قال سيد قطب
مواصلاً طعونَه وحملاته : ((ولقد كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه
للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كبرته أنّ تقاليده العملية لم تتأصل على
أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول ، وقد نشأ عن عهد عثمان الطويل في الخلافة أن
تنمو السلطة الأموية ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام ، وأن تتضخم الثروات
نتيجة لسياسة عثمان ( كما سيجيء ) وأن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية
في وقت مبكر))([1]).
أقول : واضحٌ أن سيداً ينطلق في تجنيه ونفث سمومه من
منطلقين :
الأول : منطلق اشتراكي قد تشبّع به غرس في نفسه الحقد الدفين على
من يظن أنهم من طبقة الإقطاعيين والرأسماليين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومن بني أمية .
والثاني : تشبعه بروح التشيّع وأحقاده على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم تكن مواقفه هذه التي تقطر حقدًا على خيرة الناس من
أصحاب رسول الله من رجلٍ سليم الفطرة حسن النية ، ولكنها وليدة دراسة وقائمة على
منهج راسخ متأصّل في أعماق سيد قطب ، قد تشربتها روحه ورسخت في أعماقه؛ فصبّ ذلك
سمومـًا قاتلة في هذه الصفحات السوداء .
وفي هذا النص يرى سيد أن الإسلام قد
أصيب في مقاتله؛ فهو دين ناشيء باكره عثمان بالتمكين للعصبة الأموية ، فلم تتأصل
تقاليده العملية على أسس من تعاليمه النظريّة .
إذ السياسة في الإسلام في
نظر سيد تقوم على المساواة المطلقة وعلى الحريّة المطلقة ، أي : أنها تفوق
الديمقراطية في هذا المجال .
وتقوم في الاقتصاد على أن المال للجماعة ، وأن
أصحاب المال لا يعدون أن يكونوا وكلاء وموظفين .
والإسلام يوجب التوازن في
المال ، ويقضي على الفوارق بين طبقات المجتمع .
فالإسلام إذًا يفوق
الاشتراكية في هذا المجال ، لكن عثمان باكر هذا الدين في طور النشوء فضربه في مقتله
بالتمكين للعصبة الأموية قبل أن تتأصل تقاليده الديمقراطية الاشتراكية !!!
.
كأن بني أمية عصبة يهودية أحكمت التدابير والمؤامرات لضرب الإسلام في طور
النشوء ! .
لقد استغلت هذه العصبة عهد عثمان الطويل فنمت سلطتها واستفحل
أمرُها وتضخّمت ثرواتها ، فأصبحوا من أعظم الطبقات الإقطاعية والرأسمالية ،
بالإضافة إلى استيلائها على المناصب في الدولة نتيجة لسياسة عثمان ، فتحولت الخلافة
إلى ملك وراثي ، وتحوّل الاقتصاد إلى رأسمالية وإقطاعية .
أين الأدلة
والبراهين لإثبات هذه الدعاوي ؟ .
الجواب : أغمض عينيك وردد :
وما
أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
أو قل رغم أنفك
:
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القولَ ما قالت حذام
ولو كان
طعنـًا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفي غيظ قلوب الروافض ويدمي قلوب
المؤمنين .
([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ، وفي الطبعة
الخامسة ( ص : 189 ـ 190 ) ما يلي :
قال سيد قطب : ((ألا إنه لسوء الحظ فلقد
كان من جرّاء مباكرة الدين الناشيء بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة
الثالث في كبرته أن تقاليده العملية لم تتأًصل في البيئة العربية على أسس من
تعاليمه النظرية لفترة أطول . ولو تقدم الزمن بعثمان لكان الخير ، حيث لم تضعف قوته
بعد ، ولو تأخر به فوليها علي بعد الشيخين قبل أن تنموا البذرة الأموية ويستفحل
أمرُها في الشام وفي غير الشام ، وقبل أن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان ( كما
سيجيء ) ، وقبل أن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية وارتباطها بروح
الدين ... لو كان هذا لتغير وجه التاريخ الإسلامي ، ولسار في طريق غير الذي سار فيه
.
وليس في هذا القول مبالغة ولا تضخيم لدور الفرد في الأحداث العامة؛ فمن
الواضح أن اتجاه الخليفة الثالث في توزيع الأموال واتجاه مستشاره مروان وتوليته
معظم المناصب لبني أمية؛ هذا كله أنشأ أوضاعـًا وأحوالاً عامة كان لها أثرها في خطّ
سير التاريخ؛ فلم تعد دور فرد إنما انتهت إلى أن تكون أوضاعـًا لها ثقل ولها دفع .
وهذا هو المعنى الذي قصدت إلى تقريره في هذا المجال))=================
نقلة بعيدة جدًّا في التصور للحياة والحكم وحقوق
الأمراء
|
|
قال سيد : ((ومع
كل ما يحمله تأريخ هذه الفترة وأحداثها من أمجاد لهذا الدين وتكشف عن نقلة بعيدة
جدًّا في تصوّر الناس للحياة والحكم وحقوق الأمراء وحقوق الرعية إلاّ أن الفتنة
التي وقعت لا يمكن التقليل من خطرها وآثارها البعيدة المدى))([1]).
الظاهر
أن سيد قطب يريد بهذه الفترة ذات الأمجاد ... إلخ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر؛ أما فترة عثمان فليس لها شيءٌ من الأمجاد ، بل هي مرحلة فتنة ومحنة
على الأمة باكر بها هذا الدين الناشي ، فأهدرت فيه حقوق الرعية .
ولم يحتج
أمراء العصبة الأموية إلى من يعرف ويعترف بحقوقهم ، وإنما لسان حالهم : (من عزَّ
بزَّ ، ومن غلب استلب) ، (وإنما تؤخذ الدنيا غلابـًا) .
وكلُّ هذا على رأي
سيد ، والدليل على هذا التفسير سياق الكلام وسباقه
|
|
===============
تمكين عثمان للمبادئ الأموية المجافية لروح
الإسلام
|
|
وقال سيد قطب :
((مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها
في الأرض ـ وبخاصة في الشام ـ ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح
الإسلام : من إقامة الملك الوراثي ، والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع مما
أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام .
وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية ـ
إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن الخليفة يؤثر أهله ، ويمنحهم مئات الألوف ويعزل أصحاب
رسول الله ليولي أعداء رسول الله ، وليبعد مثل أبي ذر؛ لأنه أنكر كنز الأموال ،
وأنكر الترف الذي يخب فيه الأثرياء ، ودعى إلا مثل ما كان يدعو إليه الرسول صلى
الله عليه وسلم من الإنفاق والبر والتعفف ... .
فإن النتيجة الطبيعيّة لشيوع
مثل هذه الأفكار ـ إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن تثور نفوس ، وأن تنحل نفوس تثور نفوس
الذين أشربت نفوسهم روح الدين إنكارًا وتأثّمـًا ، وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام
رداءًا ، ولم تخالط بشاشته قلوبهم ، والذين تجرفهم مطامع الدنيا ، ويرون الإنحدار
مع التيّار . وهذا كلُّه قد كان في أواخر عهد عثمان))([1]).
أقول : تَصوَّر
شابـًّا يثق بسيد قطب ويعتبره من الأئمة المجدِّدين ـ كما صوّره دعاة الفتن والشغب
ـ بأي منظار سينظر إلى عثمان الذي جنى على هذه الأمة في دينِها ودنياها حسب تصوّر
سيد .
كم من الشباب المسلمين قرأ هذا النص وأمثاله ؟؟! .
كم من
الشباب الذين ربّوا على تقديس سيد قطب وتقديس كتاباته ؟؟! .
كم منهم سيقع في
حبائل الرفض والحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتقارهم والإزراء بهم
؟؟! .
لو كان سيد قطب من أهل الحق والسنة لوجه هذه الحملات على الروافض على
الحكومات العبيدية الباطنية في مصر والمغرب وما فعلت بالإسلام والمسلمين وبدمائهم
وأموالهم والمجازر التي نزلت بالمسلمين وخاصة العلماء ، وعلى دولة البوهيين وما
فعلت بالمسلمين وبالخلافة الإسلامية ، وعلى دولة القرامطة وما فعلت بالمسلمين في
العراق والجزيرة العربية في مكة بالذات ، وعلى الدولة الصفوية بالمسلمين في الشرق
الإسلامي حيث أجبرتهم على عقيدة الرفض بالحديد والنار ، وعلى الروافض وعلى رأسهم
النصير الطوسي وابن العلقمي حيث تآمروا مع التتار على الأمة الإسلامية وعلى خلافتها
فأسقطوها وارتكبوا من الفظائع والمذابح الوحشية ما لم يعرف مثله في تاريخ
الإنسانية.
ولعل هذا كله مما يسر سيد قطب ولا يسوءه ، وإلا فلماذا يغفله كله
ولا يشير إلى شيءٍ منه لا من قريب ولا من بعيد ، ثم يقفز عبر القرون إلى العهد الذي
أعزّ الله فيه الإسلام وأظهره على الأديان كلها عهد الفتوحات الواسعة العظيمة وعهد
الانتصارات الإسلامية على الأديان الباطلة في مشارق الأرض ومغاربها؛ حيث دخلت في
الإسلام معظم شعوب الأرض وأممها بفضله تعالى ونصره ، ثم بفضل جهاد عثمان ـ بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده ـ ، ثم بفضل جهاد خلفاء بني أمية وقادتهم
العظام ـ رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته ـ .
يقول سيد قطب : ((إن عثمان مضى
وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض وخاصة في الشام
وبفضل ما مكّن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي
والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع وعدم المبالاة بروح التآخي والإيثار
والتكافل مما أحدثَ خلخلة في الروح الدينية ذاتها لدى الأمة الإسلامية))
.
إن المسلم الحق لا يحتمل سماع هذا الظلم والافتراء فضلاً عن أن يسجله
وينشره بين الخافقين .
فهل قامت هذه المبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام
وقامت الدولة الأموية بالفعل في عهد عثمان !!؟ .
وهل قامت هذه الدولة وقامت
مبادؤها بفضل تمكين عثمان لها ؟؟ .
فكيف استطاع الصحابة والأمة الإسلامية من
ورائهم أن يعقدوا بيعة الخلافة لعليّ ـ رضي الله عنه ـ إذا كانت دولة بني أمية قد
قامت بالفعل ؟!! .
لا يشكّ مسلم أن عثمان لو مات موتـًا عاديـًّا أو قُتل
بغير تلك الثورة الجاهلية لما حصل اختلاف بين المسلمين ولا انقسام ، ولكن قدر الله
غالب .
لقد كان قتل عثمان فتنة دفعت خيار الصحابة كطلحة والزبير وعائشة
وغيرهم إلى المطالبة بدمه .
