ ذلك يحيى بن آدم في ((كتاب الخراج))([4]).

وروى أبو يوسف في ((كتاب الخراج))([5])بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير فيها أرضـًا يقال لها (الجرف) ، وأن عمر أقطع العقيق أجمع للناس ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطعَ أبا بكر وعمر ، وأقطع بلال بن الحارث المزني ما بين البحر والصخر .

وعن أبي رافع قال : أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم أرضـًا ، فعجزوا عن عمارتها فباعوها في زمن عمر بثمانية آلاف أو بثمانمائة ألف درهم .

وأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أقطع([6])عبد الله بن مسعود في النهرين ، ولعمار استينيا ، وأقطع خبّابـًا صنعاء ، وسعد بن مالك قريةً هرمزان .

وكان لعبد الله بن مسعود أرض خراج ، وكان لخبّاب أرض خراج ، وللحسين أرض خراج .

وروى أبو عبيد في كتاب ((الأموال)) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعَ عددًا من الصحابة أرضين؛ فأقطع رجلاً من الأنصار يسمّى سليطـًا ، وأقطع الزبير أرضـًا بخيبر بها شجر ونخل ، وأقطع بلال بن الحارث المزني أقطعه العقيق أجمع .

وأقطع فرات بن حيّان العجلي أرضـًا باليمامة .

وكتب لأبي ثعلبة الخشني على أرض بأيدي الروم .

وكتب لتميم الداري على أرض بيت لحم ، ونفّذ ذلك له عمر لما استخلف وظهر على الشام ، قال أبو عبيد : ((فهي بأيدي أهل بيته إلى اليوم)) .

وأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال الملح بمأرب ، ثم استعادها منه ، ثم أقطعه ما يحمي من الأراك ما لم تنله أخفاف الإبل .

وأقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله ، وردّ ذلك عمر .

وكتب عمر إلى أبي موسى أن يقطع نافعـًا أبا عبد الله الثقفي أرضـًا على شاطئ دجلة ، وأن عثمان أقطع خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم ذكرهم .

ثم مضى أبو عبيد يشرح الأحاديث والآثار ، ويبيِّن مخارجها الفقهية .

وبعد : فهل يصحُّ أن ينسب إلى أمير المؤمنين الخليفة الراشد العادل عليّ بن أبي طالب أن يرد سنة ثابتة من سنن رسول الله وخلفائه شاهدهم يعملون بها ، وشاهد أبا بكر وعمر وهما يقطعان القطائع من أراضي موات تنفع المسلمين ولا تضرهم ؟ .

وهل يصحّ أن يركّز فقط على من أقطعهم عثمان بوجه شرعي وبناءً على منهج الرسول والخليفتين الراشدين فيبتزّ منهم أموالهم التي تملّكوها بوجوه مشروعة في شريعة الإسلام ، لا سيما والذين أقطعهم عثمان ليسوا من قرابته ؟ .

أيجوز لمسلم أن يقف على هذه الصورة الحاقدة الشوهاء فينسبها إلى إمام نقيّ طاهر يبرزه في صورة المنتقم المتشفِّي ؟ ، وممن ؟ ، من إمام طاهر نقيّ بريء ألا وهو عثمان الخليفة العادل الراشد ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 175 ) ط ثانية عشرة .

([2]) ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة .

([3]) ما بين القوسين من ((شرح نهج البلاغة)) ( ص : 118 ) ، ولم أجد فيه غير هذه القطعة ، و ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة .

([4]) ( ص : 84 ـ 85 ) .

([5]) ( ص : 66 ـ 68 ) .

([6]) ((الأموال)) لأبي عبيد ( ص : 386 ـ 393 ) ، وقد أورد أبو داود عددًا من الأحاديث في إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم أناسـًا من الصحابة : ( 14 ، كتاب الخراج والإمارة 36 ، باب في إقطاع الأرضين ، ص 443 ـ 453 ) لا يتّسعُ المقامُ لذكرها ، فليرجع إليها من شاء========== 
أقوال أئمة الإسلام في الإقطاع والإحياء
قال أبو يوسف : ((فقد جاءت هذه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعَ أقوامـًا ، وأنّ الخلفاء من بعده أقطعوا ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك إذا كان فيه تألف على الإسلام وعمارة الأرض ، وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له غناء في الإسلام ونكاية للعدو ، ورأوا أن الأفضلَ ما فعلوا ، ولولا ذلك لم يأتوه ، ولم يقطعوا حقّ مسلم ولا معاهد)) .

وقال أبو يوسف : ((وكل من أقطعه الولاة المهديون أرضـًا من أرض السواد وأرض العرب والجبال من الأصناف التي ذكرنا أنّ للإمام أن يقطع منها فلا يحلّ لمن يأتي بعدهم من الخلفاء أن يرد ذلك ولا يخرجه من يدي من هو في يده وارثـًا أو مشتريـًا؛ فأما إن أخذ الوالي من يد واحد أرضـًا وأقطعها آخر فهذا بمنزلة الغاصب))([1]).

وقال أبو يوسف : ((وكل من فرّ عن أرضه أو قتل في المعركة وكل مغيض ماء أو أجمة فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقطع من هذه لمن أقطع)) .

وقال أبو يوسف : ((وذلك بمنزلة المال الذي لم يكن لأحد ولا في يد وارث؛ فلإمام العادل أن يجيز منه ويعطي من كان له غناء في الإسلام ويضع ذلك موضعه ولا يحابي به ، فكذلك هذه الأرض؛ فهذا سبيل القطائع عندي في أرض العراق .

والذي صنع الحجاج ثم فعل عمر بن عبد العزيز فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ أخذ ذلك بالسنة؛ لأن من أقطعه الولاة المهديون فليس لأحدٍ أن يردّ ذلك ، فأما من أخذ من واحد وأقطع آخر فهذا بمنزلة مال غصبه واحد من واحد وأعطى واحدًا))([2]).

قال أبو يوسف : ((وكل أرض من العراق والحجاز واليمن والطائف وأرض العرب وهي غير عامرة وليست لأحدٍ ولا في يد أحدٍ ولا ملك أحد ولا وراثة ولا عليها أثر عمارة فأقطعها الإمام رجلاً فعمرها فإن كانت في أرض الخراج أدّى عنها الذي أقطعها الخراج ، والخراج ما افتتح عنوة مثل السواد وغيره ، وإن كانت من أرض العشر أدّى عنها الذي أقطعها العشر ، وأرض العشر كل أرض أسلم عليها أهلها فهي أرض عشر وأرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب كلها أرض عشر؛ فكل أرض أقطعها الإمام مما فتحت عنوة ففيها الخراج إلا أن يصيّرها الإمام عشرية ، وذلك إلى الإمام إذا أقطعَ أحدًا أرضـًا من أرض الخراج ، فإن رأى أن يصيّر عليها عشرًا أو عشرًا ونصفـًا ، أو عشرين أو أكثر أو خراجـًا فما رأى أن يحمل عليه أهلها فعل؛ وأرجو أن يكون ذلك موسعـًا عليه ، فكيفما شاء من ذلك فعل ، إلاّ ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن فإن هنالك لا يقع خراج ولا يسع الإمام ولا يحلُّ له أن يغيّر ذلك ولا يحوله عما جرى عليه أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه؛ فقد بينتُ لك فخذ بأي القولين أحببتَ ، واعمل بما ترى أنه أصلح للمسلمين وأعم نفعـًا لخاصتهم وعامتهم وأسلم لك في دينك إن شاء الله تعالى))([3]).

وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في ((المغني))([4]): ((وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون بمنزلة المتحجر الشارع في الإحياء)) ، ثم ساق الأدلة على ذلك .

وقال الإمام الشافعي في كتابه ((الأم))([5])بعد كلام له في إحياء الموات : ((وإذا أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من أحيا أرضـًا مواتـًا فهي له ـ والموات : ما لا ملك فيه لأحد ـ خالصـًا دون الناس ، فللسلطان أن يقطع من طلب مواتـًا ، فإذا أقطع كتب في كتابه : ولم أقطعه حقّ مسلم ، ولا ضررًا عليه)) .

قال الشافعي : ((وخالفنا في هذا بعض الناس فقال : ليس لأحدٍ أن يحمي مواتـًا إلا بإذن السلطان ، ورجع صاحبه إلى قولنا فقال : وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت العطايا؛ فمن أحيا مواتـًا فهو له بعطيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس للسلطان أن يعطي إنسانـًا ما لا يحلّ للإنسان أن يأخذه)) .

وقال الزرقاني في شرح حديث : ((من أحيا أرضـًا ميتة فهي له)) : ((بمجرّد الإحياء ، ولا يحتاج لإذن الإمام في البعيدة عن العمارة اتفاقـًا ، قال مالك : معنى الحديث : في فيافي الأرض ، وما بعُد من العمران ، فإن قرب فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام)) .

وقال أشهب : ((وكثير من أصحابنا وغيرهم يحييها من شاء بغير إذنه)) .

قال سحنون : ((وهو قول أحمد ، وداود ، وإسحاق)) .

والشافعي قائلاً : ((عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من أحيا مواتـًا أثبت من عطية من بعده من سلطان وغيره ، واستحب أشهب إذنه لئلا يكون فيه ضرر على أحد))([6]).

رابعـًا : إن سيد قطب نفسه قد قرّر في هذا الكتاب ((العدالة الاجتماعية)) : أن إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها واحد من وسائل التملّك الفردي ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده أقطعوا أناسـًا ، فقال : ((ثامنـًا : إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها مما آل إلى بيت مال المسلمين من المشركين الذين لا ورثة لهم؛ فالإمام وليهم ، أو من أرض الموات لا مالك لها كذلك .

وقد أقطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أرضـًا ، كما أقطع الخلفاء من بعده مكافأة على جهد بارز وخدمة للإسلام ولكن في حدود ضيقة ومن الأرض التي لا مالك لها والأرض الموات؛ فلما جاء بنوا أمية نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض لذويهم؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة ، لا خلفاء راشدين كما سيجيء))([7]).

فهؤلاء فقهاء الإسلام متفقون أن للإمام أن يقطع المسلمين من الأراضي الموات ما لا يضرّ بالمسلمين .

وهذا سيد قطب نفسه يرى أن للإمام أن يقطع الأراضي التي لا مالك لها فما باله لا يعترض على سلطان من السلاطين إلاّ على عثمان بن عفان ، ويستشهد بالرواية الباطلة المنسوبة ظلمـًا وزورًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فهل كان عثمان في نظر سيد من بني أمية الظلمة الذين قال عنهم : ((فلما جاء بنو أمية نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض لذويهم([8])؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة لا خلفاء راشدين)).

لا شكّ أن سيد قطب لا يحمل هذه الحملات على عثمان ولا يستروح إلى الروايات الباطلة التي تطعن فيه إلاّ من هذا المنطلق؛ وقد صرّح بأن خلافة عليّ كانت امتدادًا طبيعيـًّا لعهد الخليفتين ، وأن عهد عثمان كان فجوةً؛ وهنا يريد إبطال تصرّفاته وإبطال إقطاعاته .

خامسـًا : كيف يقول علي ـ رضي الله عنه ـ هذا القول : ((ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في بيت المال)) بهذا العموم والشمول ، فلماذا أجمع الصحابة على بيعة عثمان إذًا ؟ ، ولماذا كان إمامـًا ؟ ، وكل عطاء أعطاه ، وكل قطيعة أقطعها طوال خلافته الطويلة باطل ؟ .

ألا إنه كذب الروافض ، يتعلّق به سيد قطب ، لماذا ؟ ، لأنه طعن في عثمان فحسب ، وإلاّ فإن مجرّد سماع هذا الهراء يكفي للحكم على بطلانه وأنه مفترى على عليّ ـ رضي الله عنه ـ .

بقية الخطبة المفتراة على عليّ ـ رضي الله عنه ـ :

((أيها الناس ... ألا لا يقولن رجال منكم غدًا ـ وقد غمرتكم الدنيا فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار واتخذوا الوصائف([9])المرققة إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا .

ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن الفضلَ له على سواه بصحبته فإن الفضلَ غدًا عند الله وثوابه وأجرُه على الله .

ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله ، فصدّق ملتنا ، ودخلَ ديننا ، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده؛ فأنتم عباد الله ، والمالُ مالُ الله يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضلَ لأحدٍ على أحد ، وللمتقين عند الله أحسنُ الجزاء))([10]).

وهذه الخطبة تبرز لنا أناسـًا آخرين من المهاجرين والأنصار قد امتلكوا العقار وفجّروا الأنهار .

ثم أقول : إن واضعَ هذه الخطبة مع كذبِه فهو من أجهل الناس بتاريخ عليّ نفسه ـ رضي الله عنه ـ؛ كان الجهادُ في سبيل الله والفتوحات الإسلامية في عهده قد توقّفت فلا غنائم ولا فيء؛ فما هي الأموالُ التي يقسمها بين الأغنياء والفقراء والمهاجرين والأنصار وغيرهم ؟! .

إن الفتن والحروب الداخلية ومشاكل الثوّار في داخل جيشِه قد فعلت بقوّة عليّ وشجاعته وعدله كل الأفاعيل .