ودفعت كذلك معاوية وأهل الشام إلى المطالبة بدمه
وتسليم قتلة عثمان لهذا الغرض فأبى ذلك عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، وهو المصيب إلا
البيعة أوّلاً ثم المطالبة فالقصاص ممن تقوم عليه الحجة أنه شارك في قتل عثمان
.
ذلك كان مطلب معاوية وقبله طلحة والزبير وعائشة ومَن شاركهم من الصحابة
.
فكيف يترك سيد قطب هذه الحقائق ويركض وراء أقوال الروافض وأساطيرهم
وترّهاتهم ؟ .
إن معاوية لم يطلب بالبيعة من المسلمين ولم يدع الأمر لنفسه
بل كان مطلبه ومطلب من ذكر سابقـًا القصاص ممن قتل عثمان ، وقد كانوا في جيش عليّ ـ
رضي الله عنه ـ ، وكان ذلك قد أثار شبهـًا وظنونـًا حول عليّ ـ رضي الله عنه ـ وهو
منها برئ؛ إن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ لم يشارك في دمه ، ولا أَمر ، ولا رضي؛ وقد
روي عنه أنه قال : (والله ما قتلتُ ولا رضيت) ، وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية
يلعنون قتلة عثمان فقال : (اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر ، والسهل والجبل)
، وروي أن أقوامـًا شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان([2]) ،
وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم ، وأنه من قتلة عثمان ،
وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله .
وهذا ـ وأمثاله ـ مما يبيّن
شبهة الذين قاتلوه ، ووجه اجتهادهم في قتاله ، لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في
ترك مبايعته وقتاله وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان
موافقـًا))([3]).
ومذهب أهل السنة والجماعة : السكوت عما جرى بين الصحابة ،
واعتبارهم مجتهدين جميعـًا ، للمصيب منهم أجران ، وللمخطئ أجر؛ وكان عليّ هو المصيب
ومعاوية هو المخطئ ، وكان زمنهما زمن فتنة فلم يتبيّن للناس المصيب من المخطئ إلا
بعد انتهاء هذه الفتنة .
والأمر كما يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ((وذلك
أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت ، فأما إذا أقبلت فإنها تُزين وُيظن
أن فيها خيرًا)) .
إن خلافة بني أمية كانت عزة ومنعة ، وكانت فتوحـًا في
مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها ، وكانت راية التوحيد والسنة عالية رفيعة ،
وأهل البدعة شواذّ مقموعون ، فإذا ارتفعت رؤوس بعضهم قطعتها سيوف الحق .
روى
مسلم في ((صحيحه))([4])عن الشعبي عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال : انطلقت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي فسمعتُه يقول : ((لا يزالُ هذا الدينُ
عزيزًا منيعـًا إلى اثنى عشر خليفة)) فقال كلمة صمّنيها الناس فقلت لأبي ما قال ؟ ،
قال ((كلهم من قريش)) .
وروى الإمام أحمد هذا الحديث في ((مسنده))([5])من
طريق الشعبي عن جابر بن سمرة بلفظ : ((لا يزال هذا الأمر عزيزًا منيعـًا ينصرون على
من ناوءهم عليه إلى اثنى عشرة خليفة)) ، ثم قال كلمة أصمنيها الناس فقلت لأبي ما
قال ؟ ، قال : ((كلهم من قريش)) .
وقد حمل أهل السنة هذا على عهد بني أمية؛
فعهد بني أمية كان عهد خلافة ، وكان الإسلام في عهدهم عزيزًا منيعـًا كما أخبر بذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما هو الواقع التاريخي .
ولو لم يكن عهدهم
عهدَ خيرٍ وعزّة للإسلام والمسلمين لما مدح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابن
ابنته الحسن ـ رضي الله عنه ـ بالتنازل لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ : عن أبي بكرة ـ
رضي الله عنه ـ قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه
ينظر إلى الناس مرّة وإليه مرة ويقول : ((إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يُصلح به
بين فئتين من المسلمين))([6]).
ولم يتنازل الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ
عجزًا ، لكنه آثر مصلحة المسلمين وحقْن دمائهم ـ رضي الله عنه ـ ، ولم يكن معاوية ـ
رضي الله عنه ـ راغبـًا في سفك دماء المسلمين ولا في الفتنة ، بل كان يكره ذلك
ويقلق منه .
قال البخاري([7])ـ رحمه الله تعالى ـ : حدثنا عبد الله بن محمد
، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسنَ يقول : ((استقبل والله الحسن بن علي
معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولى حتى
تقتل أقرانَها ، فقال له معاوية ـ وكان والله خيرَ الرجلين ـ : أي عمرو إن قتل
هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ ، من لي بنسائهم ؟ ، من لي بضيعتهم؛
فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الله بن عامر بن
كريز فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه؛ فأتياه فدخلا
عليه ، فتكلّما وقالا له وطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب
قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا : فإنه يعرض عليك
كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ ، قالا : نحن لك به؛ فما
سألهما شيئـًا إلا قالا : نحن لك به ، فصالحه؛ فقال الحسن : ولقد سمعتُ أبا بكرة
يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو
يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ((إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يُصلح به
بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) .
فهذا الحسن ـ رضي الله عنه ـ يتنازل في
ضوء توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنَّ جيشَه كان أمثال الجبال ، أفلو كان
لبني أمية مبادئ وأصول تتنافى مع الإسلام وتتجافى مع أصوله وروحه أكان يستحل الحسن
ـ ومن وراءه من هؤلاء الرجال كالجبال ـ التنازل والتسليم لدولة ذلك واقعُها وحالُها
؟؟ .
كلا ، ثم كلا . لقد تنازل لرجلٍ مسلم وصحابي جليل ، عرف القاصي والداني
حسن إسلامه ، وصدقه ، واستقامته ، وعدله .
وإن هذا النص ليعطيك أنّ معاوية
كان مشفقـًا رؤوفـًا بهذه الأمة ، ((أرأيت إن قَتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي
بأمور الناس ؟ ، من لي بنسائهم ، من لي بضيعتهم ؟)) ، ثم بعث رجلين أمينين مصلِحين
ناجحين فالتزما بكلّ مطالب الحسن ـ ولا يطلب إلاّ حقـًّا ـ؛ فكان بهذا التنازل
لمعاوية سيدًا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر ـ
رحمه الله ـ في ((الفتح)) : ((وفي هذه القصة من الفوائد : عَلم من أعلام النبوة
.
ومنقبةٌ للحسن بن علي؛ فإنه ترك المُلك لا لقلّة ولا لذلّة ولا لعلّة ، بل
لرغبته فيما عند الله لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين؛ فراعى أمرَ الدين ومصلحة
الأمة .
وفيه : ردٌّ على الخوارج الذين كانوا يكفِّرون عليـًّا ومن معه
ومعاوية ومَن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين
.
وفيه : فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيّما في حقن دماء المسلمين
.
ودلالة على رأفة معاوية بالرعية ، وشفقته على المسلمين ، وقوّة نظره في
تدبير الملك ، ونظره في العواقب .
وفيه : ولاية المفضول الخلافة مع وجود
الأفضل؛ لأن الحسن ومعاوية ولي كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في
الحياة وهما بدريّان . قاله ابن التين))([8]).
فينبغي أن ينظر المسلم إلى
عهد بني أمية من خلال هذه النصوص النيّرة ، ومن خلال فهم علماء الإسلام لها؛ فلو
كان في ملك بني أمية ومبادئهم مجافاة لروح الإسلام وعلى الصورة الشوهاء التي
يصوّرها من أعمى بصائرهم الهوى ، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق
عن الهوى يقول في دولتهم وخلافتهم ما قال ؟؟! .
وهل كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يشجّع الحسن والأمة على الصلح ، ويثني على الحسن ذلك الثناء العاطر أم
كان يحثهم على الجهاد وإنقاذ مبادئ الإسلام من براثن بني أمية ؟ الذين وصف سيد قطب
مبادئهم بأنها مجافية لروح الإسلام ؟! .
إن المسلمين حقـًّا في ذلك العهد
وإلى اليوم يعتبرون ذلك الصلح والتنازل عام خير وسعادة على الأمة الإسلامية حتى
سمّوه (عام الجماعة) ، وإن خلافتهم كانت عزّة وفتوحـًا ، أدخل الله بسببهم أممـًا
وشعوبـًا في الإسلام كما أخبر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، كما تشهد بذلك
الأمة الإسلامية وتاريخها المشرق .
وروى البخاري([9])من طريق إسحاق بن عبد
الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه سمعه يقول : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ـ وكانت
تحت عبادة بن الصامت ـ ، فدخل يومـًا فأطعمته ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم
، ثم استيقظ يضحك ، قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ ، فقال : ((ناسٌ من أمتي
عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ، يركبون هذا البحر ملوكـًا على الأسرّة)) أو قال :
((مثل الملوك على الأسرة)) يشك إسحاق؛ قالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا ، ثم
وضع رأسه ، فنام ، ثم استيقظ يضحك ، فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ ، قال : ((ناسٌ
من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكـًا على الأسرة))
أو مثل الملوك على الأسرة ، فقلت : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت من
الأولين؛ فركبت البحر زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت
.
فهذه رؤيا نبوية صادقة من أعلام النبوة وقع مصداقها في زمن عثمان بقيادة
معاوية ـ رضي الله عنه ـ دالّة على عزّة الإسلام وعزّة أهله في هذه الفترة ، وأن
حالتهم حالة الملوك في الهيئة والأبّهة ـ لا كما يصورهم المغرضون من حالة البؤس
والشقاء ـ ، وأن جهادهم في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله .
فمن خلال هذه
النصوص الصحيحة المشرقة نتحدّث ونحكم على عهد عثمان وبني أمية والأمة الإسلامية في
تلك العهود الزاهرة عهد عزّة الإسلام والمسلمين ومنعته ومنعتهم .
وإليك
صورةً مشرقة عن عهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ يتجلّى فيها صدق إيمانهم وورعهم وكمال
أخلاقهم ، وأنهم من خير القرون بحقٍّ وجدارة :
قال أبو إسحاق الفزاري عن
صفوان بن عمرو قال : حدثنا حوشب بن سيف قال : غزا الناس في زمان معاوية وعليهم عبد
الرحمن بن خالد فغلَّ رجلٌ من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم
الرجل فأتى عبد الرحمن بن خالد فأخبرَه خبره ، وسأله أن يقبلها منه ، فأبى وقال :
قد تفرّق الجيشُ فلن أقبلها منك حتى تأتي بها يوم القيامة؛ فجعل يستقرئ أصحاب النبي
عليه السلام يسألهم فيقولون مثل ذلك ، فلما قدم دمشق على معاوية فذكر ذلك له ، فقال
له مثل ذلك؛ فخرج من عندِه وهو يبكي ويسترحم؛ فمرَّ بعبد الله بن الشاعر السكسكي ،
فقال : ما يبكيك ؟ ، فذكر له أمرَه ، فقال : أمطيعي أنت يا عبد الله ؟ ، قال : نعم
، قال : فانطلق إلى معاوية فقل : اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارًا ، وانظر
إلى الثمانين الباقية فتصدّق بها عن ذلك الجيش؛ فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده ،
وهو أعلمُ بأسمائهم ومكانهم؛ ففعل الرجل ، فقال معاوية : لأن أكون أفتيتُه بها أحبّ
إليّ من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل))([10]).
ولا يجوزُ الحديث عنهم بتصوّرات
الإشتراكيين الثائرين على الإقطاعيين والرأسماليين ، ولا نتحدّث عنهم من خلال
روايات الروافض الحاقدين .
وقول سيد : ((وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية
ـ إن حقـًّا وإن باطلاً([11])ـ أن الخليفة يؤثر أهله ويمنحهم مئات الألوف ويعزل
أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
هذا يدلّ على
رغبة سيد قطب الجامحة في الطعن في عثمان وبني أمية ، وعلى الرغبة الجامحة في
الإشادة وكيل المديح لتلاميذ ابن سبأ أصل كل بلاء وفتنة نزلت بالأمة .
إن
الطيور على أشكالها تقع ، وإن الأرواح جنودٌ مجندّة ما تعارف منها ائتلف ، وما
تناكر منها اختلف .
وقد تقدّم للقارئ ما يُزيِّف هذه الأكاذيب في إغداق
عثمان الأموال على بني أمية ، ولعله يأتي إيضاحات أخرى .
أما قوله : ((ويعزل
أصحاب رسول الله ليولي أعداءَه)) .
فلا يسعُنا إلا أن نقول : { ولولا إذْ
سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتانٌ عظيم } ، وإن في هذا
الكلام لطعنـًا في دين عثمان وأمانته ما وراءه طعن .
ولا أدري أتلقّف سيد
قطب هذا من الروافض أم هو من إنشائه تعاطفـًا معهم وتودّدًا إليهم ، ولسان حاله
يقول : نحن لا نقلّ عنكم حقدًا على عثمان وبني أمية ، بل على ذلك المجتمع الطاهر في
عهد عثمان وبني أمية ، فلذا نقذفهم بهذه القذائف دون أيّ احترام لذلك المجتمع ودون
احترام لمشاعر أهل السنة .
أيعزل عثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليولي أعداء رسول الله ؟؟؟ .
أين براهينك على هذه الاتهمات الظالمة ؟
.
أهذه منزلة خير القرون عندك ؟ .
والذي يعرف مذهب سيد في التكفير لا
يتردّد أنه يكفِّر ولاة عثمان .
وهكذا يتجرّأ سيد هذه الجرأة العظيمة بغير
علم ولا هدى ولا كتاب منير .
هل هذا هو واقع عثمان وواقع ولاته ؟
.
وهل ينظر علماء الإسلام إلى عثمان وولاته بهذا المنظار الأسود الكريه ؟
.
أولاً : لم يكن عثمان يعزل ويولي تبعـًا لهواه ـ حاشاه ـ ، وإنما يراعي في
ذلك مصلحة المسلمين وتلبية لرغبتهم في عزل من كرهوه من الولاة ولو كان صالحـًا
.
قال ابن جرير : وكتب إليَّ السري عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي حارثة وأبي
عثمان قالا : لما ولي عثمان أقر عمرو بن العاص على عمله ، وكان لا يعزل أحدًا إلا
عن شكاة أو استعفاء من غير شكاة([12]).
فهذا هو الذي يتّفق مع أخلاق عثمان ،
وشرفه ، ومروءته ، وإيمانه ، وحيائه ، وخوفه من الله .
إننا نعتمد مثل هذه
الرواية وإن كانت ضعيفة لأنّ لها ما يدعمها ، ولأن الأصل براءة المسلم لا سيّما
أصحاب رسول الله ـ كما قدّمنا ذلك غير مرّة ـ؛ وهذا أخفّ ألف مرّة من الاعتماد على
أكاذيب الروافض .
ثانيـًا : قال عثمان في اعتذراه عن تجنِّي أهل الفتنة عليه
: قالوا : استعملت الأحداث ، ولم أستعمل إلا مجتمعـًا محتملاً مرضيـًّا؛ وهؤلاء أهل
عملهم ، فسلوهم عنه ، وهؤلاء أهل بلده؛ ولقد ولى مَن قبلي أحدثَ منهم ، وقيل في ذلك
لرسول الله أشدّ مما قيل لي في استعماله أسامة ، أكذلك ؟ ، قالوا : اللهم
نعم([13]).
وما أظن أنه خطر ببال أهل الفتن أنّ عثمان يولي أعداء الله فضلاً
عن أن يتفوّهوا بذلك .
ثالثـًا : أن لعثمان أسوة في رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فقد كان بنو أمية أكثر القبائل عمالاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
((وقد كان في بني أمية قومٌ صالحون ماتوا قبل الفتنة ، وكان بنوا أمية أكثر القبائل
عمّالاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتّاب بن أسيد بن
أبي العيص([14])بن أمية ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخويه أبان بن
سعيد ، وسعيد بن سعيد على أعمال أخر ، واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على
نجران))([15]).
وقال في موضع آخر : ((وكان كثير من أمراء النبي صلى الله
عليه وسلم على الأعمال من بني أمية؛ فإنه استعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي
العيص([16])بن أمية ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مذحج وصنعاء
اليمن ، ولم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ، واستعمل
عَمْرًا([17])على تيماء وخبير وقرى عرينة ، وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضـًا
على البحرين برّها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي ، فلم يزل عليها حتى مات النبي
صلى الله عليه وسلم .
وولاه عمر ـ رضي الله عنه ـ ولا يُتَّهم في دينه ولا
في سياسته .
قال الحافظ ابن حجر في ((الإصابة))([18]): ((وأخرج أبو العباس
السرّاج من طريق خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد حدثني أبي أنّ أعمامَه خالدًا
وأبانـًا وعمرو بن سعيد بن العاص لما بلغتهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا
عن أعمالهم فقال لهم أبو بكر : ما أحد أحقّ بالعمل منكم ، فخرجوا إلى الشام فقتلوا
بها جميعـًا ، وكان خالد على اليمن ، وأبان على البحرين ، وعمرو على سواد خيبر))
.
قال شيخ الإسلام : ((وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال
هؤلاء ثابتٌ مشهور عنه ، بل متواتر عند أهل العلم؛ فكان الاحتجاج على جواز استعمال
بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون
الخلافة في واحد معيّن من بني هاشم بالنص؛ لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل ،
وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل .
وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي منهم
إلاّ عليـًّا على اليمن ، وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن
رواحة))([19]).
وقد ثبت في ((الصحيح)) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم)) ، قالوا : ومعاوية كانت رعيته تحبُّه وهو يحبهم
، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم .
رابعـًا : أن له أسوة في أبي بكر وعمر ـ رضي
الله عنهما ـ فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام ، وأقرّه عمر ، ثم
ولى عمر بعده معاوية .
ونقل الحافظ ابن حجر في ((الإصابة))([20])ما رواه
البرقي في ((تاريخه)) عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد : أن الليث قال : كان ابن أبي
سرح على الصعيد زمن عمر ، ثم ضمّ إليه عثمان مصر كلها ، وكان محمودًا في
ولايته))([21]).
وقال ابن عبد الحكم : ((توفي عمر ـ رضي الله عنه ـ ومصر على
أميرين عمرو ابن العاص بأسفل الأرض ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على
الصعيد))([22]).
وذكر ابن عبد الحكم أن عثمان لم يول عبد الله إلاّ بعد أن
رفض عمرو بن العاص العودة إلى مصر إلا أن يوليه مصر كلها فلم يستجب له عثمان ، ثم
ولّى عبد الله ابن سعد على مصر كلها؛ قال ابن عبد الحكم : فلبث عبد الله عليها
أميرًا محمودًا ، وغزا فيها ثلاث غزوات كلهنّ لها شأن : إفريقية ، والأساود ، ويوم
ذي الصواري؛ وله جهاد وفتوحات ، منها : فتح إفريقية))([23]).
وأَقرّ عمر ـ
رضي الله عنه ـ سعد بن أبي وقاص أن يؤمر الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة
وتنوخ ، فتوجّه لقتال الروم ، فلما قدم على تغلب نهض معه مسلمهم وكافرهم ، ثم إنه
تشدّد على تغلب فلم يقبل منهم إلا أن يسلموا حتى ثناه عن ذلك
عمر))([24]).
خامسـًا : لم يقصر عثمان الولايات على بني أمية ويغدقها عليهم
كما يقول خصومه ، بل كان هناك أمراء كثر من شتّى القبائل يلون أمور المسلمين في
جهات كثيرة في زمن عثمان .
وقد ذكر ابن جرير في ((تاريخه)) عددًا من عمال
عثمان الذين استعملهم على الأمصار ، فمنهم :
1 ـ الأشعث بن قيس : إلى
أذربيجان .
2 ـ وسعيد بن قيس : على الري .
3 ـ وكان سعيد بن قيس :
على همذان ، فعزل ، وجعل عليها النسير العجلي .
4 ـ وعلى أصبهان : السائب بن
الأقرع .
5 ـ وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي .
6 ـ وعلى الموصل :
حكيم بن سلامة الحزامي .
7 ـ وجرير بن عبد الله : على قرقيسيا .
8 ـ
وسلمان بن ربيعة : على الباب .
9 ـ وعلى الحرب : القعقاع بن عمرو
.
10 ـ وعلى حلوان : عتيبة بن النهاس([25]).
هؤلاء من وقفنا عليهم في
جهة المشرق .
وكان عبد الرحمن بن خالد أميرًا على حمص .
ثم لماذا
يتجاهلون أنّ عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ قد ولى من هو دون من ولاهم عثمان ،
ويتجاهلون أنه قد ولى أناسـًا من أقاربه ؟ ، والعجب أن سيد قطب قد نهج هذا المنهج؛
فلا حولَ ولا قوة إلا بالله .
وقد زعم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه
((منهاج الكرامة)) أن عثمان ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية .
فأجابه
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ((منهاج السنة))([26]) و
((المنتقى))([27])منه للذهبي : ((أن عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ ولى زياد بن أبي
سفيان وولى الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء .
ولا يشكّ
عاقل أن معاوية خير من هؤلاء كلهم ...)) ، ثم قال : ((ومن العجب : أن الشيعة ينكرون
على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية ، ومعلوم أن عليـًّا ولى أقاربَه من قبل أبيه
وأمه :
1 ـ فولّى عبيد الله بن عباس على اليمن .
2 ـ وولى على مكة
والطائف قثم بن العباس .
3 ـ وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف ،
وقيل : ثمامة بن العباس .
4 ـ وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس
.
5 ـ وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي ربّاه في حجره ( لأنه تزوج
أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيرًا ) .
ثم إن الإمامية تدّعي أن عليـًّا
نصّ على أولاده في الخلافة أو على ولده ، وولده على ولده الآخر وهلم جرّا
.
ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكرًا فتولية الخلافة العظمى أعظم من
إمارة بعض الأعمال))؛ فكما لا يجوز الطعنُ على عليّ بما فعله اجتهادًا كذلك لا يجوز
الطعنُ على عثمان بما فعله اجتهادًا ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ .
ولا يفرق
بين العملين والرجلين إلاّ أصحاب الأهواء والأغراض .
وإنما يذكر شيخ الإسلام
هذا تقريعـًا وتوبيخـًا لأهل الأهواء وبيان تناقضهم وفضح نواياهم .
سادسـًا
: لماذا يكثر الروافض ومَن سار على طريقهم الطعن على عثمان بإيثار بني أمية
بالمناصب في الدولة ـ على حدّ زعمهم ـ ، وينسون أنّ له سلفـًا وأسوةً برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وينسون أنّ هذا اجتهاد مراعـًا فيه مصلحة الأمة ، وينسبون
كثرة بني أمية؛ إذْ هم أكثر بطون قريش عددًا ، وينسون كفاءتم لهذه الأعمال
والفتوحات العظيمة التي فتحها الله على أيديهم والعزّ العظيم الذي بلغه الإسلام
والمسلمون على أيديهم ، وينسون الأخلاق العالية التي كان يتمتع بها هذا البطن من
قريش من الحلم ، والأناة ، والصبر ، والجود .
ومَن أحبَّ أن يعرف هذا فليقرأ
في التاريخ سيرهم وتعاملهم مع الناس .
قال الشيخ محب الدين الخطيب ـ رحمه
الله ـ : ((أما الذي يرجع إلى الصحيح الممحص من وقائع التاريخ ويتتبع سيرة الرجال
الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليه ـ ، وما كان لجهادهم
من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية ، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج
في هناء الأمة وسعادتها فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما
أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي))([28]).
أقول : وأعجب
لقول سيد قطب في عهد بني أمية : ((لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد ، ولكن روحه
انحسرت بلا جدال؛ وما قيمة الرقعة إذا انحسرت الروح ؟))([29]).
وقول سيد قطب
: ((ويبعد مثل أبي ذر لأنه أنكر كنز الأموال ، وأنكر الترف الذي يخبّ فيه الأثرياء
، ودعى إلى مثل ما كان يدعو إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الإنفاق والبرّ
والتعفّف)) .
يصف سيد قطب ذلك المجتمع من الصحابة وخيار التابعين تارةً
بالترف وتارة بالإقطاع وتارة بالأرستقراطية ، وكلها في غاية القبح
.
((فالمترف: هو الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش وأترفته النعمة أي أطغته
كما في لسان العرب ))([30])
أما حكم المترف عند سيد قطب فهو كما يقول في
هذا الكتاب:
((والآيات القرآنية والاحاديث النبوية في كراهة الترف وتحريمه
متواترة كثيرة بصفة بارزة تشعر بأنه من أكره الحرام الى الله ورسوله والاسلام الذي
يحض الناس على التمتع بطيبات الحياة ويكره أن يحرموها على أنفسهم وهي لهم حلال يدعو
إلى جعل الحياة بهيجة مقبولة لا قاتمة ولا منبوذة ... هذا الإسلام نفسه يكره السرف
والترف تلك الكراهية الشديدة العنيفة.
فالقرآن يصف المترفين أحيانا بسقوط
الهمة وضعف القوة وهبوط الأريحية: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع
رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين}.
وإذا عرفنا
حرص الإسلام على الجهاد وحثه عليه وتعظيم من يتطوعون له حتى ليقول الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق
)) أدركنا في الجانب الآخر كم يحتقر أولي الطول هؤلاء لتخلفهم وقعودهم عن صفوف
المجاهدين.
ولا غرابة في هذا ، فالمترف مترهل ضعيف الارادة ناعم قليل
الرجولة لم يعتد الجهد فسقطت همته ، وفترت أريحيته ، والجهد في الجهاد يعطل عليه
متاعه الشهواني الرخيص ويحرمه لذاته الحيوانية فترة من الوقت وهو لا يعرف قيمة في
الحياة سوى هذه القيم الداعرة الشائنة ))([31]) ... ثم يواصل الكلام على المترفين
ويسوق الآيات فيهم ... ثم يقول معلقا على بعض الايات: ((ولا غرابة في هذا فالمترفون
حريصون على حياتهم الرخوة الشاذة المريضة حريصون على شهراتهم ولذائذهم حريصون على
أن تكون من حولهم حاشية وبطانة خاضعة لنفوذهم))([32]) ثم يواصل الكلام في هذا
الصدد.
واذا كانت هذه هي نظرة سيد الى المترفين ، بل هى نظرة جميع المسلمين
فلماذا يصف ذلك المجتمع الطيب الخير بالتمرغ فيه وكبار اغنيائه من كبار أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم والذين يحاربون الترف أكثر من سيد وأمثاله.
ولا شك
أن المال قد فاض في عهد عثمان لاتساع الفتوح وكثرة الغنائم والفيء وتدفق الخير على
الأمة ، فتوسع بعض الناس لما وسع الله عليهم فبالغ أبو ذر في الشدة والانكار عليهم.
ولم يكن أبو ذر من دعاة الثورة والفتن والخروج حاشاه .
بل كان يعلن
السمع والطاعة ويذكر الاحاديث النبوية في ذلك - رضى الله عنه.
([1]) ((العدالة)) ( ص : 161 ) ، و ( ص : 190 ) ط
خامسة .
المترف : الذي أبطرته النعمة وسعة العيش . وأترفته النعمة ، أي :
أطغته .
([2]) لا يبعد أن يكون هؤلاء من تلاميذ ابن سبأ؛ وهذه من مكايدهم
.
([3]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن كتاب ((أمير المؤمنين معاوية))
للأخ محمد مال الله ( ص : 48 ) .
([4]) ( 33 ، كتاب الإمارة ، حديث :
1821 ( 5 ـ 10 الرقم الخاص ) .
([5]) ( 5/98 ـ 99 ، حديث : 20964 ـ 20975 )
.
([6]) البخاري : ( فضائل الصحابة ، حديث : 3746 ) .
([7]) في
((صحيحه)) : ( 53 : كتاب الصلح ، الحديث : 2407 ) .
([8]) انظر : ((الفتح))
: ( 13/66 ) .
([9]) في ((صحيحه)) : ( 79 : كتاب الاستئذان ، الحديث : 6282
ـ 6283 ) .
([10]) كتاب ((السير)) لأبي إسحاق الفزاري ( ص : 249 )
.
ورواه سعيد بن منصور ، وابن عبد البر في ((التمهيد)) : ( 2/24 ) نقلاً عن
محقق ((السير)) ، وقد رجعتُ إلى ((التمهيد)) فوجدت فيه مغايرة في الإسناد والمتن
لما هنا .
([11]) من أعجب العجائب إن سيد قطب يشك في صحة الشائعات هذه ضدّ
عثمان وأهله ، ثم يقدم بجرأة وعنف على مهاجمتهم والطعن فيهم ، وفي الوقت نفسه يمدح
أهل الفتن الذين افتعلوا هذه الشائعات ، ثم من هم أعداء رسول الله الذين كان يوليهم
عثمان .
والجواب : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل معاوية بن
أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن أبي سرح ،
والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر بن كريز العامري؛ وكلٌّ منهم له صحبة وسيرة
حسنة في رعيته ، ولهم فتوحات إسلامية عظيمة في الشرق والغرب .
وقد ولاهم ـ
قبل عثمان ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ .
ومن الطريف : أنّ كلاًّ من
أبي بكر وعمر قد ولى الوليد بن عقبة وهو من أشدّ ما ينقم به المغرضون على عثمان
.
فمن ينكر على عثمان ـ رضي الله عنه ـ تولية هؤلاء فلينكر على أبي بكر وعمر
ـ رضي الله عنهما ـ .
ومن ينكر على عثمان أن يولي الأكفّاء من بني أمية
فلينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد ولى منهم الكثير على أعماله
.
([12]) ((التاريخ)) : ( 4/253 ) .
([13]) ((تاريخ الطبري)) : (
4/347 ) .
([14]) في الأصل : ((العاص)) ، والصواب ما أثبت .
([15])
((منهاج السنة)) ( ص : 144 ـ 145 ، ج 4 ) .
([16]) في الأصل : ((العاص)) ،
والصواب ما أثبت .
([17]) هو : عمرو بن سعيد بن العاص . انظر : ((الإصابة))
.
([18]) ( 2/532 ) .
([19]) ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) ( ص :
383 ) .
([20]) ((الإصابة)) : ( 2/309 ) .
([21]) نفس المرجع السابق
.
([22]) ((فتوح مصر)) ( ص : 471 ) .
([23]) ((فتوح مصر)) ( ص : 173
ـ 174 ) .
([24]) انظر : ((تاريخ ابن جرير)) : ( 4/51 ، 54 ، 55 )
.
([25]) ((تاريخ ابن جرير)) : ( 4/422 ، 264 ـ 265 ) .
([26]) (
3/173-176) .
([27]) ( ص : 382-383) .
([28]) حاشية ((المنتقى من
منهاج الاعتدال))
|
|
==========
اتهامات خطيرة للصحابة والمجتمع المسلم في عهد
عثمان
|
|
وقول سيد :
((فإن النتيجة الطبيعية لشيوع مثل هذه الأفكار ـ إن حقـًّا وإن باطلاً ـ أن تثور
نفوس ، وأن نتحل نفوس ... تثور الذين أُشربت نفوسهم روح الدين إنكارًا وتأثّمـًا ،
وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداءً ولم تخالط بشاشته قلوبهم ، والذين تجرفهم
مطامع الدنيا ويرون الإنحدار مع التيّار . وهذا كلُّه قد كان في أواخر عهد عثمان))
.
أقول : مَن هم هؤلاء الذين أُشربت نفوسهم روح الدين من المنكرين على زعمه
غير أبي ذرّ ؟؛ فإنه لا شك قد أشربت نفسه روح الدين ، ولكنه قد انفرد عن إخوانه من
الصحابة الكرام الذين فيهم مَن هو أفضلُ منه ومنهم عثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن ابن
عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاّص ، وغيرهم ممن هم أفضل من أبي ذرّ ،
وأشربت نفوسهم روح الدين وخالطت بشاشته قلوبهم رضي الله عنهم أجمعين .