فلو فرضنا أنه كان يرى أن إقطاعات عثمان وعطاءه كان باطلاً أكان يستطيع أن يستعيدَها ممن حازوا هذا العطاء خصوصـًا بني أمية الذين قاتلهم وقاتلوه حتى كان النصر والظفر لهم في النهاية ؟ .

ثم أين هي البلدان التي فتحت في عهد علي ؟ ، وكم كانت هذه المغانم التي يزعم مفتري الخطبة أن عليـًّا سيقسمها بالسوية ؟!! .

إن هناك عقبات كئيدة وقفت في وجه عليّ ـ رضي الله عنه ـ أخطرُها : تمرُّد جيشِه عليه من الثوار على عثمان والخوارج والغُلاة وغيرهم .

فهل ترك هؤلاء له الفرصة ليَعِدَ مثل هذه الوعود ، فضلاً عن تنفيذِها([11]).

ثم هل كان عليّ في عهد عثمان من الكادحين المحرومين فلا يملك أرضـًا ولا يركب خيلاً ولا يملك وصيفة .

لقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ من أغنياء الصحابة؛ فعنده العقار ، والمال ، والعبيد ، والإماء؛ وكان ممن يُفضَّل في العطاء؛ وكلُّ ذلك مما أباحه الله له وللمؤمنين جميعـًا ، ولا حرجَ على أحدٍ منهم في امتلاك ذلك ما دام يؤدِّي منه الحقوق .

قال سيد : ((ولقد كان من الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن عليّ وألا يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل ، ومن مردوا على الاستئثار ، فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر ـ معسكر أمية ـ ، حيث يجدون فيه تحقيقـًا لأطماعهم على حساب العدل والحق اللذين يصرُّ عليهما علي ـ رضي الله عنه ـ هذا الإصرار))([12]).

نتسائل مَن هؤلاء المستنفعون الذين لا يقنعون بشرعة المساواة والذين مردوا على الاستئثار فانحازوا في النهاية إلى معسكر أمية ؟ .

إنهم آخرون غيرَ بني أمية .

إنهم أولئك المهاجرون ، ومنهم : علي ، والأنصار ، وأبناؤهم ، ومَن شاركَهم من التابعين الذين خاطبهم عليّ ـ رضي الله عنه ـ ممن غمرتهم الدنيا ، فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار ، ويرون لأنفسهم فضلاً على مَن سواهم؛ فيريد علي ـ رضي الله عنه ـ أن ينصف منهم الكادحين المحرومين والمظلومين في نظر سيد قطب الذي تملّك المذهب الإشتراكي عقلَه ومشاعره حتى صار لا يعرف الحقَّ من الباطل والكذب من الصدق ، يفرح بكلّ هراء ولغو من القول يدعم به هذا المذهب .

ألا تعلم أنّ هؤلاء هم خيرُ القرون الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريّة ؟ ، ألا تعلم أنّ هؤلاء هم الذين فتحوا الدنيا ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلّموا الناس العدل ؟ .

ألا تدرك أنّك بتصويرهم بهذه الصورة الشوهاء تؤكّد مطاعن أهل الرفض والزندقة ومطاعن سائر أعداء الإسلام من اليهود والنصارى المبشرين والمستشرقين والمستعمرين .

بأيّ تاريخ يعتزّ المسلمون ؟ ، وبأي الأمجاد يلهجون إذا كان هذا هو واقع أسلافهم ؟؛ فكلُّ مواقفهم تابعة لأهوائهم وشهواتهم في نظر سيد قطب؛ فلا ينصرون الحق ، ولا يفكّرون فيه ، ولا يبحثون عنه ؟؟! .

واصل سيد قطب طعنه في بني أمية مستثنيـًا عهد عمر بن عبد العزيز .

ثم ذكر خطبتين مزعومتين لمعاوية لا تليقُ بمن هو دونَه ، فكيف به .

وذكر خطبة للمنصور في زعمه .

ثم قال : ((أما سياسة المال فكانت تبعـًا لسياسة الحكم وفرعـًا عن تصوّر الحكام لطبيعة الحكم وطريقته ، ولحقّ الراعي والرعية؛ فأما في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه وخلافة عليّ بن أبي طالب فكانت النظرة السائدة هي النظرة الإسلامية ، وهي : إن المال العام مال الجماعة ، ولا حقّ للحاكم بنفسه أو بقرابته أن يأخذ منه شيئـًا إلا بحقِّه ، ولا أن يعطي أحدًا منه إلا بقدر ما يستحقُّ؛ شأنُه شأن الآخرين .

وأما حين انحرف هذا التصوُّر قليلاً في عهد عثمان فقد بقيت للناس حقوقهم ، وفهم الخليفة أنه في حلٍّ ـ وقد اتسع المال عن المقررات للناس ـ أن يطلق فيه يدَه ببر أهله ومن يرى من غيرهم حسب تقديره .

وأما حين صار الحكم إلى الملك العضوض فقد انهارت الحدود والقيود وأصبح الحاكم مطلق اليد في المنع والمنح بالحق في أحيانٍ قليلة ، وبالباطل في سائر الأحيان ، واتسع مال المسلمين لترف الحكام وأبنائهم وحاشيتهم ومملقيهم إلى غير حد ، وخرج الحكام بذلك نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال))([13]).

وفي هذا نظرات :

الأولى : أن الرجل قد وصف عهد الرسول وصاحبيه وخلافة عليّ بأن النظرة السائدة فيها هي النظرة الإسلامية ... إلخ ، أما عهد عثمان فبخلاف ذلك .

لكن الرجل استدرك على خلاف عادته ـ أو استدرك له غيره من المشرفين على طبع الكتاب ـ القول الآتي : ((وأما حين انحرف هذا التصور قليلاً في عهد عثمان ...)) إلخ لامتصاص غضب من قد يغضب لعثمان ـ رضي الله عنه ـ .

ولكن هيهات أن تنطلي هذه الحيلة على مَن سبرَ غور سيد وغور هذا الكتاب وشاهد الحملات الكثيرة فيه على الخليفة الشهيد المظلوم ـ رضي الله عنه ـ من سيد قطب ، والتي منها :

((هذا التصوّر لحقيقة الحكم قد تغيّر شيئـًا ما دون شكّ على عهد عثمان وإن بقيَ في سياج الإسلام فقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخٌ كبير ومِن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام)) .

فهذه الحملة على ما فيها من إقدام وإحجام تبيّن أن سيد قطب يعتقد أنّ الأمرَ قد انحرف كثيرًا في عهد عثمان .

وقوله بعد أن ساق رواية كاذبة مضمومنها : أنه أعطى زوج ابنته مائتي ألف فبكى من ذلك زيد بن أرقم الذي يستشعر روح الإسلام المرهف ، فغضب عثمان على الرجل الذي لا يطيقُ ضميره هذا التوسعة من مال المسلمين على أقارب خليفة المسلمين ، وقال له : ((ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنا سنجد غيرَك)) .

قال : ((والأمثلة كثيرة على هذه التوسعات)) ، ثم ذكر منحـًا كبيرة للزبير وطلحة ومروان .

ثم يقول : ((وغير المال كانت الولايات تغدق على الولاة من قرابة عثمان ، وفيهم معاوية الذي وسع عليه في الملك فضم إليه فلسطين وحمص ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، ومهّد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة علي وقد جمع المال والأجناد وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آواه عثمان ، وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصّرف ، وفيهم عبد الله بن أبي سرح أخوه من الرضاعة([14]).

ويقول : ((ولقد كان الصحابة يرون هذا الانحراف عن روح الإسلام فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ الإسلام وإنقاذ الخليفة من المحنة والخليفة في كبرته وهرمه لا يملك أمره من مروان))([15]).

ويقول : ((مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض ، وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع))([16]).

ويقول : ((ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ امتدادًا طبيعيـًّا لخلافة الشيخين قبلَه ، وأن عهد عثمان الذي تحكم فيه مروان كان فجوةً بينهما))([17]).

فبالله هل الذي ينظر إلى عثمان هذه النظرة الحانقة ويحمل عليه هذه الحملات الشعواء وغيرها بما تحمل من قسوة وعنف ويصدق فيه الأقاويل الباطلة يقبل منه تلطيف العبارات أحيانـًا لا سيّما وهو لا يزال يدير رحى الحرب على عثمان وغيره مواصلاً حملاته التي لم تكتف بإسقاط خلافة عثمان في غمارها؛ بل استمرّ يكيل له الضربات ولغيره إلى الحدِّ الذي يشفي غليل الروافض والباطنية وسائر أعداء الإسلام .

الثانية : انظر كيف انتهى كلامه على بني أمية إلى قوله : ((... وخرج الحكّام بذلك نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال)) .

إن سيد قطب إمامُ التكفير في هذا العصر وحامل رايته ، فهل يا ترى إذا خرج حكّام بني أمية نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال هل يبقون في دائرة الإسلام أو لا ؟ . ننتظر الإجابة !! .

([1]) ((كتاب الخراج)) ( ص : 66 ) .

([2]) ((كتاب الخراج)) ( ص : 63 ) .

([3]) ((كتاب الخراج)) ( ص : 65 ) .

([4]) ( 8/153 فما بعدها ) .

([5]) ( 4/46 ) ، وانظر ((السنن الكبرى)) للبيهقي : ( 6/148 ـ 149 ، باب من أقطع قطيعة
أو تحجر أرضـًا فلم يعمرها ) ، وانظر : ((المعرفة)) للبيهقي أيضـًا : ( 9/11 ـ 20 ، باب إقط
اع الموات وإحياؤه ، وباب الحمى
 

تمهيد طويل من سيد قطب ليتوصل به إلى الطعن في عثمان ـ رضي الله عنه ـ ومَن في عهدِه من الصحابة وغيرهم

قال سيد قطب : ((هناك ما يصحُّ أن نُطلق عليه باطمئنان روح الإسلام؛ هذا الروح يستشعره من يتتبع طبيعة هذا الدين وتاريخه على السواء ، ويحسه كامنـًا وراء تشريعاته وتوجيهاته .

هذا الروح هو الذي يرسم الأفق الأعلى الذي يتطلب من معتنقيه أن يتطلعوا إليه ، وأن يحاولوا بلوغه لا بتنفيذ الفرائض والتكاليف فحسب ، ولكن بالتطوع الذاتي لما هو فوق الفرائض والتكاليف؛ وهذا الأفق عسير المرتقى([1]) ، وأعسر من ارتقائه الثبات عليه؛ لأن نوازع الحياة البشرية وضغط الضرورات الإنسانية لا يطوعان للأكثرين من الناس أن يرقوا إلى هذا الأفق العالي ولا أن يصبروا عليه طويلاً ، إن ارتقوا إليه في فورة من فورات الشوق والتطلع؛ فلهذا الأفق تكاليفه العسرة ، وهي تكاليف في النفس والمال وفي الشعور والسلوك؛ ولعل أشدّ هذه التكاليف مؤنةً هو تلك اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد والحساسية المرهفة التي يثيرها في شعوره تجاه الحقوق والواجبات لذاته وللجماعة التي يعيشُ فيها وللإنسانية التي ينتسب إليها ، وللخالق الذي يراقبُه في الصغيرة والكبيرة ويعلم سرّه ونجواه .

ولقد كان لذلك الروح الذي أشرنا إليه أثر في واقع الإسلام التاريخي ، فاستحال الإسلام وهو عقيدة وتصوّر إلى شخصيّات ووقائع ولم يعد نظريات مجرّدة ولا مجموعة إرشادات ومواعظ ولا مثلاً وأخيلة ، إنما عاد نماذج إنسانية تعيش : ووقائع عملية تتحقّق ، ولن نكون مخطئين حين نرد انبعاث هذه العبقريات كلها وبروز تلك البطولات جميعها إلى فعل ذلك الروح القوي؛ فهو حركة كونيّة شاملة تتوافى مع هذه الطاقات الفردية في الظاهر ، الكونية في الحقيقة ، ومقياس عظمة كل عبقرية منفردة هو استعدادها لتلقِّي ذلك الفيض الكوني)) .

ثم ضرب أمثلة([2]):

1 ـ بالنبي صلى الله عليه وسلم .

2 ـ ثم بلال .

3 ـ ماعز .

4 ـ الغامدية .

5 ـ خالد بن الوليد وقصة عزله .

6 ـ أبو عبيدة .

7 ـ أبو حنيفة .

8 ـ يونس بن عبيد .

ولكل من هؤلاء قصة .

ثم تعرّض للمساواة المطلقة([3])بين بني الإنسان في الإسلام والتحرر الوجداني المطلق من جميع القيم وجميع الاعتبارات التي تخدش هذه المساواة ، وذكر أثر هذه الروح في شخصيّات ، منها :

عمر بن الخطّاب .

ثم سفيان الثوري في مواجهة المنصور .

وأحد المتكلِّمين([4])في مواجهة الخليفة الواثق .

وبكار القاضي في مواجهة أحمد بن طولون .

وابن عبد السلام في مواجهة الملك إسماعيل الأيوبي .

والنووي في مواجهة الظاهر ببيبرس .

وحسن الطويل في مواجهة الخديو توفيق .

ثم تحدّث عن منهج الإسلام في البرّ والتكافل الاجتماعي الشامل بين القادرين والعاجزين وبين الأغنياء والفقراء ، وضرب أمثلةً من أبي بكر ، وعمر ، وعثمان قبل الخلافة ، ومن قبيلة الطوارق([5]).