لا
يستطيع سيد أن يسمّي أحدًا من الصحابة ولا من خيار التابعين؛ ثم إن أبا ذر لا علاقة
له بالاشتراكيّة التي نسبها إليه وإلى الإسلام الاشتراكيون ومنهم سيد قطب
.
وأقول : إن هؤلاء الثائرين الذين وصفهم سيد بأن نفوسهم قد أُشربت روح
الدين إنما هم تلاميذ ابن سبأ من أهل الفتن والشغب والنفاق .
ولا علاقة
للصحابي الجليل أبي ذرٍّ بهم ولا بمنهجهم ولا بمطالبهم ولا بشغبهم وفتنهم
.
وهم على ظلمهم لا علاقة لهم بالمذهب الاشتراكي الذي يمدح سيد أهل الفتن من
أجلِه؛ والدليل قوله فيما سبق : ((وأخيرًا : ثارت الثائرة على عثمان ، واختلط فيها
الحقُّ بالباطل والخير بالشر ، ولكن لا بدّ لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام
ويستشعر الأمور بروح الإسلام أن يقرّر أن تلك الثورة في عمومها كانت فورة من روح
الإسلام؛ وذلك دون إغفال لِما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ ـ عليه لعنة الله
ـ))([1]).
ولا شكّ أنه يقصد بقوله : ((وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداء
ولم تخالط بشاشته قلوبهم ...)) إلخ أشملُ وأعمٌّ من بني أمية مما يدخل في عمومه جلّ
الصحابة الموجودين وأغلب خيار التابعين؛ فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله
.
ونعوذ بالله من هوىً يصل بأصحابه إلى هذا المصير ، وإلى مثل هذا الإطراء
للأشرار والإزراء بالأبرار الأخيار .
وذلك لا يرضي إلا أعداء الله من اليهود
والنصارى والشيوعيين والباطنيين والحاقدين على ذلك المجتمع الخيِّر الذين شهد لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خيرُ القرون .
إن غالبيهم أصحاب مبادئ
ودين وخلُق .
وأهل السنة لا ينظرون إليهم بمنظار سيد قطب ، وإنما يقولون :
إنهم مجتهدون بعضهم يصوِّب اجتهادهم ، وبعضهم يخطئوه .
ثم يرى سيد أن منهج
عليّ الإصلاحي أو التغييري لردّ الأمر إلى نصابه وردّ التصوّر الإسلامي إلى نفوس
الناس والحكام هو بأكل الشعير الذي تطحنه امرأته .
كان يجب على سيد أن يدرك
أنه يعالج موضوعات وقضايا خطيرة تحتاجُ إلى نقولٍ صحيحة ، وإلى استرشاد بمنهج أهل
العلم والسنة والحق ، وإلى تأدبٍ جمّ مع عثمان والصحابة والتابعين في عهده ، كيف
نسي سيد هذا الفقه العظيم ؟ ، ونسي هذا المقصد الأسمى الذي شرعه الإسلام للمسلمين
لتنطلق نفوسهم إلى ما فوق الضرورة من التفكير العالي والإحساس الراقي والتأمل في
الكون والخلْق والنظر إلى الجمال والكمال ؟! .
ثم كيف يجعل سيد هذا الشظف من
فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ وهو يقول في هذا الكتاب : ((فإذا كان الإسلام يعطي
الفقير فضلة من أموال الزكاة يوسع بها على نفسه ويستمتع بما هو فوق ضرورته فأولى أن
ينفق الواجد وأن يتمتع بالحياة متاعـًا معقولاً ، وأن لا يحرم نفسه من طيباتها وهي
كثيرة لتغدو الحياة بهيجة جملية ، ولتنطلق النفس إلى ما هو فوق الضرورة من التفكير
العالي والإحساس الراقي ، والتأمُّل في الكون والخلْق ، والنظر إلى الجمال والكمال؛
والرسول الكريم يقول : ((إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك
وكرامته))([2]).
فيعد الشظف والمتربة ـ مع القدرة ـ إنكارًا لنعمة الله
يكرهه الله([3]).
كيف يرضى سيد لعلي ـ رضي الله عنه ـ أن يعيش دون هذا
المستوى ودون تحقيق هذه الأهداف مخالفـًا هذه المقاصد الإسلامية العليا والغايات
النبيلة ومخالفـًا التوجيه النبوي الكريم ؟ .
ولا شكّ أن عليـًّا ـ رضي الله
عنه ـ كان من أكبر كبراء فقهاء الصحابة ، وكان بعيدًا عن تلك الصورة التي صوّرته
بها الروايات الرافضية أو الصوفية الغالية؛ فلقد كان عليّ ـ رضي الله عنه ـ يتمتّع
بالطيبات ، ويلبس اللباس الجميل اللائق بمكانته ـ رضي الله عنه ـ .
ولكن سيد
استروح إلى تلك الروايات الباطلة ، وتناسى فقهه في هذه القضية ليظهر الفرق الكبير
بين عثمان وعلي .
عثمان وسائر الصحابة يعيشون في غاية الترف ، وعليّ ـ رضي
الله عنه ـ يعيش في غاية الشظف ، وإن كان في داخل نفسه يرى أن هذا الشظف إنكار
لنعمة الله؛ فلا حولَ ولا قوة إلا بالله .
قال سيد : ((وربما باع
سيفه([4])ليشتري بثمنه الكساء والطعام ، وكره أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة مؤثرًا
عليه الخصاص([5])التي يسكنها الفقراء؛ جاء ليعيش كما روى عنه النضر بن منصور([6])عن
عقبة بن علقمة([7])قال : دخلتُ على عليّ عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني
حموضته ، وكسر يابسه ، فقلت : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟ ، فقال لي : يا أبا
الجنوب كان رسولُ الله يأكل أيبس من هذا ، ويلبيس أخشنَ من هذا ـ وأشار إلى ثيابه ـ
، فإن لم آخذ بما أخذ به خفتُ ألا ألحقَ به .
أو كما روى عنه هارون بن عنترة
عن أبيه قال : دخلتُ على عليّ بالخورنق([8])وهو فصل شتاء ، وعليه خلق قطيفة وهو
يرعد فيه ، فقلت : يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبـًا
وأنت تفعل هذا بنفسك ؟ ، فقال : ((والله ما أرزؤكم شيئـًا ، وما هي إلا قطيفتي التي
أخرجتها من المدينة))([9]).
وهكذا ينقل سيد هذه النقول ليبيِّن بها الفروق
الهائلة بين تصوّر الحكم في نفس عليّ وتصوّر الحكم في نفس عثمان .
والفروق
الهائلة بين علي وقد سار في طريقه يرد للحكم صورته كما صاغها النبي صلى الله عليه
وسلم والخليفتان بعده وبين عهد عثمان الذي تحطّمت فيه الأسس التي جاء بها الإسلام
ليقيمها بين الناس .
ولا يحتاج سيد إلى أن يذكر المصادر ولا إلى دراسة
الروايات للتأكّد من صدقها أو كذبها ، بل يكفي أن تلك قيلت في ذم عثمان وعهده ،
وهذه قيلت في مدح علي في نظره؛ لأن هذه الحياة لم يعشها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا أصحابه الكرام .
ولو درس سيد قطب حياة الخلفاء الأربعة دراسة علمية
منصفة واعتمد على الأحاديث والروايات الصحيحة في فضلهم لَما فرّق بينهم هذا التفريق
المفزع ، لكنه تصوّر الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعليـًّا بناء على الروايات
الواهية أنّ حياتهم كانت حياة قوم طبقوا النظام الاشتراكي تطبيقـًا دقيقـًا على
أنفسهم وغيرهم ، وإن كان عمر قد خالف الاثنين لكنه ندم ورجع إلى مذهبهم في المساواة
في العطاء .
ولو درسهم دراسة فاحصة لربما هجم عليهم هجومـًا لا هوادةَ فيه
كما هاجم أخاهم عثمان ـ رضي الله عنه ـ .
ولنضرب أمثلةً من حال علي ـ رضي
الله عنه ـ :
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن
عاصم بن كليب ، عن محمد بن كعب القرظي : أن عليـًّا قال : ((لقد رأيتني مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإني لأربطُ الحجرَ على بطني من الجوع ، وإن صدقتي اليوم
لأربعون ألفـًا))([10]).
وقال ابن أبي يحيى عن محمد بن كعب القرظي عن عمّار
بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ في حديثٍ ساقه قال : ((أقطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم
عليـًّا ـ رضي الله عنه ـ بذي العشيرة من ينبع ، ثم أقطعه عمر ـ رضي الله عنه ـ
بعدما استخلف إليها قطيعة ، واشترى عليّ ـ رضي الله عنه ـ إليها قطيعة وحفر بها
عينـًا ، ثم تصدّق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل ، القريب والبعيد ، وفي
الحياة والسِّلم والحرب ، ثم قال : صدقة لا تُوهب ولا تورث ، حتى يرثها الله الذي
يرث الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين))([11]).
أموال علي ـ رضي الله عنه ـ
:
قال([12]): وكانت أموال علي ـ رضي الله عنه ـ عيونـًا متفرِّقة بينبع ،
منها : عينٌ يقال لها : (عين البحير) ، وعين يقال لها : (عين أبي نيزر) ، وعين يقال
لها : (عين نولا)؛ وهي اليوم تدعى العدر ، وهي التي يقال لها أن عليـًّا ـ رضي الله
عنه ـ عمل فيها بيده ، وفيها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم متوجهة إلى ذي العشيرة
يتلقى عير قريش . وفي هذه العيون أشراب بأيدي أقوام زعم بعض الناس أن ولاة الصدقة
أعطوهم إياها .
وزعم الذين هي بأيدهم أنها ملك لهم ، إلا ( عين نولا ) فإنها
خالصة ، إلاّ نخلات فيها بيد امرأة يقال لها (بنت يعلى) مولى علي بن أبي طالب رضي
الله عنه .
وعمل عليّ ـ رضي الله عنه ـ بينبع (البغيبغات) ، وهي عيون منها :
عين يقال لها : (خيف الأرك) ، ومنها عين يقال لها (خيف ليلى) ، ومنها عين يقال لها
: (خيف بسطاس) فيها خليج النخل مع العين .
وكانت (البغيبغات) مما عمل علي ـ
رضي الله عنه ـ وتصدّق به؛ فلم تزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب يأكل ثمرتها ويستعين بها على دينه ومؤونته على أن لا يزوّج ابنته
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان؛ فباع عبد الله تلك العيون من معاوية ـ رضي الله عنه ـ
.