ثم قال ـ وهو يتحدّث عن سياسة الحكم والمال ـ : ((فأما سياسة الحكم والمال من الوجهة الرسمية في الدولة فقد شهد الواقع التاريخي عنها فترة فريدة في حياة الإسلام لم تعمر طويلاً مع الأسف الشديد .

ثم تحدّث عن استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان بكلامٍ عليه فيه مآخذ ، ثم قال : ((فلما جاء الأمويّون وصارت الخلافة الإسلاميّة مُلْكـًا عضوضـًا في بني أميّة لم يكن ذلك من وحي الإسلام ، إنما كان من وحي الجاهليّة الذي أطفأَ إشراقة الروح الإسلامي))([6]).

ثم تكلّم عن معاوية ويزيد بكلامٍ فيه إساءة كبيرة إلى معاوية ، ونسب إلى يزيد أشياءَ يصعُب ذكرُها ، وهي ـ لا شكّ ـ تُرضي الروافض .

ثم قال : ((وفي سبيل تبرئة الإسلام روحه ومبادئه من ذلك النظام الوراثي الذي ابتدع ابتداعـًا في الإسلام نقرِّرُ هذه الحقائق ، لتكون واضحةً في تصوّر الحكم الإسلامي على حقيقتِه؛ ومما ضاعف الكارثة : أنّ هذا الانحراف باكر الإسلام ولم تنقض إلاّ ثلاثون سنة على سننه الرفيعة ، فلم تتح له فرصة الثبات والاستقرار وتكوين التقاليد العميقة والأوضاع النظامية التي يصعب فيما بعد الخروج عليها؛ وهو سوء حظٍّ لا شكّ فيه ، ولكنه في الواقع ليس المصادفة السيئة الأولى؛ فلقد كانت أسوأ مصادفة هي تأخير عليّ وتقديم عثمان وهو شيخٌ ضعيف ، وتسلُّم مروان بن الحَكم الأموي مقاليد السلطان . فلو شاء حسن الطالع أن يتقدّم عليّ بعد الشيخين لاستمرّت تقاليد الإسلام فترة أخرى ، ولاستطردت موجته عهدًا ثالثـًا ، ولكان غير ما كان من طمس روح الإسلام؛ فإنّ استقرار التقاليد الإسلامية فترة أخرى وقيام أوضاع نظاميّة محددة من شأنه أن يجعل النكسة أصعب على من يحاولها([7]).

ولكي ندرك عمق هذه الحقيقة يجب أن نستعرض صورًا من سياسة الحكم والمال([8])في العهود المختلفة على أيدي أبي بكر ، وعمر ، وعلى أيدي عثمان ، ومروان ، وعلى يدي علي الإمام([9]) ، ثم على أيدي الملوك من بني أميّة ، ومن بعدهم من بني العباس بعد أن خنقت روح الإسلام))([10]).

ثم قال : ((حينما ندب المسلمون أبا بكر ليكون خليفة رسول الله لم تزد وظيفتُه في نظره على أن يكون قائمـًا بتنفيذ دين الله وشريعته بين المسلمين ، فلم يخطر له أنّ هذه الوظيفة تُبيحُ له شيئـًا لم يكن مباحـًا له ، وهو فردٌ من الرعيّة ، أو تمنحُه حقـًّا جديدًا لم يكن له أو تسقط عنه تكليفـًا واحدًا مما كان يكلفه سواء لنفسه أو لعشيرته أو لإلـهه !)) .

ثم ذكر خطبة أبي بكر الشهيرة ، وذكر مِن سيرتِه ، وزهده ، وتعفّفه ما هو لائقٌ بمكانته .

ولكنك إذا قرأت ما كتبه في عثمان تُدرك أنه يعرِّضُ بعثمان ، وأنه على نقيض هذه الخصال الكريمة التي كان يتّسمُ بها أبو بكر .

ثم قال : ((هذه لمحةٌ مِن تصوُّر أبي بكرٍ للحكم ، فلما أن خلفه عمر لم يختلف هذا التصوُّر ، ولم يفهم عمر أنّ منصبَه الجديد يرتِّبُ له حقوقـًا جديدة من أيِّ نوع غير أن يزيدَ في تبعاتِه في القيام بتنفيذ شرع الله))([11]).

وذكر له ولعمر خطبـًا وأقوالاً ومواقف كُلُّها تليقُ بهذين الخليفتين الراشدين ، ولكن هدف (سيد) منها أن يبيِّن أنّ عثمان على النقيض من ذلك ، وأن هناك تفاوُتـًا عظيمـًا بين الخليفتين أبي بكر وعمر وبين عثمان دفع سيدًا إلى إسقاط خلافة عثمان ، واعتبارها فجوةً بين خلافتيهما وخلافة عليّ ـ رضي الله عنهم جميعـًا ـ .

لقد ذكر شخصيّات تأثرت بروح الإسلام وارتقت إلى الآفاق العليا التي رسمها الإسلام؛ ومن تلك الشخصيّات : ماعز ، والغامدية ، ويونس بن عبيد ، وأبو حنيفة ، والعزّ بن عبد السلام ، والنووي ، وحسن الطويل .

ولكنه بعد ذلك تحدّث عن عثمان وعهده وعن عددٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يُشعر القارئ بأنهم لم يرتقوا إلى هذا الأفق الذي ارتقت إليه تلك الشخصيّات التي اختارها نماذج تسنّمت ذلك الأفق العالي؛ فلا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله . وسيأتيك هذا النبأُ المفزع .

ثم تحدّث عن سياسة عمر فقال : ((لقد كان يرى أن يحرم نفسه حرمان رعيته ليحسّ بما يمسّها كما قال ، ولأنه في أعماق نفسه ما كان يرى أن قيامه بالحكم يجعل له حقوقـًا وامتيازات ليست لسائر الناس ، وأنه إن لا يعدل في هذا فما هو بمستحقّ طاعة الرعيّة؛ وقصة البرود اليمانية وإقراره بسقوط طاعته حتى يثبت عدله قد سبق أن ذكرناها ، وهي تقرّر مبدأ من مبادئ الحكم في الإسلام : أن لا طاعة لإمامٍ غير عادل ( ولو كان يقرّ أن الحاكمية لله وحدَه ويحكم بشريعة الله ، ولكنه لا يعدل في الأحكام) )) ([12]).


([1]) ((العدالة الاجتماعية)) ( ص : 144 ـ 145 ، ط : خامسة ) ، و ( ص : 126 ـ 127 ، ط : الثانية عشرة ) .

أقول : لقد بيّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مراتب الدين بأنها الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، وقال في الإحسان : ((أن تعبد الله كأنك تراه))؛ فإذا عبدَ اللهَ الإنسان بإخلاص متمسّكـًا بهديه فإنه يكون قد وصل إلى هذا المرتقى . ولا داعي لهذا التعقيد والتكلُّف الذي يسلكه سيد قطب .

([2]) انظر : ((العدالة)) ( ص : 130 ـ 137 ، ط : الثانية عشرة ) .

([3]) في هذا نظر يخالف قول الله تبارك وتعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } وغيرها من توجيهات الإسلام التي تفرّق بين المسلم والكافر .

([4]) الصواب أنه أحدُ أهل السنة .

([5]) ((العدالة)) ( ص : 150 ـ 151 ) .

([6]) ((العدالة)) ( ص : 154 ) ، و ط خامسة : ( ص 178 ـ 180 ) .

([7]) هذا المقطعُ تضمّن بالإضافة إلى سوء معتقد سيد قطب : طعناتٍ في خلافة عثمان ، منها : الانحراف الذي باكر الإسلام ، ومنها : طمس روح الإسلام ، ومنها : طعنُه في استخلاف عثمان نفسه . فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله .

([8]) كلمة ((المال)) من الطبعة الثانية عشرة .

([9]) تخصيص عليّ بالإمامة في سياقٍ فيه أبو بكر وعمر وعثمان له دلالة لا شكّ فيها لمن ينظر بعمق ، خصوصـًا وهو في سياق تبرئة الإسلام من سياسة عثمان وبني أميّة .

([10]) ((العدالة)) ط خامسة ، ( ص : 182 ) ، و ط ثانية عشرة ( ص : 156 ) ، وفيها : ((بعد هذه الهزة المبكرة في تاريخ الإسلام)) .

([11]) ((العدالة)) ط خامسة ( ص : 183 ) ، و ط ثانية عشرة ( ص : 157 ) .

([12]) ((العدالة)) ( ص : 158 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص 185 ) ط خامسة . وما بين القوسين من الطبعة الثانية عشرة=========
عثمان بن عفان ما كان يرى أنّ قيامه بالحكم يجعل له حقوقـًا وامتيازات
أقول : رضي الله عن عمر ، وما هذا بمستغرَب منه إن ثبت عنه ، وقد روي عنه أنه كان يحرم نفسه من بعض الأدم في عام الرمادة الذي حصلت فيه مجاعة ، وهو أمرٌ لا يلزمه به الإسلام ، ولو حصل عام مثله في عهد عثمان لأشفق على الأمة وأهمّه أمرها كما أهمّ أخاه عمر ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأنهما من مدرسة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولعثمان من البذل والتضحيات الشيء الكثير في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي خلافته ، وخلافة أبي بكر وعمر .

وقد بذل الكثير والكثير في أحوال الشدّة والأزمات التي كانت تواجه المسلمين ، ولا يُنسى ما بذله في غزوة تبوك عام العسرة وغيرها .

أما أنّ عمر في أعماق نفسه ما كان يرى أنّ قيامه بالحكم يجعل له حقوقـًا وامتيازات ليست لسائر الناس . فإنّ أخاه عثمان كان كذلك؛ ولا يقول فيه غير هذا إلاّ ظالمٌ معتد طعّان في عدالة عثمان الخليفة العادل الراشد .

وقول سيد : ((وأنه إن لا يعدل فما هو بمستحقّ طاعة الرعية)) ، وقوله عن عمر : ((وإقراره بسقوط طاعته حتى يثبت عدله
================================ 
سيد قطب يقرِّرُ مذاهب الفرق الضالة ويوهم أنها مذهب عمر
فإن (سيدا) إنما يقرّر هنا مذاهب الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة والرافضة ، ولا يلتفت إلى ما قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم وقرّره أهلُ السنة والجماعة بناء على توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منها ما أخرجه مسلم وغيرُه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عليك السمع والطاعة في عسرك ، ويُسرك ، ومنشطك ، ومكرهك ، وأثرة عليك))([1]) .

وما أخرجه مسلم وغيرُه من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ
قال : ((بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه ، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)) ، وزاد مسلم بعد قوله : ((وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه)) قال : ((إلا أن تروا كفرًا بواحـًا عندكم فيه من الله برهان))([2]).

وما رواه مسلم وغيرُه عن سلمة بن يزيد الجعفي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم))([3]).

ومن حديث حذيفة : ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)) قال : قلت : كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركتُ ذلك ؟ ، قال : ((تسمع وتطيع ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالَك فاسمع وأطع))([4]).

وحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((ستكون أثرة وأمورٌ تنكرونَها)) ، قالوا : يا رسولَ الله فما تأمرُنا ؟ ، قال : ((تؤدُّون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم))([5]).

ففي هذه الأحاديث وجوب طاعة الإمام على الأمة مهما ظلم الإمام وخالف هدْي الإسلام حتى ترى الأمة في هذا الإمام الكفرَ البواح المخرج عن دائرة الإسلام .

لم يستضي (سيد) بهذه التوجيهات النبوية ، ولم يلتفت إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، وذهب يقرِّرُ ما هو أشدُّ من مذهب الخوارج والفرق الضالة الأخرى ، ثم ينسب ذلك إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ أنه يرى هذا المذهب الرديء أنه لا يستحق طاعة الرعية إلا إذا كان في غاية العدل ، ولقد أشار إلى قصة البرود اليمانية .

وهي كما قصّها سيد في ( ص 141 ) من ((العدالة)) : ((وغنم المسلمون أبرادًا يمانية فخصّه برد ، وخصّ ابنه عبد الله برد كأيّ رجل من المسلمين ، ولما كان الخليفة في حاجة إلى ثوب فقد تبرّع له عبد الله ببرده ليضمّه إلى برده فيصنع منها ثوبـًا ، ثم وقف يخطب الناس وعليه هذا الثوب ، فقال : ((أيها الناس اسمعوا وأطيعوا)) ، فوقف سلمان فقال : لا سمع ولا طاعة ، قال عمر : ولِمَ ؟ ، قال سلمان : من أين لك هذا الثوب وقد نالك برد واحد وأنت رجل طوال ؟ ، قال : لا تعجل ، ونادى : يا عبد الله ، فلم يجبه أحد ـ فكلُّهم عبد الله ـ ، قال : يا عبد الله بن عمر ، قال : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : ناشدتك الله ! البرد الذي اتزرتُ به أهو بردك ؟ ، قال : اللهم نعم ، قال سلمان : الآنَ مُر نسمع ونطع)) .

فهذه القصة تحمل في طيّاتها الكذب وتنطوي على رفض ذلك المنهج الذي قرّره رسول الله وتلقّاه أصحابه ، ففقهوه وعلموه الأمة .