ولعليٍّ ـ رضي الله عنه ـ عينٌ يقال لها : (عين الحدث) بينبع ، ولعليّ ـ
رضي الله عنه ـ في صدقاته (عين ناقة) بوادي القرى ، يقال لها : (عين حسن) بالبيرة
من العلا .
وكان له صدقات بالمدينة : (الفقيرين) بالعالية ، و (بئر الملك)
بقناة ، و (الأدبية) بالأضم؛ فسمعتُ أن حسنـًا أو حسينـًا باع ذلك كله .
وله
بوادي القرى ـ أيضـًا ـ : (عين موات) ، ولعلي ـ رضي الله عنه ـ أيضـًا حقّ على (عين
سكر) ، وله ـ أيضـًا ـ ساقي على عين بالبيرة ، وهو في الصدقة .
وله بحَرّة
الرجلا من ناحية شعب زيد وادٍ يُدعى الأحمر ، شطرُه في الصدقة وشطره بأيدي آل مناع
من بني عدي منحةً من علي ، وكان كله بأيديهم حتى خاصمه فيها حمزة بن حسن فأخذ منهم
نصفه .
وله ـ أيضـًا ـ بحرّة الرجل وادٍ يقال له : (البيضاء) فيه مزارع وعفا
وهو في صدقته([13]).
وقد ذكر ابن شبّة بعد هذا أملاكـًا لعلي ـ رضي الله عنه
ـ وصدقات وعبيدًا وعتقاء لا يتّسع البحث لسردِها .
قال ابن حزم في كتابه
((الملل والنحل))([14]): ((وأما علي ـ رضي الله عنه ـ فتوسّع في هذا الباب من حلِّه
، ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد ، وتوفي عن أربعة وعشرين
ولدًا من ذكر وأنثى ، وترك لهم العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم
ومياسيرهم . هذا أمرٌ مشهور ، لا يقدر على إنكاره من له أقلّ علم بالأخبار والآثار؛
ومن جملة عقاره التي تصدّق بها كانت تغلّ ألف وسق تمرًا سوى زرعها؛ فأين هذا من هذا
؟)) .
كيف يكون موقف سيد قطب من عليّ لو اطلع على هذه الأخبار التي تدلّ على
أنّ عليـًّا كان يملك الأراضي والآبار والعيون والوديان ، ولو تصدّق بالكثير منها
كغيره من الصحابة .
أما نحن فنقول : إن هذا لا يضر عليـًّا ولا إخوانه من
أغنياء الصحابة كعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف فإنّ الله وسع عليهم
وأدرَّ عليهم رزقه وفضله؛ فكانوا فيه سمحاء أسخياء أبرار متصدّقين ووصالين
لأرحامهم؛ فقد والله فقهوا الإسلام فاتخذوا الأموالَ نجائب ومطايا إلى الجنة
.
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في ((المحلى)) : ((الحرام حرام ولو أنه مقدار
ذرة ، وكثير الحلال حلال ولو أنه الدنيا وما فيها ، وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ((وإن هذا المال خَضِرة حُلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم
وابن السبيل)) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنه من يأخذه بغير حقِّه
كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة))([15]) ، وفي لفظ : ((وإن هذا
المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بحقه ، ووضعه في حقِّه ، فنعم المعونة هو ، ومن أخذه
بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع))([16]) ، وهو من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي
الله عنه ـ ، وعن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ : ((نعم المال الصالح للمرء
الصالح))([17]).
إن سيد قطب يصرّ ويلحّ على أن الحكم قد فسد في عهد عثمان ،
وقد تشتدّ عبارته أحيانـًا ويلطفها أحيانـًا .
قال سيد في موضع آخر : ((وفي
سبيل تبرءة الإسلام روحه ومبادئه من ذلك النظام الوراثي الذي ابتدع ابتداعـًا في
الإسلام نقرّر هذه الحقائق لتكون واضحة في تصوّر الحكم الإسلامي على حقيقته ، ولكي
ندرك عمق هذه الحقيقة يجب أن نستعرض صورًا من سياسة الحكم في العهود المختلفة على
أيدي أبي بكر وعمر ، وعلى أيدي عثمان ومروان ، وعلى يدي علي الإمام ، ثم على أيدي
الملوك من أمية ومن بعدهم من بني العباس بعد هذه الهزّة المبكرة في تاريخ
الإسلام))([18]).
وقال : ((قام أبو ذرّ ينكر على المترفين ترفهم الذي لا
يعرفه الإسلام ، وينكر على معاوية وأمية خاصّة سياستهم التي تقرّ هذا الترف وتستزيد
منه وتتمرّغ فيه ، وينكر على عثمان نفسه أن يهب من بيت المال المئات والألوف فيزيد
في ثراء المثرين وترف المترفين علم أن عثمان أعطى مروان بن الحكم خُمس خراج أفريقية
والحارث بن الحكم مائتي ألف درهم ، وزيد بن ثابت مائة ألف . وما كان ضمير أبي ذرّ
ليطيق شيئـًا من هذا كله ، فانطلق يخطب في الناس : لقد حدثت أعمال ما أعرفُها ،
والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ، وإني لأرى حقـًّا يطفا ، وباطلاً يحيا ،
وصادقـًا مكذّبـًا ، وأثرة بغير تقى)) ([19]).
فأنت ترى قناعة سيد بفساد
الحكم في عهد عثمان ، وأن حقيقة التصوّر الإسلامي للحكم قد تهدمت أسسه ثم ذهب .
([1]) ((العدالة)) ( ص : 160 ـ 161 ) ط ثانية
عشرة ، وفي ط خامسة يقول ما نصُّه :
((إن تلك الثورة في عمومها كانت أقربَ
إلى روح الإسلام واتجاهه من موقف عثمان ، أو بالأدق من موقف مروان ومن ورائه
بنو أمية)) ا.ه .
([2]) انظر : أبا داود في ( كتاب اللباس ، حديث رقم :
4063 ) ، وانظر : ((جامع أبي عيسى الترمذي)) : ( حديث رقم : 2819 ، بكتاب الأدب ) ،
وانظر : ((صحيح النسائي
|
|
===============
تحطم أسس الدين في عهد عثمان في زعم سيد
قطب
|
|
ويقول : ((لقد
كانت هذه الصيحة يقظةَ ضمير مسلم لم تخدره الأطماع أمام تضخم فاحش في الثروات يفرّق
الجماعة الإسلامية طبقات ، ويحطم الأسس التي جاء بها هذا الدين ليقيمها بين
الناس))([1]).
هكذا يتصور سيد عهد عثمان وخلافته ، ويصوّره هذه التصوير
المرعب الذي من جملة مساوئه في نظره أن الجماعة الإسلامية أصبحت طبقات ، وأن الأسس
التي جاء بها الإسلام قد تحطّمت .
لا نريد أن نناقشه ولا نشرح كلامه لأنه
واضح للقارئ الفطن المنصف ، فليفهمه.
ثم واصل سيد بذكر المبررات لصبر عليّ
على حياة الجوع والشظف ، ثم قال : ((ولقد كان منهاجه الذي شرعه هو ما قاله في خطبته
عقب البيعة له : أيها الناس إنما أنا رجلٌ منكم ، لي ما لكم ، وعليّ ما عليكم ،
وإني حاملكم على منهج نبيّكم ومنفِّذ فيكم ما أمرت به؛ ألا إن كل قطيعة أقطعها
عثمان وكل عطاء أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال؛ فإن الحق لا يبطله
شيء([2]) ، ( ولو وجدته قد تزّوج به النساء ، وملك به الإماء ، وفرّق في البلدان
لرددته؛ فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحقّ فالجورُ عليه أضيق([3]) )
.
أولاً : أن هذا الكلام لا يثبت عن علي ـ رضي الله عنه ، وبرّأه الله منه ـ
.
ثانيـًا : هل هذا هو منهج عليّ لا يدندن إلاّ حول المال ؟!
.
ثالثـًا : إقطاع الإمام للرعايا أمرٌ ثابت في شريعة الإسلام من تصرّفات
الرسول صلى الله عليه وسلم علياًوخلفائه الراشدين ، واتفق عليه فقهاء الإسلام؛
فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بئر قيس والشجرة وسأل علي رضي الله
عنه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأقطعه ينبع .
وأقطع عمر خمسة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن مسعود ، وخبّاب ،
وأسامة بن زيد ، والزبير؛ وأمر أبا موسى أن يقطع رجلاً أرضـًا بالعراق لا تضّر
بالمسلمين .
روى كلّ ذلك يحيى بن آدم في ((كتاب الخراج))([4]).
وروى
أبو يوسف في ((كتاب الخراج))([5])بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع
الزبير فيها أرضـًا يقال لها (الجرف) ، وأن عمر أقطع العقيق أجمع للناس ، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطعَ أبا بكر وعمر ، وأقطع بلال بن الحارث
المزني ما بين البحر والصخر .
وعن أبي رافع قال : أعطاهم النبي صلى الله
عليه وسلم أرضـًا ، فعجزوا عن عمارتها فباعوها في زمن عمر بثمانية آلاف أو
بثمانمائة ألف درهم .
وأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أقطع([6])عبد الله بن
مسعود في النهرين ، ولعمار استينيا ، وأقطع خبّابـًا صنعاء ، وسعد بن مالك قريةً
هرمزان .
وكان لعبد الله بن مسعود أرض خراج ، وكان لخبّاب أرض خراج ،
وللحسين أرض خراج .
وروى أبو عبيد في كتاب ((الأموال)) : أن النبي صلى الله
عليه وسلم أقطعَ عددًا من الصحابة أرضين؛ فأقطع رجلاً من الأنصار يسمّى سليطـًا ،
وأقطع الزبير أرضـًا بخيبر بها شجر ونخل ، وأقطع بلال بن الحارث المزني أقطعه
العقيق أجمع .
وأقطع فرات بن حيّان العجلي أرضـًا باليمامة .
وكتب
لأبي ثعلبة الخشني على أرض بأيدي الروم .
وكتب لتميم الداري على أرض بيت لحم
، ونفّذ ذلك له عمر لما استخلف وظهر على الشام ، قال أبو عبيد : ((فهي بأيدي أهل
بيته إلى اليوم)) .
وأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال الملح
بمأرب ، ثم استعادها منه ، ثم أقطعه ما يحمي من الأراك ما لم تنله أخفاف الإبل
.
وأقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله ، وردّ ذلك عمر .
وكتب عمر إلى
أبي موسى أن يقطع نافعـًا أبا عبد الله الثقفي أرضـًا على شاطئ دجلة ، وأن عثمان
أقطع خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم ذكرهم .
ثم مضى
أبو عبيد يشرح الأحاديث والآثار ، ويبيِّن مخارجها الفقهية .
وبعد : فهل
يصحُّ أن ينسب إلى أمير المؤمنين الخليفة الراشد العادل عليّ بن أبي طالب أن يرد
سنة ثابتة من سنن رسول الله وخلفائه شاهدهم يعملون بها ، وشاهد أبا بكر وعمر وهما
يقطعان القطائع من أراضي موات تنفع المسلمين ولا تضرهم ؟ .
وهل يصحّ أن
يركّز فقط على من أقطعهم عثمان بوجه شرعي وبناءً على منهج الرسول والخليفتين
الراشدين فيبتزّ منهم أموالهم التي تملّكوها بوجوه مشروعة في شريعة الإسلام ، لا
سيما والذين أقطعهم عثمان ليسوا من قرابته ؟ .
أيجوز لمسلم أن يقف على هذه
الصورة الحاقدة الشوهاء فينسبها إلى إمام نقيّ طاهر يبرزه في صورة المنتقم
المتشفِّي ؟ ، وممن ؟ ، من إمام طاهر نقيّ بريء ألا وهو عثمان الخليفة العادل
الراشد ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ .
([1]) ((العدالة)) ( ص : 175 ) ط ثانية عشرة
.
([2]) ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة
.
([3]) ما بين القوسين من ((شرح نهج البلاغة)) ( ص : 118 ) ، ولم أجد فيه
غير هذه القطعة ، و ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة
.
([4]) ( ص : 84 ـ 85 ) .
([5]) ( ص : 66 ـ 68 ) .
([6])
((الأموال)) لأبي عبيد ( ص : 386 ـ 393 ) ، وقد أورد أبو داود عددًا من الأحاديث في
إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم أناسـًا من الصحابة : ( 14 ، كتاب الخراج والإمارة
36 ، باب في إقطاع الأرضين ، ص 443 ـ 453 ) لا يتّسعُ المقامُ لذكرها ، فليرجع
إليها من شاء==========
أقوال أئمة الإسلام في الإقطاع
والإحياء
|
|
قال أبو يوسف :
((فقد جاءت هذه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعَ أقوامـًا ، وأنّ الخلفاء
من بعده أقطعوا ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك إذا
كان فيه تألف على الإسلام وعمارة الأرض ، وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له
غناء في الإسلام ونكاية للعدو ، ورأوا أن الأفضلَ ما فعلوا ، ولولا ذلك لم يأتوه ،
ولم يقطعوا حقّ مسلم ولا معاهد)) .
وقال أبو يوسف : ((وكل من أقطعه الولاة
المهديون أرضـًا من أرض السواد وأرض العرب والجبال من الأصناف التي ذكرنا أنّ
للإمام أن يقطع منها فلا يحلّ لمن يأتي بعدهم من الخلفاء أن يرد ذلك ولا يخرجه من
يدي من هو في يده وارثـًا أو مشتريـًا؛ فأما إن أخذ الوالي من يد واحد أرضـًا
وأقطعها آخر فهذا بمنزلة الغاصب))([1]).
وقال أبو يوسف : ((وكل من فرّ عن
أرضه أو قتل في المعركة وكل مغيض ماء أو أجمة فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقطع من
هذه لمن أقطع)) .
وقال أبو يوسف : ((وذلك بمنزلة المال الذي لم يكن لأحد ولا
في يد وارث؛ فلإمام العادل أن يجيز منه ويعطي من كان له غناء في الإسلام ويضع ذلك
موضعه ولا يحابي به ، فكذلك هذه الأرض؛ فهذا سبيل القطائع عندي في أرض العراق
.
والذي صنع الحجاج ثم فعل عمر بن عبد العزيز فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ أخذ
ذلك بالسنة؛ لأن من أقطعه الولاة المهديون فليس لأحدٍ أن يردّ ذلك ، فأما من أخذ من
واحد وأقطع آخر فهذا بمنزلة مال غصبه واحد من واحد وأعطى واحدًا))([2]).
قال
أبو يوسف : ((وكل أرض من العراق والحجاز واليمن والطائف وأرض العرب وهي غير عامرة
وليست لأحدٍ ولا في يد أحدٍ ولا ملك أحد ولا وراثة ولا عليها أثر عمارة فأقطعها
الإمام رجلاً فعمرها فإن كانت في أرض الخراج أدّى عنها الذي أقطعها الخراج ،
والخراج ما افتتح عنوة مثل السواد وغيره ، وإن كانت من أرض العشر أدّى عنها الذي
أقطعها العشر ، وأرض العشر كل أرض أسلم عليها أهلها فهي أرض عشر وأرض الحجاز
والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب كلها أرض عشر؛ فكل أرض أقطعها الإمام مما فتحت
عنوة ففيها الخراج إلا أن يصيّرها الإمام عشرية ، وذلك إلى الإمام إذا أقطعَ أحدًا
أرضـًا من أرض الخراج ، فإن رأى أن يصيّر عليها عشرًا أو عشرًا ونصفـًا ، أو عشرين
أو أكثر أو خراجـًا فما رأى أن يحمل عليه أهلها فعل؛ وأرجو أن يكون ذلك موسعـًا
عليه ، فكيفما شاء من ذلك فعل ، إلاّ ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن
فإن هنالك لا يقع خراج ولا يسع الإمام ولا يحلُّ له أن يغيّر ذلك ولا يحوله عما جرى
عليه أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه؛ فقد بينتُ لك فخذ بأي القولين
أحببتَ ، واعمل بما ترى أنه أصلح للمسلمين وأعم نفعـًا لخاصتهم وعامتهم وأسلم لك في
دينك إن شاء الله تعالى))([3]).
وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في
((المغني))([4]): ((وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون بمنزلة المتحجر الشارع
في الإحياء)) ، ثم ساق الأدلة على ذلك .
وقال الإمام الشافعي في كتابه
((الأم))([5])بعد كلام له في إحياء الموات : ((وإذا أبان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنّ من أحيا أرضـًا مواتـًا فهي له ـ والموات : ما لا ملك فيه لأحد ـ خالصـًا
دون الناس ، فللسلطان أن يقطع من طلب مواتـًا ، فإذا أقطع كتب في كتابه : ولم أقطعه
حقّ مسلم ، ولا ضررًا عليه)) .
قال الشافعي : ((وخالفنا في هذا بعض الناس
فقال : ليس لأحدٍ أن يحمي مواتـًا إلا بإذن السلطان ، ورجع صاحبه إلى قولنا فقال :
وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت العطايا؛ فمن أحيا مواتـًا فهو له بعطيّة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس للسلطان أن يعطي إنسانـًا ما لا يحلّ للإنسان
أن يأخذه)) .
وقال الزرقاني في شرح حديث : ((من أحيا أرضـًا ميتة فهي له)) :
((بمجرّد الإحياء ، ولا يحتاج لإذن الإمام في البعيدة عن العمارة اتفاقـًا ، قال
مالك : معنى الحديث : في فيافي الأرض ، وما بعُد من العمران ، فإن قرب فلا يجوز
إحياؤه إلا بإذن الإمام)) .
وقال أشهب : ((وكثير من أصحابنا وغيرهم يحييها
من شاء بغير إذنه)) .
قال سحنون : ((وهو قول أحمد ، وداود ، وإسحاق))
.
والشافعي قائلاً : ((عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من أحيا
مواتـًا أثبت من عطية من بعده من سلطان وغيره ، واستحب أشهب إذنه لئلا يكون فيه ضرر
على أحد))([6]).
رابعـًا : إن سيد قطب نفسه قد قرّر في هذا الكتاب ((العدالة
الاجتماعية)) : أن إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها واحد من وسائل التملّك
الفردي ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده أقطعوا أناسـًا ، فقال :
((ثامنـًا : إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها مما آل إلى بيت مال المسلمين
من المشركين الذين لا ورثة لهم؛ فالإمام وليهم ، أو من أرض الموات لا مالك لها كذلك
.
وقد أقطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أرضـًا ، كما أقطع
الخلفاء من بعده مكافأة على جهد بارز وخدمة للإسلام ولكن في حدود ضيقة ومن الأرض
التي لا مالك لها والأرض الموات؛ فلما جاء بنوا أمية نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض
لذويهم؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة ، لا خلفاء راشدين كما سيجيء))([7]).
فهؤلاء
فقهاء الإسلام متفقون أن للإمام أن يقطع المسلمين من الأراضي الموات ما لا يضرّ
بالمسلمين .
وهذا سيد قطب نفسه يرى أن للإمام أن يقطع الأراضي التي لا مالك
لها فما باله لا يعترض على سلطان من السلاطين إلاّ على عثمان بن عفان ، ويستشهد
بالرواية الباطلة المنسوبة ظلمـًا وزورًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فهل
كان عثمان في نظر سيد من بني أمية الظلمة الذين قال عنهم : ((فلما جاء بنو أمية
نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض لذويهم([8])؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة لا خلفاء
راشدين)).
لا شكّ أن سيد قطب لا يحمل هذه الحملات على عثمان ولا يستروح إلى
الروايات الباطلة التي تطعن فيه إلاّ من هذا المنطلق؛ وقد صرّح بأن خلافة عليّ كانت
امتدادًا طبيعيـًّا لعهد الخليفتين ، وأن عهد عثمان كان فجوةً؛ وهنا يريد إبطال
تصرّفاته وإبطال إقطاعاته .
خامسـًا : كيف يقول علي ـ رضي الله عنه ـ هذا
القول : ((ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في
بيت المال)) بهذا العموم والشمول ، فلماذا أجمع الصحابة على بيعة عثمان إذًا ؟ ،
ولماذا كان إمامـًا ؟ ، وكل عطاء أعطاه ، وكل قطيعة أقطعها طوال خلافته الطويلة
باطل ؟ .
ألا إنه كذب الروافض ، يتعلّق به سيد قطب ، لماذا ؟ ، لأنه طعن في
عثمان فحسب ، وإلاّ فإن مجرّد سماع هذا الهراء يكفي للحكم على بطلانه وأنه مفترى
على عليّ ـ رضي الله عنه ـ .
بقية الخطبة المفتراة على عليّ ـ رضي الله عنه
ـ :
((أيها الناس ... ألا لا يقولن رجال منكم غدًا ـ وقد غمرتكم الدنيا
فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار واتخذوا الوصائف([9])المرققة إذا منعتهم ما كانوا
يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا
.
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يرى أن الفضلَ له على سواه بصحبته فإن الفضلَ غدًا عند الله وثوابه وأجرُه على
الله .
ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله ، فصدّق ملتنا ، ودخلَ ديننا ،
واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده؛ فأنتم عباد الله ، والمالُ مالُ
الله يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضلَ لأحدٍ على أحد ، وللمتقين عند الله أحسنُ
الجزاء))([10]).