إن هذه القصة المزيّفة تصوّر الصحابة في صورة لا يقوم عليها دين ولا دولة .

أبمجرّد أن يرى أحد من الصحابة على أمير المؤمنين ثوبـًا يحتاجه يقول : لا سمعَ لك علينا ولا طاعة ، ويقع الخليفة في قفص الاتّهام ، لا يُخرجُه منه إلاّ شاهد عدل أنه قد تبرّع بهذا الثوب ، فكيف ستكون النتيجة لو كان عبد الله بن عمر غائبـًا في غزوة أو غيرها ؟!! .

ثم ألا يرى (سيد) أن هذه القصة تخالف مذاهب عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفضيل في العطاء ، فيعطي بعضهم خمسة آلاف وبعضهم أربعة ، وبعضهم اثني عشرة ألفـًا ، وبعضهم خمسمائة وثلاثمائة على أساس الرجل وبلاؤه في الإسلام ، والرجل وقدمه في الإسلام ، والرجل وحاجته في الإسلام؛ فبلاء عمر في الإسلام وقدمه فيه وحاجته ومكانته كلُّ ذلك لم يشفع لعمر في ثوبٍ يحتاجُه لا عند سلمان ولا عندَ غيرِه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسوا كلُّهم الأحاديث الآمرة بالطاعة للأمير ما دام في دائرة الإسلام ، ونسوا ما اتّفقوا عليه من جواز التفضيل مراعاة لمنازل الرجال ؟!! .

كيف يتبنّى سيد هذا المبدأ الثوري الخطير الذي لا تعيش عليه أمة ، ولا يقومُ عليه دين على هذه القصة الباطلة ، لعلّها من صياغة أعداء الإسلام لتدمير الإسلام والمسلمين========= 
قال سيد قطب : ((ولقد كان هذا الشعور الإسلامي عميقـًا في نفسه ، مصاحبـًا له في كلّ ملابسةٍ ؛ فقد ساوم رجلاً على فرس ، ثم ركبَه ليجرِّبَه فعطب ، فأراد أن يردَّه إلى صاحبه ، فأبى ، فتحاكما إلى شريح القاضي ، فسمع حُجّة كلٍّ منهما ، ثم قال : يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو ردّ كما أخذت ، فقال عمر : ((وهل القضاء إلا هكذا)) ؟ ثم أقام شريحـًا على قضاء الكوفة جزاء ما قضى بالحق والعدل)) ([1]) .

أقول : بحثتُ كثيرًا عن هذه القصة فلم أجدها .

وسواء صحّت أو لم تصحّ فإن عمر بن الخطّاب الخليفة الراشد فوقَ هذا المستوى ، وكان وقّافـًا عند كتاب الله كما شهد له ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ، وقد ملأ هذا الخليفة العادل العبقري الدنيا عدلاً؛ فهذا قليلٌ في حقِّه ـ رضي الله عنه ـ .

ولأخيه الخليفة الراشد عثمان من الكمال والصفات الحميدة والعدل والإنصاف ما يجعله رديف أخيه عمر في العدل والإنصاف وسائر الخلال الحميدة؛ وبهذه الخلال اختارته الأمة عن رضى وحبّ واغتباط .

وله قصة طريفة في باب العدل والإنصاف لا تقلَّ طرافةً عن قصة عمر هذه :

روى ابن شبَّة بإسناده قال : دخل عثمان بن عفان على غلام له يعلف ناقة ، فرأى في علفها ما كره ، فأخذ بأذن غلامه فعركها ، ثم ندم فقال لغلامه اقتص ، فأبى الغلام ، فلم يدعه حتى أخذ بإذنه فجعل يعركها ، فقال له عثمان شدّ ، حتى ظنّ أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ منه ، ثم قال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : واهـًا لقصاص قبل قصاص الآخرة)) . وفي إسناد القصة انقطاع([2]) ولكنها لا تستكثر على عثمان ، ولا تستبعد لعدله وإنصافه وتواضعه ـ رضي الله عنه ـ ، كما لا تستبعد تلك القصة ولا تستكثر على أخيه عمر بن الخطاب .

أما الفضل والعفو والحلم والصفح عمن يعتدّى عليه فقد برز فيه ـ رضي الله عنه ـ ، وقد رويت قصص عنه تنبئ عن نفسٍ كريمة بلغت غاية السماحة :

منها : ما رواه ابن شبَّة : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن عمران بن عبد الله بن طلحة : أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ خرج لصلاة الغداة ، فدخل من الباب الذي كان يدخل منه ، فزحمه الباب ، فقال : انظروا ، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف فقال له عثمان ـ رضي الله عنه ـ : ما هذا ؟ ، قال : أردت أن أقتلك ، قال : سبحان الله ! ويحك علامَ تقتلني ؟ ، قال : ظلمني عمّالك باليمن ، قال : أفلا رفعتَ ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك وأعديك على عاملي أردتَ ذلك مني ، فقال لمن حوله : ما تقولون ؟ ، فقالوا : يا أمير المؤمنين عدوٌّ أمكنك الله منه ، فقال : عبدٌ هَمَّ بذنبٍ فكفَّه الله عني . ائتني بمن يكفل بك لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين ، فأتاه برجل من قومِه فكفل به ، فخلَّى عنه . قال عمران : فوالله ما ضربه سوطـًا ، ولا حبسه يومـًا([3]).

وفي إسناده انقطاع ، ويتقوّى بروايات قبله ، فيرتقي إلى درجة الحسن أو الصحة؛ وقد أشار إلى ذلك المحقق ـ رحمه الله تعالى ـ .

فلِمَاذا تُغفل مكرمات عثمان ـ رضي الله عنه ـ ويركّز على الحطِّ منه اعتمادًا على إفك الروافض والحاقدين والمغرضين ؟ .

وهل يجوز أن تُذكر محاسنُ عمر ـ رضي الله عنه ـ ليُتوصَّل منها إلى الحطِّ من أخيه عثمان ؟ ، ولماذا لا يقال في عثمان ـ رضي الله عنه ـ ما قيل في عمر ؟ .

لقد كان هذا الشعور الإسلامي عميقـًا في نفسه ، مصاحبـًا له في كلِّ ملابسة ، وتذكر تطبيقات ذلك في حياتِه كما ذكرت في حياة أخيه عمر . رضي الله عن كل أصحاب رسول الله ولا سيّما الخلفاء الراشدين المهديين ، والعشرة المبشّرين بالجنة؛ فقد كانت حياتهم كلها تطبيقـًا صحيحـًا للإسلام رغم أنوف الحاقدين============

كان عثمان رضي الله عنه يقيم العدل على نفسه وبين رعيته
قال سيد : ((فإذا فهم عمر الحكم على أساس هذا التصوّر فلا مجال لأن يكون لقرابة الحاكم امتيازات ما على سائر أفراد الرعية . فإذا تناول ابنُه عبد الرحمن الخمر فلا بدّ من الحد ، وقصّته في ذلك معروفة ، وإذا عدا ابن عمرو بن العاص على المصري فلا بدّ من القصاص .

فأما في المال فعمّاله مسئولون عن كل ما زاد في أموالهم بعد الولاية خشية أن يكون نموّها على حساب مال المسلمين ، أو بسبب من جاه الولاية . و ( من أين لك هذا ؟ ) كان قانونه الذي عامل به عمّاله واحدًا واحدًا كلما وجد مبرّرًا لأن يعاملهم به؛ فقد قاسم عمرو بن العاص واليه في مصر وسعد بن أبي وقاص واليه في الكوفة كما ضم مال أبي هريرة واليه في البحرين))([1]).

أقول : في هذا الكلام نظرات :

الأولى : أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ فهم الحكم على أساس هذا التصوّر كما فهم أخواه عمر وأبو بكر ـ رضي الله عنهم ـ .

وإذا كان عثمان قد ولى أحدًا من قرابته فلكفائتهم التي قلَّ أن تتوفّر في
غيرهم أولاً .

وثانيـًا : فلا يعرف بطن من بطون قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين ، وكان فيهم شرف وسؤدد([2]).

وكذلك استعمل منهم أبو بكر ، وعمر ، وسيأتي استكمال هذا في موضعه .

الثانية : إذا كان عمر قد أقام الحدّ على ولده بل وصهره فإنّ الشيءَ من معدنه لا يستغرب ، فكذلك أخوه عثمان أقاد من نفسه ـ كما تقدم ـ ، وأقام الحدّ على أخيه لأمه وابن عمه الوليد بن عقبة([3]) الأمير المجاهد الشجاع السخي .

والثالثة : في مقاسمة عمر لعماله في أموالهم؛ فإنّ هذه دعوى عريضة لا أساسَ لها ، ولم يفعل ذلك رسول الله ، ولا أبو بكر ، ولم يول عمر ، ومن قبله إلا الأكفاء الأمناء ـ رضي الله عنهم ـ .

وقد ذكر ابن سعد في ((طبقاته))([4]): أن عمر قاسم غير واحد منهم ماله إذا عزله ، منهم : سعد بن أبي وقاص ، وأبو هريرة . ولم يذكر أي إسناد ولن يجد ، وهذان أروع وأشرف وأنبل من أن يرتعوا في أموال المسلمين .

أما سعد بن أبي وقاص فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، ((وأحد الستة أهل الشورى ، وكان مجاب الدعوة ، مشهورًا بذلك ، وهو أحد الفرسان الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه ، وهو الذي كوّف الكوفة ، وتولّى قتال فارس ، وفتح الله على يديه القادسية ، وكان أميرًا على الكوفة لعمر ، ثم عزله ، ثم أعاده ، ثم عزله ، وقال في مرضه : ((إن وليها سعد فذاك وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة؛ ومناقبُه كثيرة جدًّا))([5]).

وقصته في ((الصحيحين)) عن جابر بن سمرة قال : شكى أهلُ الكوفة سعدًا إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فعزله ، واستعمل عليهم عمّارًا ، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلِّي ، فأرسل إليه فقال : يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي قال أبو إسحاق : أما أنا والله فإني كنتُ أصلِّي بهم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها : أصلِّي صلاة العشاء فأركد في الأوليين ، وأحذف في الأخريين . قال : ذاك الظنُّ بك يا أبا إسحاق ، فأرسلَ معه رجلاً ـ أو رجالاً ـ إلى الكوفة ، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلاّ سأل عنه ، ويثنون معروفـًا حتى دخل مسجدًا لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة فقال : أما إذا نشدتنا فإنّ سعدًا كان لا يسير بالسرية ، ولا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية . قال سعد : أما والله لأدعونّ بثلاث : اللهم إن كان عبدك هذا كاذبـًا قام رياءً وسمعة فأطل عمره ، وأطل فقرَه ، وعرِّضه بالفتن؛ فكان بعد إذا سُئل يقول : شيخ كبير مفتون ، أصابتني دعوة سعد))([6]).

فهل مثل هذا الصحابي الجليل يتّهمه عمر بأخذ ما ليسَ له من أموال المسلمين أو التحايل في الوصول إلى الإثراء على حساب أموال المسلمين ؟ ، كلا ، ثم كلا .

وأما أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فهو الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سيد الحفّاظ الأثبات ـ رضي الله عنه ـ؛ قال الذهبي في ((السير))([7]): ((معمر عن أيّوب ، عن محمد : أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف ، فقال له عمر : استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدوّ كتابه ؟ ، فقال أبو هريرة : فقلت : لستُ بعدو الله وعدوّ كتابه ، ولكني عدوّ مَن عاداهما ، قال : فمن أين هي لك ؟ ، قلت : خيل نتجت ، وغلّة رقيق لي ، وأعطية تتابعت؛ فنظروا فوجدوه كما قال . فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليوليه ، فأبى ، فقال : تكره العمل وقد طلب العملَ مَن كان خيرًا منك : يوسف ـ عليه السلام ـ ؟ ، فقال : يوسف نبيٌّ ابن نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة بن أميمة ، وأخشى ثلاثـًا واثنتين ، قال : فهلاّ قلت : خمسـًا ؟ ، قال : أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم ، وأن يضرب ظهري ، وينتزع مالي ، ويشتم عرضي)) .

قال الذهبي : ((رواه سعد بن الصلت عن يحيى بن العلاء ، عن أيوب متصلاً بأبي هريرة ، وروى نحو هذه القصة ابن سعد([8]) ، وفيها : فقبضها منه ، وليس والله أبو هريرة بالخائن ولا عمر بالظالم ، ولكنه اجتهاد من عمر ـ رضي الله عنه ـ يردع به العمال.

ولو كان أبو هريرة متّهمـًا عند عمر لما رغب في توليته مرّة أخرى ، وقد روى نحو هذه القصة البلاذري ، وفيها : ((فكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضلَ من ذلك))([9]).

وذلك الظنُّ بهذا الخليفة العادل ـ رضي الله عنه وعن إخوانه الطيّبين ـ .

وأما عمرو بن العاص فهو الصحابي المجاهد ، فاتح مصر وطرابلس ، وأمير فلسطين والأردن في عهد عمر ، ثم وجهه إلى مصر ففتحها ، وبقي أميرًا عليها أيام عمر وسنين من عهد عثمان .

فلم يعزله عمر ـ رضي الله عنه ـ لكفاءته العالية .

ولم أرَ في أيّ مصدر أنّ عمر قاسمه مالَه .

وإنما تابعت هذه الدعوى إبعادًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التهم ، وحمايةً لأعراضهم ، وصيانةً لها من أن يرتع فيها من في قلبه مرض وغلّ من أهل الأهواء والجهل .

أما أبو هريرة : فقد ذكر ابن الجوزي أنه قدم على عمر من البحرين بمال : قال : فقدمت عليه ، فصليت العشاء معه ، فلما رآني سلّمت عليه ، فقال : ما قدمت به ؟ ، قلت : قدمتُ بخمسمائة ألف ، قال : أتدري ما تقول ؟ ، قلت : مائة ألف ، ومائة ألف ، ومائة ألف ، حتى عددت له خمسـًا؛ قال : إنك ناعس ، ارجع إلى بيتك فنم ، ثم اغد عليّ ، قال : فغدوتُ عليه ، فقال : ما جئتَ ؟ ، قلت : خمسمائة ألف وقال : أطيب ؟ ، قلت : نعم ، لا أعلم إلاّ ذلك ، فقال للناس : إنه قدم عليَّ مال كثير ، فإن شئتم إن نعد لكم عدًا ، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إني قد رأيتُ هؤلاء الأعاجم يدوّنون ديوانـًا؛ يعطون الناس عليه ، فدوّن الديوان؛ ففرض للمهاجرين في خمسة آلاف وللأنصار في أربعة آلاف ، وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر ألفـًا))([10]).

وأورد ابن الجوزي في كتابه ((تاريخ عمر))([11])عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول : قدمتُ على عمر بن الخطّاب من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم ، فقال لي : بماذا قدمت ؟ ، قلت : إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم ، قال : إنما قدمت بثمانين ألف درهم ، قال : قلت : إنما قدمتُ بثمانمائة ألف درهم ، قال : ألم أقل لك إنك يماني أحمق ، إنما قدمت بثمانين ألف درهم ، فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت له ثمانمائة ألف ، فقال : أطيِّبٌ ويلك ! ، قلت : نعم؛ فبات عمر ليلته أرقـًا حتى نودي لصلاة الصبح ...)) وذكر تمام القصة .

وأنت ترى أنه ليس للقصتين إسناد؛ فإن كان المرءُ لا بدّ متحدِّثـًا بروايات بدون أسانيد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام فلا يذكر منها ما فيه ثلبهم وانتقاصهم ، والأولى به إن كان متحدِّثـًا عنهم فليذكر ما فيه محاسنُهم وما يليقُ بمكانتهم وينسجم مع أخلاقهم وواقعهم الوضّاء المشرق ـ رضي الله عنهم ـ ، مثل هاتين القصتين وما يشابهما؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم .

قال سيد : ((ولقد كان قوام تصوّر الحكم في نفس عمر باختصار هو : الطاعة والنصح في حدود الدين من الرعية ، والعدل والحسنى كذلك من الراعي .

ولقد قبل من رجل من رعيته أن يقول له : لو وجدنا فيك اعوجاجـًا لقوّمناه بسيوفنا؛ فأقرّ بذلك مبدأ حق الرعية في تقويم الراعي ، كما خطب الناس يومـًا فقال : ((إني لم أستعمل عليكم عمّالي ليضربوا أبشاركم ، وليشتموا أعراضكم ، وليأخذوا أموالكم ، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم؛ فمن ظلمه عامل بمظلمة فلا إذن له عليّ ليرفعها إليّ حتى أقصه منه))؛ فأقرّ بذلك حدود الحاكم على الناس لا يتعداها))([12]).

أقول :

1 ـ ما كان عند عمر من تصوّر للحكم فإنه عند أخيه عثمان ـ رضي الله عنهما ـ الطاعة والنصح من الرعية في حدود الدين ، والعدل والحسنى كذلك من الراعي؛ فما كان عثمان غافلاً عن هذا التصوّر ، وما ظلَم أحدًا من رعيّته في دينٍ ولا عرض ولا مال .

فقد كان ـ رضي الله عنه ـ بارًّا ، عادلاً ، خليفة ، راشدًا كأخيه عمر ـ رضي الله عنه ـ؛ عمر بعدله وقوّته وهيبته ، وعثمان بلينه ولطفه وعدله .

2 ـ قول سيد : ((ولقد قبل من رجل من رعيته أن يقول له : لو وجدنا فيك اعوجاجـًا لقوّمناه بسيوفنا)) .

فلا أدري كيف يقبل مسلم عاقل مثلَ هذا الكلام الثوري الذي يؤدِّي إلى الفوضى وسفك الدماء وضياع الإسلام دينـًا ودولة؛ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقلُ وأسمى أخلاقـًا وأشدّ وعيـًا لتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحضّهم على طاعة أولي الأمر والصبر عليهم ولو جاروا ممن هو دون عمر ـ رضي الله عنه ـ فكيف بمثل عمر ـ رضي الله عنه ـ .

معقول : أن يضع عمر نصب عينيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الطاعة في المعروف)) ، وقوله : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره إلاّ أن يؤمر بمعصية؛ فإن أُمر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعة)) ، فيقول لهم : أطيعوني إن أطعتُ اللهَ ، فإن عصيتُه فلا طاعةَ لي عليكم . أي : في المعصية ، وتبقى طاعته وطاعة الأمراء فيما يأمرون به من طاعة الله ، لا كما يفهم الخوارج أنه بمجرّد أن يقع في معصية أيّ معصية فقد سقط عنهم حقّ طاعته فوجب إسقاطه .

على كل حال : هذا الكلام لم يثبت ، ولم أقف له على إسناد ، وفي الوقت نفسه معناه غيرُ لائق بأدب الصحابة وفقههم وتوقيرهم لعمر ـ رضي الله عنه ـ؛ وعمر ـ رضي الله عنه ـ في غاية العدل والاستقامة لا خوفـًا من السيوف والرماح ، وإنما ذلك منه خوفـًا من الله ومراقبة لله ، ولو كان ذلك العدلُ منه خوفـًا من الناس لما كان له ولا لعدله كبير قيمة ولا منزلة عند الله ولا عند الناس .

وإذا كان قد ورد عن أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ما استمدّاه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الطاعة في المعروف)) ، و ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) .

فإن لعثمان ـ رضي الله عنه ـ من الأقوال والمواقف ما ينظمه معهما في سلسلة الخلفاء الراشدين المهديين :

فقد روى عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) عن سويد : ثنا إبراهيم بن سعد : حدثني أبي عن أبيه قال : قال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : ((إن وجدتم في كتاب الله عز وجل أن تضعوا رجلي في القيد فضعوها))([13]).

قال سيد : ((ولشعوره العميق بتبعات الحكم لم يشأ أن يحملها اثنان من أسرة الخطاب؛ فمنع أن يكون ابنه مرشّحـًا لها ، وإن جعله من أهل الشورى ، وقال قولته المشهورة التي تنطق بحقيقة تصوّره للخلافة : لا أربَ لنا في أموركم ، وما حمدتها فأرغب فيها لأحدٍ من أهل بيتي؛ إن كان خيرًا فقد أصبنا منه ، وإن كان شرًّا فحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجلٌ واحد))([14]).

أقول : وكذلك عثمان ـ رضي الله عنه ـ يشعر بتبعات الحاكم فلم يرشّح للخلافة أحدًا من أبنائه ولا من أقاربِه ولا عقد العهد لأحدٍ منهم .

ولم يقل سيد هذا الكلام مدحـًا لعمر ، ولكنه تعريض بعثمان؛ إذ يرى أنه مكَّن لبني أميّة ومهَّد لقيام ملكهم ، فهو يقول : ((كانت الولايات تُغْدَقُ على الولاة من قرابة عثمان ، ومنهم معاوية الذي وسع عليه في الملك فضمّ إليه فلسطين وحمص ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، ومهّد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة عليّ))([15]).


([1]) ((العدالة)) ( ص : 158 ) ط ثانية عشر .

([2]) ((العواصم من القواصم)) ( ص : 88 ـ حاشية ) .

([3]) روى مسلم ( رقم 1707 ، في الحدود ) .

([4]) ( 4/282 ) .

([5]) انظر : ((تهذيب التهذيب)) : ( 3/284 ) .

([6]) أخرجه البخاري : ( 10 ، كتاب الأذان : 95 ، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم ،
حديث : 755 ) ، وأخرج مسلم نحوه في ( 4 ـ كتاب الصلاة ، حديث : 453 ) .

([7]) ( 2/612 ) .

([8]) ((الطبقات)) : ( 4/335 ) .

([9]) ((فتوح البلدان)) ( ص : 93 ) .

)) : ( 7/227 ) ، وقال : ((رجاله رجال الصحيح)) .

أقول : في إسناده سويد بن سعيد : صدوقّ ، تغيَّر .

([14]) ((العدالة)) ( ص : 159 ) ، و ( ص 186 ) ط الخامسة .

([15]) ((العدالة)) ( ص : 159 ) ، ط ثانية عشرة ، و ( ص : 187 ) ط خامسة .====
اتهام سيد لعثمان ـ رضي الله عنه ـ بأنه باكر الإسلام الناشئ بالتمكين للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام
ويقول : ((ولقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث ...))([1])إلخ .

ويقول : ((مضى عثمان إلى رحمة ربِّه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكّن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال))([2]).

أقول : لو جهد الخميني وغلاة الروافض في الطعن على عثمان لَمَا استطاعوا أن يقولوا أشدَّ من هذه المطاعن في الخليفة الراشد المظلوم .

وما أظنُّ سيدًا يقلُّ حقدًا وبغضـًا لبني أمية عن أشدّ الغلاة؛ فترى عبارته تنضح بذلك ، ونعوذ بالله من هذا الداء ، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم : ((لا يزال الإسلام عزيزًا ما ولي أمرُ هذه الأمة اثنا عشر خليفة)) ؟ .

قال ابن كثير : ((وفيها ( أي : في سنة ثلاث وتسعين ) افتتح محمد بن القاسم ـ وهو ابن عم الحجاج بن يوسف ـ مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند ، وكان قد ولاّه الحجاج غزو الهند وعمره سبع عشرة سنة؛ فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر ـ وهو ملك الهند ـ في جمع عظيم ومعه سبعة وعشرون فيلاً منتخبة ، فاقتتلوا فهزمهم الله وهرب الملك داهر ، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلْق كثير جدًّا ، فاقتتلوا قتالاً شديدًا ، فقتل الملك داهر وغالب من معه ، وتبع المسلمون من انهزم من الهنود فقتلوه .

ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها ، ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرة من الجواهر والذهب وغير ذلك؛ فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ، ليس لهم شغل إلاّ ذلك ، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وبرها وبحرها؛ وقد أذلّوا الكفرَ وأهلَه ، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبـًا ، لا يتوجّه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه؛ وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين في كلّ جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينَه؛ فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك ، يقتل ويسبي ويغنم ، حتى وصل إلى تخوم الصين ، وأرسل إلى ملكه يدعوه ، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفـًا وأموالاً كثيرة هديّة ، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده))([3]).

قارن بين هذا الكلام المنصف الذي يوضِّحُ عزة الإسلام ومكانة بني أمية الذين أعزّ الله بهم الإسلام قارن بينَه وبين كلام سيد قطب الآتي :

((لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد ، ولكن روحه انحسرت بلا جدال . وما قيمة الرقعة إذا انحسرت الروح ؟ ، ولولا قوة كامنة في طبيعة هذا الدين وفيض عارم في طاقته الروحية لكانت أيام أميّة كفيلة بالقضاء عليه القضاء الأخير))([4]).

وسوف يتبدّد هذا الخرص والخبط الذي يدور في دوامته سيد قطب ، ستتبدد هذه الأوهام والمزاعم التي لا يسندها عقل ولا نقل حين يعلم القارئ أن عثمان والأمة وبني مروان أنفسهم ما كان يدور في خلدهم شيء من هذا الأوهام التي ملأت دماغ سيد قطب حول عثمان وبني أمية .

فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال : أخبرني مروان بن الحكم قال : ((أصاب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى ، فدخل عليه رجلٌ من قريش قال : استخلف ، قال : وقالوه ؟ ، قال : نعم ، قال : ومَن ؟ ، فسكت ، فدخل عليه رجلٌ آخر ـ أحسبه الحارث ـ فقال : استخلف ، فقال عثمان : وقالوا ؟ ، فقال : نعم ، قال : ومن هو ؟ ، فسكت ، قال : فلعلهم قالوا إنه الزبير ؟ ، قال : نعم ، قال : أما والذي نفسي بيده إنه لخيرُهم ما علمت ، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .

وروى من طريق أبي أسامة عن هشام أخبرني أبي : سمعت مروان بن الحكم : ((كنت عند عثمان أتاه رجل فقال : استخلف ، قال : نعم ، الزبير ، قال : أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثـًا))([5]).

خليفة طاهر مؤمن ، ومجتمع طاهر مؤمن لا يدور في خلدهم حول الاستخلاف وغيره إلاّ ما كان يدور في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ من أهميّة الاستخلاف ، بل تجاوز الأمر ذلك إلى ترشيح رجل معيّن هو في نظرهم أفضل الصحابة الموجودين .

فطابق ذلك ما في نفس الخليفة عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيدلي بشهادته مؤكِّدًا صواب اختيارهم وترشيحهم .

ومن يحثه على الاستخلاف وتنفيذ رغبة الأمة ؟ ، أنه مروان بن الحكم وأخوه . فأين التمكين لبني أمية ؟ ، وأين هي الدولة الأمويّة القائمة بالفعل ؟ .

ولَمّا ثار أهل الفتنة على عثمان كان أشدّ المحرِّضين والمتآمرين وأقواهم هو محمد بن أبي حذيفة الأموي ، ولما استشهد عثمان تمّت البيعة في العالم الإسلامي إلا الشام لعلي بن أبي طالب الهاشمي لا الأموي .

وقد عرضت على غيره كطلحة بن عبيد الله التيمي ، والزبير بن العوام الأسدي ، ولم تعرض على أحدٍ من بني أمية؛ فأين التمكين لبني أميّة .

وهناك خبرٌ مضمونُه أن عثمان كتب العهد لعبد الرحمن بن عوف : قال ابن شبة([6]): حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر ، عن أبيه ، عن جدِّه : أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ اشتكى رعافـًا فدعى حمران فقال : اكتب لعبد الرحمن العهد من بعدي ، فكتب له ، فانطلق حمران فقال لي البشرى ؟ ، قال : لك البشرى وذاك ماذا ؟ ، قال : إن عثمان قد كتب لك العهد من بعدِه ، فأقبل عبد الرحمن إلى عثمان فقال : أكان يصلح لك أن تكتب لي العهد من بعدك؛ والله يعلم أني أخشى أن يحاسبني في أهلي ألاّ أكون أعدل بينهم فكيف بأمة محمد ؟! ، فقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : عزمتُ عليك أَحُمران أخبرك ؟ ، قال : نعم ، قال : يا حمران فأعاهد الله ألا تساكنني أبدًا ، فأخرجه ، وأما أنتَ يا أبا محمد فهل وليتني هذا الأمر يوم وليته وأنت تقدر على أن تصرف ذلك إلى نفسك أو توليه من بدا لك وفي القوم من هو أمسّ بك يومئذ رحمـًا مني إلا رجاء الصلة والإحسان فيما بيني وبينك ؟ ، فقال عبد الرحمن : وليتك ما وليتك والله يعلم أني قد اجتهدت ولم آلُ أن أجد خير عباده ، أما أنا فكان يعلم الله موضعي ما لم أكن لأليها ، وأما أنا فاجتهدت لأمة محمد فوليت أمرهم خيرهم ، فإذا سألني قلتُ : يا رب وليت أمرهم خيرهم ( فيما )أعلم ، قال عثمان : فاجتهدت أنت لنفسك وحرصت وأنا والله ما آلو أن أجتهد وأحرص في أفضل من أعلم والله لا أفتك هذا من رقبتك أبدًا . فلما رأى ذلك عبد الرحمن انصرف ، فقام بين المنبر والقبر فدعى فقال : اللهم إن كان من تولية عثمان إيَّاي ما ولاني فأمتني قبل عثمان ، فلم يمكث إلا ستة أشهر حتى قبضه الله))([7]).

هذا إن ثبت فيحتمل أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ عرض الأمرَ على الزبير فرفض أن يكون خليفة؛ لأنه كان يرفض الولايات من أيام عمر ، ثم ترجّح له أن يكتب لعبد الرحمن ويكتم ذلك عنه .

وفي هذا الخبر ثناء عبد الرحمن على عثمان في آخر حياته ، وأنه خيرُ أصحاب محمد بعد أبي بكر وعمر ، وفيه ثناء عثمان على عبد الرحمن واعتقاده أنه أفضل من يعلم .

وهذه النصوص من أعظم الشواهد أن الأمة في عهد عثمان لم تبعد عما كانت عليه في عهد عمر ، وأنهم خير القرون كما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنّ تصوّر حقيقة الحكم لا يزال كما هو في عهد عمر لم يتغيّر لا في أذهان الأمة ولا في ذهن عثمان ولا في ذهن أحدٍ من بني أمية ، ولا يقول بخلاف ذلك إلاّ أهل الأغراض والأحقاد من الروافض ومَن سار على دربهم من أهل الفتن .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ط : ثانية عشرة ، و ( ص : 187 ) ط خامسة .

([2]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) .

([3]) ((البداية والنهاية)) ( ج 9 ، ص 87 ) ط السعادة .

([4]) ((العدالة الاجتماعية)) ( ص : 194 ) ط الخامسة .

([5]) كتاب ((المناقب)) حديث : ( 3717 ـ 3718 ) .

([6]) ((أخبار المدينة)) : ( 3/247 ـ 248 ) .

([7]) ((أخبار المدينة)) : ( 3/247 ـ 248============
إظهار عثمان في صورة ظالم متجبِّر
قال سيد : ((منح عثمان من بيت المال زوج ابنته الحارث بن الحكم يوم عرسه مئتي ألف درهم ، فلما أصبح الصباح جاءه زيد بن أرقم خازن مال المسلمين وقد بدا في وجهه الحزن وترقرقت في عينيه الدموع ، فسأله أن يعفيه من عمله ، ولما علم منه السبب وعرف أنه عطيته لصهره من مال المسلمين قال مستغربـًا : (أتبكي يا ابن أرقم أن وصلتُ رحمي ؟) ، فرد الرجل الذي يستشعر روح الإسلام المرهف : (لا يا أمير المؤمنين ، ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضـًا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لو أعطيته مائة درهم لكان كثيرًا ، فغضب عثمان على الرجل الذي لا يطيقُ ضميره هذه التوسعة من مال المسلمين على أقارب خليفة المسلمين ، وقال له : (ألق بالمفاتيح يا ابن أرقم فإنا سنجد غيرك) ))([1]).

انظر إلى هذا الرجل الذي يتقبل بكل لهف هذه المطاعن الفاجرة في رجلٍ من أعظم رجال الإسلام ومن أعظم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمسِّ الناس به رحمـًا ، وممن بذل الكثيرَ والكثير لإعلاء كلمة الله ونصرة الله ورسوله ونصرة الإسلام؛ فلم يبق لهذا الرجل العظيم الخليفة الراشد في نفس سيد قطب ومشاعره أيّ رصيد من الاحترام وحسن الظنّ يكذّب به هذه المطاعن الفاجرة ويدفعها عن عرضه الكريم .

أين مصدر هذا الإفك ؟! .

لماذا لا يذكره سيد ليعرف المسلمون من أين يستقيه ؟! .

أين أسانيدها ؟!! .

وأين التحرِّي لأجل حماية عرض من أشرف الأعراض وأحقّها بالتحرِّي والحماية والاستماتة في الذبّ والدفع عنه ؟؟! .

صدّق سيد قطب هذا الإفك واستروح إليه بدل أن يدفعَه أو يعتذر أو يتأوّل له إن كان قد خدع بهذا الكذب لم يتحرّك ضمير عثمان لحزن زيد بن أرقم ولم يهيّج مشاعره الإسلامية بكاؤه فيتذكّر ويعتبر ويرجع إلى الله في نظر سيد قطب .

بل بلغ في قسوة القلب وبرودة المشاعر أن يستغرب هذا البكاء ويقول مغالطـًا : (أتبكي يا ابن أرقم أن وصلت رحمي) .

قال سيد متفاعلاً مع هذا المشهد الذي تتفطّر له الأفئدة وقد بلغ منه كل مبلغ : ( فردّ الرجل الذي يستشعر روح الإسلام المرهف ) أي : أن عثمان قد فقد روح الإسلام المرهف .

( ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضـًا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ، والله لو أعطيته مائة درهم لكان كثيرًا ) فلم يُجد الحزن ولا البكاء ولا هذه الموعظة العظيمة التي تلين لها الصخور؛ لأن عثمان لم يبق في نفسه شيء يؤثّر فيه ، ويذكّره بالله أو يخاف به على عمله العظيم أن يحبط؛ لأنه فقد روح الإسلام المرهف في نظر سيد ، بل بدل أن يتعظ ويتذكّر أخذته العزّة بالإثم فغضب على الرجل الذي لا يطيقُ ضميرُه هذه التوسعة من مال المسلمين على أقارب خليفة المسلمين وقال له : ( ألق بالمفاتيح يا ابن أرقم فإنا سنجد غيرك ) !! .

كأن سيدًا يقول : يا للجبروت ويا للقسوة ويا للجرأة في عثمان ، هكذا يصدر هذا التصرف من هذا الشيخ الكبير الذي فقد روح الإسلام المرهف ونسي طبيعته الرخية فوصل إلى هذا الحد المرعب وسيبحث عن خازن جامد المشاعر فلا يستشعر روح الإسلام المرهف ويطيق ضميره الخرب هذه التوسعات في أموال المسلمين لأقارب عثمان !! .

انظر إلى القصة تقول : إن عثمان لو كانت عطيته مائة درهم لكان كثيرًا .

حاشا زيد بن أرقم أن يصل إلى هذه الدرجة من الشغب وهو يعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي بسخاء مما أثار بعض شباب الأنصار تارة وذا الخويصرة تارة أخرى ، وقد أعطى أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ بسخاء ولا شكّ أن ذلك كان يغيظ أمثال ذي الخويصرة .

والله لو أعطى عثمان بسخاء لكان بارًّا راشدًا وما أظنّ زيد بن أرقم الصحابي الجليل يستنكر ذلك ولا غيره من الصحابة الأجلاّء غير أن تلاميذ ذي الخويصرة والروافض لا يزالون يحترقون إلى اليوم من خلافة عثمان نفسها فضلاً عن عطائه للمستحقين من الصحابة وغيرهم .

وهناك قصة تبيّن أن هذه القصة التي تعلق بها سيد قطب قصة باطلة ، وهي ما رواه ابن شبة في ((أخبار المدينة))([2]) :

حدثنا محمد بن سلام([3]) ، عن أبيه([4])قال : قال عبد الله بن خالد لعبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : كلِّم أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإن لي عيالاً وعليَّ دَينـًا ، فقال : كلِّمه فإنك تجده برًّا وصولاً فكلمه فزوجه ابنته ، وأعطاه مائة ألف ، فولدت له عثمان بن عبد الله ، فكان لا يكلم إخوته كبرًا بعثمان .

وروى الفاسي في ((العقد الثمين))([5])هذه القصة من طريق الزبير بهذا الإسناد ، وفيها : ((كلم لي أمير المؤمنين فإنّ لي عيالاً ودَينـًا ، قال : كلمه ، فإنك ستجده برًّا واصلاً ...)) إلى آخر القصة .

وفي هذه القصة ما يبيِّن زيف تلك القصة من جهات :

الأولى : أن في هذه القصة أنّ العطاء كان مائة ألف ، وفي تلك مائتي ألف .

والثانية : أن في تلك أن العطاء كان من عثمان لزوج ابنته الحارث بن الحكم ، أي : شقيق مروان .

وهذا الحارث لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم بعد بحثٍ في مصادر كثيرة ، وله ذكرٌ في بعض متون البخاري .

والغرض من القصة بيان سيطرة بيت الحكَم على عثمان ، واندفاع عثمان في تحقيق مآربهم إلى أبعد الحدود التي لا ترضي الله ولا المسلمين .

والثالثة : أن في القصة الثانية أن عبد الله بن خالد على قرابته من عثمان كان يشكو دَيْنـًا وعيالاً ، ومع ذلك ما كان يجرؤ أن يشكو لعثمان هذه الأعباء التي أثقلت كاهله؛ فذهب يبحث عن واسطة يكلّم له عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، فشجّعه هذا الواسطة ـ وهو عبد الله بن عمر وكان أعرفَ بسجايا هذا الخليفة البار الراشد ـ فقال لابن خالد : كلمه فإنك ستجده برًّا واصلاً ، ولقد كلمه فوجده كذلك .

الرابعة : أن تلك القصة تقول في أسلوب مثير : منح زوج ابنته ، أي : أنه أجزل له العطاء لأمرين لأنه ابن الحكم أخو مروان ، ولأنه زوج ابنته . وهذه القصة أن عبد الله بن خالد لما كلم عثمان تجاوب معه وقام ببره على أحسن الوجوه التي يحمد عليها وتذكر في محاسنه ـ رضي الله عنه ـ .

فزوجه ابنته ووصله بما يعينه على زواجه وعلى تسديد دَينه وعلى نفقة عياله ، وذلك مائة ألف ، ولقد كان هذا القدْر قليلاً؛ لأن المال كان قد فاض في عهد عثمان إلى درجة عظيمة .

الخامسة : أن ابن عمر كان يرى عثمان في تصرفاته بارًّا واصلاً وهو الذي لا يجامل ولا يحابي ولم تمل به الدنيا ولم يمل بها .

وقد كان صديقـًا لعبد الله بن خالد هذا دهرًا طويلاً حتى مات في داره ، ولو كان ممن يستحل أموال المسلمين لما صادقه طوال حياته([6]).

السادسة : في القصة الواهية من التزيّد ونسبة الشغب إلى زيد بن أرقم ـ وحاشاه ـ ما قد عرفت .

وفيها : عدم مبالاة عثمان بالتذكير وتصرفات لا تصدر إلا من شخص قد ضعف أو زال إيمانه { وإذا ذُكِّروا لا يَذكرون } .

وأعاذ الله عثمان المؤمن الشهيد من ذلك .

السابعة : أن القصة الثانية تفيد أنه أعطاه مائة ألف ولم تقل من بيت المال ، ودون إثبات أنها من بيت المال خرط القتاد ، لا سيما وعثمان كان جوادًا سخيـًّا معطاءً بارًّا وصولاً فلا يتكامل برّه ووصله إلاّ إذا كان عطاؤه من صلب ماله ، ولا يَستكثرُ عليه ذلك إلا حاقد مغرِض .


([1]) ( ص : 159 ) ((العدالة)) ، ( ص : 181 ـ 187 ) ط خامسة .

([2]) ( 3/240 ) .

([3]) محمد بن سلام قال فيه صالح بن محمد جزرة الحافظ : ((صدوق)) ، وقال أبو الفضل الرقاشي : ((أحاديث محمد بن سلام عندنا مثل حديث أيوب عن محمد عن أبي هريرة)) . ((تاريخ بغداد)) : ( 5/823 )؛ وردّ أبو خيثمة حديثَه لأنه يرمى عنده بالقدَر . ((تاريخ بغداد)) : الموضع المشار إليه .

([4]) أما أبوه فلم أقف له على ترجمة ، لكن القصة أقرب إلى أخلاق الصحابة وسيرتهم .

([5]) ( 5/135 ) .

([6]) انظر : ((أخبار مكة)) للفاكهي : ( 3/89 ، 278 
==========
اتهام عثمان بأنه قد توسع في المنح والعطايا
قال سيد قطب([1]): ((والأمثلة كثيرة في سيرة عثمان على هذه التوسعات؛ فقد منح الزبير ذات يوم ستمائة ألف ، ومنح طلحة مائتي ألف ، ونفل مروان بن الحكم خُمس خراج إفريقية . ولقد عاتبه في ذلك ناسٌ من الصحابة على رأسهم علي بن أبي طالب ، فأجاب : إن لي قرابةً ورحمـًا ، فأنكروا عليه وسألوه : فما كان لأبي بكر وعمر قرابة ورحم ، فقال : إن أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتها وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي؛ فقاموا عنه غاضبين يقولون : فهديُهما والله أحبُّ إلينا من هديك . نعم ( وأحب إلى الإسلام ، وأقرب إلى حقيقة الإسلام )([2]) ، وغير المال كانت الولايات تغدق على الولاة من قرابة عثمان وفيهم معاوية الذي وسع عليه في الملك ، فضم إليه فلسطين وحمص ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، ومهّد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة عليّ وقد جمع المال والأجناد . وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله ( الذي آواه عثمان وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصرِّف )([3]) ، ( وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح أخوه من الرضاع ... )) إلخ .

مناقشة هذا المقطع :

أولاً : لا أدري على أيِّ منهج ارتكزت مناقشات سيد قطب للخليفة الراشد عثمان ـ رضي الله عنه ـ ؟ .

ولا أدري هل خطر بباله قول الله : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومـًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } فإذا كان لا بدّ له من التشهير بهذا الخليفة الراشد ولا بدّ له من الإعراض عن منهج أهل السنة والجماعة في السكوت عما جرى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبارهم مجتهدين فيما حدَث بينهم حتى من القتال .

وإذا كان يرى أن لا بدّ له من الخوض في هذا الميدان على ما فيه من خطر وضلال فلقد كان يجب عليه أن يتحلّى بشيءٍ من العدل والإنصاف بناءً على قول الله تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ، وكان لا بدّ له إن كان مدفوعـًا إلى هذه الحملات بسبب ضغط نفسي أو خارجي أن يتبع المنهج العلمي في نقده([4])وبحثه ودراسته ، خصوصـًا وقد شاع في وقته احترام المنهج العلمي في البحث والدارسة خصوصـًا في مثل هذا الميدان الذي خاضه .

ثانيـًا : نسأله بناءً على ما أسلفناه فنقول :

أين أدلتك وبراهينك على هذه الأمثلة الكثيرة في سيرة عثمان على هذه التوسّعات ؟؟ .

وهل تستطيع أنت أو أشد خصوم عثمان وإخوانه أن تثبتوا في ضوء المنهج العلمي شيئـًا من هذه الاتهامات والادعاءات الظالمة ؟؟ .

ثالثـًا : زعمتَ أن عثمان منح الزبير ستمائة ألف ، ومنح طلحة مائتي ألف ، ونفل مروان بن الحكم خُمس خراج إفريقية .

1 ـ فهل تستطيع إثبات هذه الدعاوي ؟؟ .

2 ـ ألا ترى أنّ في دعواك هذه طعنـًا في عثمان والزبير وطلحة إذا كان في عطائه لهما ابتزاز لأموال المسلمين ؟؟ .

فإذا كانت حرامـًا وظلمـًا فإنه لا يجوزُ لهما أن يقبلا هذا العطاء فإنّ فيه تعاونـًا على الإثم والعدوان وتعاونـًا على ابتزاز أموال المسلمين ونهبها وفتحـًا لأبواب الفتن وللطعن في الإسلام نفسه .

لقد دافع سيد عن أبي بكر وعمر فيما حصل بين أبي بكر وعمر من خلاف في خالد بن الوليد في شأن مالك بن نويرة وتزوّج خالد لزوجة مالك بعد قتله ، وفي عزل عمر لخالد بعد ذلك .

ففسّر (هيكل) وجهات نظر أبي بكر وعمر تفسيرًا سياسيـًّا يناسب سياسة هذا العصر ، فاستنكر سيد هذا التفسير من هيكل فقال([5]): ((هذا هو التصوير الصحيح للأمر في نظر الدكتور هيكل ! وإن أعجب فعجب لرجل يعيش بفكره ونفسه في جوّ هذه الفترة من التاريخ الإسلامي ، وفي ظلّ هذه الضمائر المرهفة الحساسة الشديدة الحساسية من رجاله ثم لا يرتفع ضميره هو وشعوره بتفسير الحوادث على هذا المستوى المستمد مباشرة من ملابسات السياسة في عصرنا المادي الحاضر لا من روح الإسلام وتاريخه في تلك الفترة إنما هذه سياسة أيامنا الحاضرة تبرّر الوسيلة بالغاية وتهبط بالضمير الإنساني إلى مستوى الضرورات الوقتية ، وتحسب هذا براعة في السياسة ولباقة في تصريف الأمور .

وما أصغر أبا بكر في هذا التصوير الذي يقول الدكتور هيكل : إنه هو التصوير الصحيح لولا أنّ أبا بكر كان أكبر وأبعد من مدى المجهر الذي ينظر به رجل يعيشُ في عصرٍ هابط ، فلا يستطيع إطلاقـًا أن يرتفع إلى ذلك الأفق السامق البعيد ، فضلاً عن الجهل الفاضح بأوليّات الشريعة الإسلامية)) .

ثم ناقش سيد قطب هيكلاً مرة أخرى في عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ، ووبّخه بمثل ما وبّخه في حقّ أبي بكر .

وهو كلامُ حقٍّ وصدْق ، وأنا أؤيّده فيه ويؤيّدُه كلّ مسلم ، ولكن ألا يرى سيد أنه قد نال من عثمان وإخوانه طلحة والزبير ومعاوية وغيرهم أشد وأنكى مما نال هيكل من أبي بكر وعمر .

ألا يحق لنا أن نقول لسيد كما قال لهيكل : ((وإن أعجب فعجب لرجل يعيش بفكره ونفسه في جوّ هذه الفترة من التاريخ الإسلامي وفي ظلّ هذه الضمائر المرهفة الحساسية من رجاله ثم لا يرتفع بضميره هو وشعوره بتفسير الحوادث عن هذا المستوى المستمد مباشرة ( من أحقاد الروافض والاشتراكيين الثوريين والمؤيد للثورة الفاجرة التي قادها اليهودي اللعين ابن سبأ)) .

ويحقُّ لنا مرة أخرى أن نقول :

((ما أصغر عثمان وإخوانه العظماء الكبار النبلاء في هذا التصوير الذي صورهم به سيد قطب لولا أنهم كانوا أكبر وأبعد من مدى المجهر الذي ينظر به رجل يعيش في عصر هابط فلا يستطيع إطلاقـًا أن يرتفع إلى ذلك الأفق السامق البعيد ، فضلاً عن الجهل الفاضح بمكانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوقهم التي اعتبرها المسلمون من الأساسيات في عقائدهم وفي ولائهم وبرائهم وحبهم وبغضهم واحتقار وتبديع وتضليل من ينال من أحد منهم ، لا سيما الكبراء الذي أساءَ إليهم سيد قطب ، وصوّرهم ذلك التصوير القبيح المشهوّه)) .

وقال سيد بعد دفاعه الجيِّد عن أبي بكر وعمر : ((وبعد : فقد أسهبتُ في عرض هذا اللون من التفكير وتفنيده لأصحح الخطأ العميق الذي يقع فيه من يريدون تصوير طرائق التفكير والشعور في عصر ارتفاع الروح الإسلامي على ضوء التفكير والشعور في عصرنا المادّي البعيد عن ذلك الروح المرهف وما يجرُّه هذا الخطأ من سوء الفهم لحقائق الضمير البشري وطاقته في السمو والحساسية ، وما أريد أن ألبس أولئك الرجال ثوبـًا فضفاضـًا ، ولا أن أصورهم معصومين من كلّ ضعفٍ بشري ، ولكنما أريد أن أرد الثقة بالضمير البشري إلى نفوس الناس ، كما أريد أن أصور هذه الفترة من حياة المسلمين في صورتها الصحيحة التي يستشعرها بقوة كل ضمير فيه استعداد للتطلّع إلى هذا الأفق البعيد))([6]).

أقول : ثم ماذا فعل سيد بعد ذلك ؟ ، هل مضى في هذا التصحيح لهذا الخطأ العميق ؟ ، أم أوقعَه التفكير والشعور في عصرنا المادي البعيد عن ذلك الروح المرهف في هوّة أعمق وأبعدَ مما وصل إليه هيكل وأمثالُه في حقَّ الصدِّيق وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ؟؟! .

فهل من يهبط بعثمان وإخوانه الكرام إلى المستوى الهابط الذي صوّره سيد قطب يرى أنهم شاركوا الصدِّيق وعمر الفاروق في ارتفاع الروح الإسلام في ذلك العصر ؟!! .

أفمن يصوّرهم في تلك الصور المزرِية يكون قد صحّح ذلك الخطأ وسوء الفهم عن ذلك الروح المرهف ؟؟ .

أمن يصورهم في تلك الصورة الشوهاء يرد الثقة بالضمير البشري إلى نفوس الناس أم يقضي عليها ويصيب الأمة بالإحباط ؟؟ .

أمن يصور عهد عثمان وإخوانه وعماله الشرفاء في الصورة المظلمة التي صورها هذا الرجل يكون قد صوّر تلك الفترة من حياة المسلمين في صورتها الصحيحة التي يستشعرها بقوة كل ضمير فيه استعداد للتطلع إلى ذلك الأفق البعيد ؟؟.

3 ـ ألا يرى أنّ هذا الزعم بأن عثمان أعطى مروان خُمس خراج إفريقية طعنـًا في عثمان والصحابة الذين يقرّونه من الأباطيل التي يتعلّق بها أهل الأهواء في الطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أين إسنادها الذي يعتمد عليه الهائجون على عثمان ـ رضي الله عنه ـ ؟!! .

وقد ذكر ابن جرير([7])بإسناد فيه سيف بن عمر ـ وهو ضعيف ـ : أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما فتح إفريقية قسم عبد الله ما أفاء الله عليهم على الجند وأخذ خُمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان ... ووفد وفدًا فشكوا عبد الله فيما أخذ ، فقال لهم : أنا نفلتُه وكذلك كان يصنع ، وقد أمرت له بذلك ، وذاك إليكم الآن ، فإن رضيتم فقد جاز ، وإن سخطتم فهو رد . وكتب إلى عبد الله بردّ
ذلك واستصلاحهم ، قالوا : فاعزله عنا فإنا لا نريد أن يتأمّر علينا وقد وقع ما وقع ، فكتب إليه أن استخلف على إفريقية رجلاً ممن ترضى ويرضون واقسم الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الله ، فإنهم قد سخطوا النفل . ففعل ، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح أفريقية ، وقتل الأجل؛ فما زالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك أحسن أمة سلامـًا وطاعة ، حتى دبّ إليهم أهل العراق ، فلما دبّ إليهم دعاة أهل العراق واسثاروهم شقّوا عصاهم وفرّقوا بينهم إلى اليوم)) .

وذكر لهم قصة مع أهل الأهواء ثم مع هشام .

فالذي يعامل فاتح إفريقية هذه المعاملة كيف يصدُق فيه ذلك الإفك بأنه أعطى مروان وهو نائمٌ في المدينة خمس خراج إفريقية !! .

فهذه الحادثة ((إن صحّت فإنها هي وأمثالها مما ينسجم مع سجايا عثمان وحسن أخلاقه وكريم شيمه ، وتنسجم مع أخلاق وتصرفات أخويه أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ؛ ومثلها يمكن التسامح في نقله بخلاف تلك المطاعن والمثالب الظالمة التي استروح إليها سيد وأكثرَ مِن تِردادِها .

وذكر ابن أعثم([8]): ((أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ نشط لغزو إفريقية فاستشار الصحابة ، فشجّعوه ، فجهّز جيشـًا من المدينة ومصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فدارت معارك انتهت بالصلح بين الملك جرجين وبين عبد الله على أن يدفع جرجين ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، على أنّ عبد الله يكفّ عنه ويخرج عن بلده؛ فأخذ عبد الله بن سعد منه هذا المال ، فأخرج منه الخُمس ليوجه به إلى عثمان ، وقسّم باقي ذلك في المسلمين)) .

قال : ((ورجع عبد الله بن سعد بالمسلمين إلى أرض مصر ، وكتب إلى عثمان يخبره بفتح إفريقية وسلامة المسلمين ، ووجه إليه بالخمس من أموال إفريقية ، فقسّمه عثمان في أهل المدينة ، وحمد الله عز وجل على ذلك؛ فله الحمد على ذلك دائمـًا والشكر ، وحسبنا الله ونعم الوكيل)) .

هذا ما نقله هذا المؤرّخ الشيعي ، فلم يتجنَّ على عثمان ، ولم يذكر أنه نفل عبد الله بن سعد خمس الخمس .

وذكر الذهبي([9])مصالحة ابن سعد على المال ، ولم يذكر تنفيل ابن سعد؛ وما ذكره أمثلُ وأشدُّ قربـًا إلى واقع عثمان وشمائله الطيّبة ، وأبعد عن التهويش على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ما تزعمه القصة من أن عثمان أعطى طلحة مائتي ألف فقد روى ابن جرير عن موسى بن طلحة قال : كان لعثمان على طلحة خمسون ألفـًا ، فخرج عثمان يومـًا إلى المسجد ، فقال له طلحة : قد تهيّأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك يا أبا محمد معونة على مروءتك))([10]).

وروى بإسناده إلى الحسن أن طلحة بن عبيد الله باعَ أرضـًا له من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه فقال طلحة إن رجلاً تتسق هذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله عز وجل لغرير بالله سبحانه؛ فبات ورسوله يختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح ، فأصبح وما عنده درهم .

فلا يبعد أن يكون راوي القصة قد سمع مثل هاتين الروايتين المشرّفتين التي تدلّ كل واحدة منهما على كرم أصحاب رسول الله وبذلهم الأموالَ في ذات الله ، وتدلّ على شرفهم وكمال مروءتهم؛ فيخترع نقيضها للطعن فيهم والحطُّ من مكانتهم .

ألا ترى أنّ الراوية الأولى تنصّ على أن عثمان تنازل عن ماله لطلحة الجواد الكريم صاحب المروءة والبذل السخي معونةً له على مروءته ؟؟ .

والثانية : تنص على أن هذا المبلغ الكبير كان ثمنـًا لأرض دفعه عثمان إلى طلحة لا اختلاسـًا من بيت مال المسلمين أو نهبـًا واغتصابـًا؛ فما كان لطلحة أن يطيقها فتبيت عنده فبادر إلى إنفاقها في سبيل الله .

لماذا لا يبحث سيد عن هذه الصور المشرقة لأصحاب رسول الله فيسوقها للأجيال التي عاصرها لتعتزّ بها وتتخذ منها أسوة وليعيد الثقة إلى أبناء المسلمين بدينهم لأنه أخرجَ هذه النماذج العليا من البشر ؟ .

وأما ما تزعمه القصة بأن عثمان أعطى الزبير ستمائة ألف فهذا من الأكاذيب التي يسارعُ إلى تصديقها أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومما يؤكّد كذبها : أن الزبير كان قد أخرج نفسه من الديوان استغناء وتعفّفـًا فكيف يخرج نفسه من الديوان ثم يقبل مثل هذا العطاء المزعوم ؟!! .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 159 ) ط ثانية عشرة ، و ( 187 ) ط خامسة .

([2]) ما بين القوسين من ((العدالة)) ( ص : 187 ) ط خامسة .

([3]) ما بين القوسين في ((العدالة)) ( ص : 159 ) ط الثانية عشر .

([4]) معلوم أنّ لسيد قطب كتابـًا في النقد الأدبي
===========
سيد قطب يرى أن الثورة التي قادها ابن سبأ اليهودي أقرب إلى روح الإسلام من عثمان بن عفان
قال سيد قطب : ((وأخيرًا ثارت الثائرة على عثمان ، واختلط فيها الحقُّ بالباطل ، والخير بالشر ، ولكن لا بدّ لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام ويستشعر الأمور بروح الإسلام أن يقرّر أن تلك الثورة في عمومها كانت أقربَ إلى روح الإسلام واتجاهه من موقف عثمان ، أو بالأدق من موقف مروان ومِن ورائه بنو أمية))([1]).

وهكذا يصدر هذا الحكم وهذا القرار على عثمان بأن الثورة الجاهلية الهمجية التي قادها ابن سبأ في عمومها أقرب إلى روح الإسلام واتجاهه؛ لأنه هو والسبئيين والروافض ينظرون إلى الأمر بعين الإسلام ويستشعرون بروح الإسلام .

أما الصحابة والتابعون لهم بإحسان من علماء الأمة فقهاء ومحدِّثين وأئمة العقيدة لم ينظروا إلى الأمور بعين الإسلام ولم يستشعروا بروح الإسلام ، ولذلك فهم يعتبرون أن عثمان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ويعتبرونه شهيدًا مظلومـًا ، ويعتبرون هذه الثورة من أخبث الثورات وأفجرها ، وأنّ أهلها خوارج آثمون ظالمون ، قد تخللهم زنادقة ، ومنهم ابن سبأ والغلاة الذين قتلهم علي حرقـًا بالنار .

والأمة الإسلامية تمقتهم من ذلك العهد وإلى يوم التلاق ، ولقد فتحوا على الأمة من الفتن والشرور ما لا يعلم مداه إلا الله .

هذه نظرة الأمة الإسلامية إلى الروافض والخوارج الذين يرى سيد أنه وإياهم ينظرون بروح الإسلام ويستشعرون بروح الإسلام؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار .

ولا يغرنك قوله : ((دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ عليه لعنة الله))([2]) فإنه لو كان ناقمـًا على هذا الكيد وصاحبه لصبّ جام غضبه عليه وعلى أتباعه ، ولكشف عوارَهم ، وتحمّس لإبراز جريمتهم وفضحها ، ولكانت هذه الحملة التي وجهها إلى عثمان وإخوانه موجهةً إليهم .

فقولته إنما هي لذرّ الرماد في العيون .

قال سيد : ((واعتذارنا لعثمان ـ رحمه الله ـ : أنّ المصادفات السيئة قد ساقت إليه الخلافة متأخرة ، فكانت العصبة الأموية حوله وهو يدلف إلى الثمانين واهن القوى ، ضعيف الشيخوخة؛ فكان موقفه كما وصفه صاحبه علي بن أبي طالب : إني إن قعدت في بيتي ، قال : تركتني وقرابتي وحقي ، وإن تكلمت فجاء ما يريد ، يلعب به مروان؛ فصار سيقة له حيث شاء بعد كبر السن وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم))([3]).

وهكذا يكون الإيمان بالقدر ، وهكذا يكون الاعتذار (عذر أقبح من فعل) على حد قول القائل : (فليتك لم تزني ولم تتصدقي) ، وهكذا يكون احترام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! .

وانظر إلى هذا الاعتذار لعثمان الذي يحق أن يقال فيه : إنه عذر أقبح من فعل ، فما الذي فعله عثمان حتى توجه إليه هذه المطاعن الآثمة الظالمة ؟؟! ، ثم تعتذر له هذا العذر المريض ؟! .

بل هو طعن جديد في شخصيّة هذا الخليفة العادل النبيل ، بل إنّ هذا طعن فيه وفي عقول الصحابة ودينهم؛ حيث اختاروا للنهوض بأعباء الخلافة شخصـًا يدلف إلى الثمانين ، ثم أفسحوا المجال للعصبة الأموية تلعب به وتبتزّ المناصب والأموال وتستأثر بها؛ الصحابة الذي قالوا لعمر في قوته وبأسه : (لو وجدنا فيك اعوجاجـًا لقوّمناه بحدّ سيوفنا) ـ كما يزعم سيد ـ فأين هم ؟ ، وأين حدّ سيوفهم ؟ ، وكيف يتركون عثمان سيقةً لمروان ؟ .

ثم كيف يرضى عثمان لنفسه وعقله ودينه أن يكون سيقة ولعبة لمروان ؟ .

والله لا يقبل مثل هذه الأقوال والطعون الرافضية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعبة وسيقة للروافض والاشتراكيين .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 189 ) ط خامسة ، ( ص : 160 ـ 161 ) ط ثانية عشرة .

وقد تغير هذا النص شيئـًا من التغيير مع الإصرار على مضمونه ، وصرّح أن هذه الثورة من كيد ابن سبأ اليهودي .

([2]) هذه العبارة من ط الثانية عشرة ( ص : 161 ) .

([3]) ((العدالة)) ( ص : =================
: تضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان
قال سيد قطب مواصلاً طعونَه وحملاته : ((ولقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته أنّ تقاليده العملية لم تتأصل على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول ، وقد نشأ عن عهد عثمان الطويل في الخلافة أن تنمو السلطة الأموية ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام ، وأن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان ( كما سيجيء ) وأن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية في وقت مبكر))([1]).

أقول : واضحٌ أن سيداً ينطلق في تجنيه ونفث سمومه من منطلقين :

الأول : منطلق اشتراكي قد تشبّع به غرس في نفسه الحقد الدفين على من يظن أنهم من طبقة الإقطاعيين والرأسماليين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بني أمية .

والثاني : تشبعه بروح التشيّع وأحقاده على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم تكن مواقفه هذه التي تقطر حقدًا على خيرة الناس من أصحاب رسول الله من رجلٍ سليم الفطرة حسن النية ، ولكنها وليدة دراسة وقائمة على منهج راسخ متأصّل في أعماق سيد قطب ، قد تشربتها روحه ورسخت في أعماقه؛ فصبّ ذلك سمومـًا قاتلة في هذه الصفحات السوداء .

وفي هذا النص يرى سيد أن الإسلام قد أصيب في مقاتله؛ فهو دين ناشيء باكره عثمان بالتمكين للعصبة الأموية ، فلم تتأصل تقاليده العملية على أسس من تعاليمه النظريّة .

إذ السياسة في الإسلام في نظر سيد تقوم على المساواة المطلقة وعلى الحريّة المطلقة ، أي : أنها تفوق الديمقراطية في هذا المجال .

وتقوم في الاقتصاد على أن المال للجماعة ، وأن أصحاب المال لا يعدون أن يكونوا وكلاء وموظفين .

والإسلام يوجب التوازن في المال ، ويقضي على الفوارق بين طبقات المجتمع .

فالإسلام إذًا يفوق الاشتراكية في هذا المجال ، لكن عثمان باكر هذا الدين في طور النشوء فضربه في مقتله بالتمكين للعصبة الأموية قبل أن تتأصل تقاليده الديمقراطية الاشتراكية !!! .

كأن بني أمية عصبة يهودية أحكمت التدابير والمؤامرات لضرب الإسلام في طور النشوء ! .

لقد استغلت هذه العصبة عهد عثمان الطويل فنمت سلطتها واستفحل أمرُها وتضخّمت ثرواتها ، فأصبحوا من أعظم الطبقات الإقطاعية والرأسمالية ، بالإضافة إلى استيلائها على المناصب في الدولة نتيجة لسياسة عثمان ، فتحولت الخلافة إلى ملك وراثي ، وتحوّل الاقتصاد إلى رأسمالية وإقطاعية .

أين الأدلة والبراهين لإثبات هذه الدعاوي ؟ .

الجواب : أغمض عينيك وردد :

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

أو قل رغم أنفك :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القولَ ما قالت حذام

ولو كان طعنـًا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفي غيظ قلوب الروافض ويدمي قلوب المؤمنين .


([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ، وفي الطبعة الخامسة ( ص : 189 ـ 190 ) ما يلي :

قال سيد قطب : ((ألا إنه لسوء الحظ فلقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته أن تقاليده العملية لم تتأًصل في البيئة العربية على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول . ولو تقدم الزمن بعثمان لكان الخير ، حيث لم تضعف قوته بعد ، ولو تأخر به فوليها علي بعد الشيخين قبل أن تنموا البذرة الأموية ويستفحل أمرُها في الشام وفي غير الشام ، وقبل أن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان ( كما سيجيء ) ، وقبل أن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية وارتباطها بروح الدين ... لو كان هذا لتغير وجه التاريخ الإسلامي ، ولسار في طريق غير الذي سار فيه .

وليس في هذا القول مبالغة ولا تضخيم لدور الفرد في الأحداث العامة؛ فمن الواضح أن اتجاه الخليفة الثالث في توزيع الأموال واتجاه مستشاره مروان وتوليته معظم المناصب لبني أمية؛ هذا كله أنشأ أوضاعـًا وأحوالاً عامة كان لها أثرها في خطّ سير التاريخ؛ فلم تعد دور فرد إنما انتهت إلى أن تكون أوضاعـًا لها ثقل ولها دفع . وهذا هو المعنى الذي قصدت إلى تقريره في هذا المجال))