وهذه الخطبة تبرز لنا أناسـًا آخرين من المهاجرين والأنصار
قد امتلكوا العقار وفجّروا الأنهار .
ثم أقول : إن واضعَ هذه الخطبة مع
كذبِه فهو من أجهل الناس بتاريخ عليّ نفسه ـ رضي الله عنه ـ؛ كان الجهادُ في سبيل
الله والفتوحات الإسلامية في عهده قد توقّفت فلا غنائم ولا فيء؛ فما هي الأموالُ
التي يقسمها بين الأغنياء والفقراء والمهاجرين والأنصار وغيرهم ؟! .
إن
الفتن والحروب الداخلية ومشاكل الثوّار في داخل جيشِه قد فعلت بقوّة عليّ وشجاعته
وعدله كل الأفاعيل .
فلو فرضنا أنه كان يرى أن إقطاعات عثمان وعطاءه كان
باطلاً أكان يستطيع أن يستعيدَها ممن حازوا هذا العطاء خصوصـًا بني أمية الذين
قاتلهم وقاتلوه حتى كان النصر والظفر لهم في النهاية ؟ .
ثم أين هي البلدان
التي فتحت في عهد علي ؟ ، وكم كانت هذه المغانم التي يزعم مفتري الخطبة أن عليـًّا
سيقسمها بالسوية ؟!! .
إن هناك عقبات كئيدة وقفت في وجه عليّ ـ رضي الله عنه
ـ أخطرُها : تمرُّد جيشِه عليه من الثوار على عثمان والخوارج والغُلاة وغيرهم
.
فهل ترك هؤلاء له الفرصة ليَعِدَ مثل هذه الوعود ، فضلاً عن
تنفيذِها([11]).
ثم هل كان عليّ في عهد عثمان من الكادحين المحرومين فلا
يملك أرضـًا ولا يركب خيلاً ولا يملك وصيفة .
لقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ
من أغنياء الصحابة؛ فعنده العقار ، والمال ، والعبيد ، والإماء؛ وكان ممن يُفضَّل
في العطاء؛ وكلُّ ذلك مما أباحه الله له وللمؤمنين جميعـًا ، ولا حرجَ على أحدٍ
منهم في امتلاك ذلك ما دام يؤدِّي منه الحقوق .
قال سيد : ((ولقد كان من
الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن عليّ وألا يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل
، ومن مردوا على الاستئثار ، فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر ـ معسكر
أمية ـ ، حيث يجدون فيه تحقيقـًا لأطماعهم على حساب العدل والحق اللذين يصرُّ
عليهما علي ـ رضي الله عنه ـ هذا الإصرار))([12]).
نتسائل مَن هؤلاء
المستنفعون الذين لا يقنعون بشرعة المساواة والذين مردوا على الاستئثار فانحازوا في
النهاية إلى معسكر أمية ؟ .
إنهم آخرون غيرَ بني أمية .
إنهم أولئك
المهاجرون ، ومنهم : علي ، والأنصار ، وأبناؤهم ، ومَن شاركَهم من التابعين الذين
خاطبهم عليّ ـ رضي الله عنه ـ ممن غمرتهم الدنيا ، فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار
، ويرون لأنفسهم فضلاً على مَن سواهم؛ فيريد علي ـ رضي الله عنه ـ أن ينصف منهم
الكادحين المحرومين والمظلومين في نظر سيد قطب الذي تملّك المذهب الإشتراكي عقلَه
ومشاعره حتى صار لا يعرف الحقَّ من الباطل والكذب من الصدق ، يفرح بكلّ هراء ولغو
من القول يدعم به هذا المذهب .
ألا تعلم أنّ هؤلاء هم خيرُ القرون الذين شهد
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريّة ؟ ، ألا تعلم أنّ هؤلاء هم الذين فتحوا
الدنيا ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلّموا الناس العدل ؟
.
ألا تدرك أنّك بتصويرهم بهذه الصورة الشوهاء تؤكّد مطاعن أهل الرفض
والزندقة ومطاعن سائر أعداء الإسلام من اليهود والنصارى المبشرين والمستشرقين
والمستعمرين .
بأيّ تاريخ يعتزّ المسلمون ؟ ، وبأي الأمجاد يلهجون إذا كان
هذا هو واقع أسلافهم ؟؛ فكلُّ مواقفهم تابعة لأهوائهم وشهواتهم في نظر سيد قطب؛ فلا
ينصرون الحق ، ولا يفكّرون فيه ، ولا يبحثون عنه ؟؟! .
واصل سيد قطب طعنه في
بني أمية مستثنيـًا عهد عمر بن عبد العزيز .
ثم ذكر خطبتين مزعومتين لمعاوية
لا تليقُ بمن هو دونَه ، فكيف به .
وذكر خطبة للمنصور في زعمه .
ثم
قال : ((أما سياسة المال فكانت تبعـًا لسياسة الحكم وفرعـًا عن تصوّر الحكام لطبيعة
الحكم وطريقته ، ولحقّ الراعي والرعية؛ فأما في حياة محمد صلى الله عليه وسلم
وصاحبيه وخلافة عليّ بن أبي طالب فكانت النظرة السائدة هي النظرة الإسلامية ، وهي :
إن المال العام مال الجماعة ، ولا حقّ للحاكم بنفسه أو بقرابته أن يأخذ منه شيئـًا
إلا بحقِّه ، ولا أن يعطي أحدًا منه إلا بقدر ما يستحقُّ؛ شأنُه شأن الآخرين
.
وأما حين انحرف هذا التصوُّر قليلاً في عهد عثمان فقد بقيت للناس حقوقهم ،
وفهم الخليفة أنه في حلٍّ ـ وقد اتسع المال عن المقررات للناس ـ أن يطلق فيه يدَه
ببر أهله ومن يرى من غيرهم حسب تقديره .
وأما حين صار الحكم إلى الملك
العضوض فقد انهارت الحدود والقيود وأصبح الحاكم مطلق اليد في المنع والمنح بالحق في
أحيانٍ قليلة ، وبالباطل في سائر الأحيان ، واتسع مال المسلمين لترف الحكام
وأبنائهم وحاشيتهم ومملقيهم إلى غير حد ، وخرج الحكام بذلك نهائيـًّا من كل حدود
الإسلام في المال))([13]).
وفي هذا نظرات :
الأولى : أن الرجل قد وصف
عهد الرسول وصاحبيه وخلافة عليّ بأن النظرة السائدة فيها هي النظرة الإسلامية ...
إلخ ، أما عهد عثمان فبخلاف ذلك .
لكن الرجل استدرك على خلاف عادته ـ أو
استدرك له غيره من المشرفين على طبع الكتاب ـ القول الآتي : ((وأما حين انحرف هذا
التصور قليلاً في عهد عثمان ...)) إلخ لامتصاص غضب من قد يغضب لعثمان ـ رضي الله
عنه ـ .
ولكن هيهات أن تنطلي هذه الحيلة على مَن سبرَ غور سيد وغور هذا
الكتاب وشاهد الحملات الكثيرة فيه على الخليفة الشهيد المظلوم ـ رضي الله عنه ـ من
سيد قطب ، والتي منها :
((هذا التصوّر لحقيقة الحكم قد تغيّر شيئـًا ما دون
شكّ على عهد عثمان وإن بقيَ في سياج الإسلام فقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخٌ كبير
ومِن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام))
.
فهذه الحملة على ما فيها من إقدام وإحجام تبيّن أن سيد قطب يعتقد أنّ
الأمرَ قد انحرف كثيرًا في عهد عثمان .
وقوله بعد أن ساق رواية كاذبة
مضمومنها : أنه أعطى زوج ابنته مائتي ألف فبكى من ذلك زيد بن أرقم الذي يستشعر روح
الإسلام المرهف ، فغضب عثمان على الرجل الذي لا يطيقُ ضميره هذا التوسعة من مال
المسلمين على أقارب خليفة المسلمين ، وقال له : ((ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنا
سنجد غيرَك)) .
قال : ((والأمثلة كثيرة على هذه التوسعات)) ، ثم ذكر منحـًا
كبيرة للزبير وطلحة ومروان .
ثم يقول : ((وغير المال كانت الولايات تغدق على
الولاة من قرابة عثمان ، وفيهم معاوية الذي وسع عليه في الملك فضم إليه فلسطين وحمص
، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، ومهّد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة علي
وقد جمع المال والأجناد وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي آواه عثمان ، وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصّرف ، وفيهم عبد الله بن
أبي سرح أخوه من الرضاعة([14]).
ويقول : ((ولقد كان الصحابة يرون هذا
الانحراف عن روح الإسلام فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ الإسلام وإنقاذ الخليفة من
المحنة والخليفة في كبرته وهرمه لا يملك أمره من مروان))([15]).
ويقول :
((مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في
الأرض ، وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من
إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع))([16]).
ويقول
: ((ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ امتدادًا طبيعيـًّا لخلافة
الشيخين قبلَه ، وأن عهد عثمان الذي تحكم فيه مروان كان فجوةً
بينهما))([17]).
فبالله هل الذي ينظر إلى عثمان هذه النظرة الحانقة ويحمل
عليه هذه الحملات الشعواء وغيرها بما تحمل من قسوة وعنف ويصدق فيه الأقاويل الباطلة
يقبل منه تلطيف العبارات أحيانـًا لا سيّما وهو لا يزال يدير رحى الحرب على عثمان
وغيره مواصلاً حملاته التي لم تكتف بإسقاط خلافة عثمان في غمارها؛ بل استمرّ يكيل
له الضربات ولغيره إلى الحدِّ الذي يشفي غليل الروافض والباطنية وسائر أعداء
الإسلام .
الثانية : انظر كيف انتهى كلامه على بني أمية إلى قوله : ((...
وخرج الحكّام بذلك نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال)) .
إن سيد قطب
إمامُ التكفير في هذا العصر وحامل رايته ، فهل يا ترى إذا خرج حكّام بني أمية
نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال هل يبقون في دائرة الإسلام أو لا ؟ . ننتظر
الإجابة !! .
([1]) ((كتاب
الخراج)) ( ص : 66 ) .
([2]) ((كتاب الخراج)) ( ص : 63 ) .
([3])
((كتاب الخراج)) ( ص : 65 ) .
([4]) ( 8/153 فما بعدها ) .
([5]) (
4/46 ) ، وانظر ((السنن الكبرى)) للبيهقي : ( 6/148 ـ 149 ، باب من أقطع قطيعة
أو تحجر أرضـًا فلم يعمرها ) ، وانظر : ((المعرفة)) للبيهقي أيضـًا : ( 9/11 ـ
20 ، باب إقطاع الموات وإحياؤه ، وباب الحمى
|
|
|
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق