ويقول : ((لقد
كانت هذه الصيحة يقظةَ ضمير مسلم لم تخدره الأطماع أمام تضخم فاحش في الثروات يفرّق
الجماعة الإسلامية طبقات ، ويحطم الأسس التي جاء بها هذا الدين ليقيمها بين
الناس))([1]).
هكذا يتصور سيد عهد عثمان وخلافته ، ويصوّره هذه التصوير
المرعب الذي من جملة مساوئه في نظره أن الجماعة الإسلامية أصبحت طبقات ، وأن الأسس
التي جاء بها الإسلام قد تحطّمت .
لا نريد أن نناقشه ولا نشرح كلامه لأنه
واضح للقارئ الفطن المنصف ، فليفهمه.
ثم واصل سيد بذكر المبررات لصبر عليّ
على حياة الجوع والشظف ، ثم قال : ((ولقد كان منهاجه الذي شرعه هو ما قاله في خطبته
عقب البيعة له : أيها الناس إنما أنا رجلٌ منكم ، لي ما لكم ، وعليّ ما عليكم ،
وإني حاملكم على منهج نبيّكم ومنفِّذ فيكم ما أمرت به؛ ألا إن كل قطيعة أقطعها
عثمان وكل عطاء أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال؛ فإن الحق لا يبطله
شيء([2]) ، ( ولو وجدته قد تزّوج به النساء ، وملك به الإماء ، وفرّق في البلدان
لرددته؛ فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحقّ فالجورُ عليه أضيق([3]) )
.
أولاً : أن هذا الكلام لا يثبت عن علي ـ رضي الله عنه ، وبرّأه الله منه ـ
.
ثانيـًا : هل هذا هو منهج عليّ لا يدندن إلاّ حول المال ؟!
.
ثالثـًا : إقطاع الإمام للرعايا أمرٌ ثابت في شريعة الإسلام من تصرّفات
الرسول صلى الله عليه وسلم علياًوخلفائه الراشدين ، واتفق عليه فقهاء الإسلام؛
فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بئر قيس والشجرة وسأل علي رضي الله
عنه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأقطعه ينبع .
وأقطع عمر خمسة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن مسعود ، وخبّاب ،
وأسامة بن زيد ، والزبير؛ وأمر أبا موسى أن يقطع رجلاً أرضـًا بالعراق لا تضّر
بالمسلمين .
روى كلّ ذلك يحيى بن آدم في ((كتاب الخراج))([4]).
وروى
أبو يوسف في ((كتاب الخراج))([5])بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع
الزبير فيها أرضـًا يقال لها (الجرف) ، وأن عمر أقطع العقيق أجمع للناس ، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطعَ أبا بكر وعمر ، وأقطع بلال بن الحارث
المزني ما بين البحر والصخر .
وعن أبي رافع قال : أعطاهم النبي صلى الله
عليه وسلم أرضـًا ، فعجزوا عن عمارتها فباعوها في زمن عمر بثمانية آلاف أو
بثمانمائة ألف درهم .
وأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أقطع([6])عبد الله بن
مسعود في النهرين ، ولعمار استينيا ، وأقطع خبّابـًا صنعاء ، وسعد بن مالك قريةً
هرمزان .
وكان لعبد الله بن مسعود أرض خراج ، وكان لخبّاب أرض خراج ،
وللحسين أرض خراج .
وروى أبو عبيد في كتاب ((الأموال)) : أن النبي صلى الله
عليه وسلم أقطعَ عددًا من الصحابة أرضين؛ فأقطع رجلاً من الأنصار يسمّى سليطـًا ،
وأقطع الزبير أرضـًا بخيبر بها شجر ونخل ، وأقطع بلال بن الحارث المزني أقطعه
العقيق أجمع .
وأقطع فرات بن حيّان العجلي أرضـًا باليمامة .
وكتب
لأبي ثعلبة الخشني على أرض بأيدي الروم .
وكتب لتميم الداري على أرض بيت لحم
، ونفّذ ذلك له عمر لما استخلف وظهر على الشام ، قال أبو عبيد : ((فهي بأيدي أهل
بيته إلى اليوم)) .
وأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال الملح
بمأرب ، ثم استعادها منه ، ثم أقطعه ما يحمي من الأراك ما لم تنله أخفاف الإبل
.
وأقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله ، وردّ ذلك عمر .
وكتب عمر إلى
أبي موسى أن يقطع نافعـًا أبا عبد الله الثقفي أرضـًا على شاطئ دجلة ، وأن عثمان
أقطع خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم ذكرهم .
ثم مضى
أبو عبيد يشرح الأحاديث والآثار ، ويبيِّن مخارجها الفقهية .
وبعد : فهل
يصحُّ أن ينسب إلى أمير المؤمنين الخليفة الراشد العادل عليّ بن أبي طالب أن يرد
سنة ثابتة من سنن رسول الله وخلفائه شاهدهم يعملون بها ، وشاهد أبا بكر وعمر وهما
يقطعان القطائع من أراضي موات تنفع المسلمين ولا تضرهم ؟ .
وهل يصحّ أن
يركّز فقط على من أقطعهم عثمان بوجه شرعي وبناءً على منهج الرسول والخليفتين
الراشدين فيبتزّ منهم أموالهم التي تملّكوها بوجوه مشروعة في شريعة الإسلام ، لا
سيما والذين أقطعهم عثمان ليسوا من قرابته ؟ .
أيجوز لمسلم أن يقف على هذه
الصورة الحاقدة الشوهاء فينسبها إلى إمام نقيّ طاهر يبرزه في صورة المنتقم
المتشفِّي ؟ ، وممن ؟ ، من إمام طاهر نقيّ بريء ألا وهو عثمان الخليفة العادل
الراشد ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ .
([1]) ((العدالة)) ( ص : 175 ) ط ثانية عشرة
.
([2]) ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة
.
([3]) ما بين القوسين من ((شرح نهج البلاغة)) ( ص : 118 ) ، ولم أجد فيه
غير هذه القطعة ، و ((العدالة)) ( ص : 163 ) ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة
.
([4]) ( ص : 84 ـ 85 ) .
([5]) ( ص : 66 ـ 68===============
أقوال أئمة الإسلام في الإقطاع
والإحياء
|
|
قال أبو يوسف :
((فقد جاءت هذه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعَ أقوامـًا ، وأنّ الخلفاء
من بعده أقطعوا ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك إذا
كان فيه تألف على الإسلام وعمارة الأرض ، وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له
غناء في الإسلام ونكاية للعدو ، ورأوا أن الأفضلَ ما فعلوا ، ولولا ذلك لم يأتوه ،
ولم يقطعوا حقّ مسلم ولا معاهد)) .
وقال أبو يوسف : ((وكل من أقطعه الولاة
المهديون أرضـًا من أرض السواد وأرض العرب والجبال من الأصناف التي ذكرنا أنّ
للإمام أن يقطع منها فلا يحلّ لمن يأتي بعدهم من الخلفاء أن يرد ذلك ولا يخرجه من
يدي من هو في يده وارثـًا أو مشتريـًا؛ فأما إن أخذ الوالي من يد واحد أرضـًا
وأقطعها آخر فهذا بمنزلة الغاصب))([1]).
وقال أبو يوسف : ((وكل من فرّ عن
أرضه أو قتل في المعركة وكل مغيض ماء أو أجمة فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقطع من
هذه لمن أقطع)) .
وقال أبو يوسف : ((وذلك بمنزلة المال الذي لم يكن لأحد ولا
في يد وارث؛ فلإمام العادل أن يجيز منه ويعطي من كان له غناء في الإسلام ويضع ذلك
موضعه ولا يحابي به ، فكذلك هذه الأرض؛ فهذا سبيل القطائع عندي في أرض العراق
.
والذي صنع الحجاج ثم فعل عمر بن عبد العزيز فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ أخذ
ذلك بالسنة؛ لأن من أقطعه الولاة المهديون فليس لأحدٍ أن يردّ ذلك ، فأما من أخذ من
واحد وأقطع آخر فهذا بمنزلة مال غصبه واحد من واحد وأعطى واحدًا))([2]).
قال
أبو يوسف : ((وكل أرض من العراق والحجاز واليمن والطائف وأرض العرب وهي غير عامرة
وليست لأحدٍ ولا في يد أحدٍ ولا ملك أحد ولا وراثة ولا عليها أثر عمارة فأقطعها
الإمام رجلاً فعمرها فإن كانت في أرض الخراج أدّى عنها الذي أقطعها الخراج ،
والخراج ما افتتح عنوة مثل السواد وغيره ، وإن كانت من أرض العشر أدّى عنها الذي
أقطعها العشر ، وأرض العشر كل أرض أسلم عليها أهلها فهي أرض عشر وأرض الحجاز
والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب كلها أرض عشر؛ فكل أرض أقطعها الإمام مما فتحت
عنوة ففيها الخراج إلا أن يصيّرها الإمام عشرية ، وذلك إلى الإمام إذا أقطعَ أحدًا
أرضـًا من أرض الخراج ، فإن رأى أن يصيّر عليها عشرًا أو عشرًا ونصفـًا ، أو عشرين
أو أكثر أو خراجـًا فما رأى أن يحمل عليه أهلها فعل؛ وأرجو أن يكون ذلك موسعـًا
عليه ، فكيفما شاء من ذلك فعل ، إلاّ ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن
فإن هنالك لا يقع خراج ولا يسع الإمام ولا يحلُّ له أن يغيّر ذلك ولا يحوله عما جرى
عليه أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه؛ فقد بينتُ لك فخذ بأي القولين
أحببتَ ، واعمل بما ترى أنه أصلح للمسلمين وأعم نفعـًا لخاصتهم وعامتهم وأسلم لك في
دينك إن شاء الله تعالى))([3]).
وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في
((المغني))([4]): ((وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون بمنزلة المتحجر الشارع
في الإحياء)) ، ثم ساق الأدلة على ذلك .
وقال الإمام الشافعي في كتابه
((الأم))([5])بعد كلام له في إحياء الموات : ((وإذا أبان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنّ من أحيا أرضـًا مواتـًا فهي له ـ والموات : ما لا ملك فيه لأحد ـ خالصـًا
دون الناس ، فللسلطان أن يقطع من طلب مواتـًا ، فإذا أقطع كتب في كتابه : ولم أقطعه
حقّ مسلم ، ولا ضررًا عليه)) .
قال الشافعي : ((وخالفنا في هذا بعض الناس
فقال : ليس لأحدٍ أن يحمي مواتـًا إلا بإذن السلطان ، ورجع صاحبه إلى قولنا فقال :
وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت العطايا؛ فمن أحيا مواتـًا فهو له بعطيّة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس للسلطان أن يعطي إنسانـًا ما لا يحلّ للإنسان
أن يأخذه)) .
وقال الزرقاني في شرح حديث : ((من أحيا أرضـًا ميتة فهي له)) :
((بمجرّد الإحياء ، ولا يحتاج لإذن الإمام في البعيدة عن العمارة اتفاقـًا ، قال
مالك : معنى الحديث : في فيافي الأرض ، وما بعُد من العمران ، فإن قرب فلا يجوز
إحياؤه إلا بإذن الإمام)) .
وقال أشهب : ((وكثير من أصحابنا وغيرهم يحييها
من شاء بغير إذنه)) .
قال سحنون : ((وهو قول أحمد ، وداود ، وإسحاق))
.
والشافعي قائلاً : ((عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من أحيا
مواتـًا أثبت من عطية من بعده من سلطان وغيره ، واستحب أشهب إذنه لئلا يكون فيه ضرر
على أحد))([6]).
رابعـًا : إن سيد قطب نفسه قد قرّر في هذا الكتاب ((العدالة
الاجتماعية)) : أن إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها واحد من وسائل التملّك
الفردي ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده أقطعوا أناسـًا ، فقال :
((ثامنـًا : إقطاع السلطان بعض الأرض التي لا مالك لها مما آل إلى بيت مال المسلمين
من المشركين الذين لا ورثة لهم؛ فالإمام وليهم ، أو من أرض الموات لا مالك لها كذلك
.
وقد أقطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أرضـًا ، كما أقطع
الخلفاء من بعده مكافأة على جهد بارز وخدمة للإسلام ولكن في حدود ضيقة ومن الأرض
التي لا مالك لها والأرض الموات؛ فلما جاء بنوا أمية نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض
لذويهم؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة ، لا خلفاء راشدين كما سيجيء))([7]).
فهؤلاء
فقهاء الإسلام متفقون أن للإمام أن يقطع المسلمين من الأراضي الموات ما لا يضرّ
بالمسلمين .
وهذا سيد قطب نفسه يرى أن للإمام أن يقطع الأراضي التي لا مالك
لها فما باله لا يعترض على سلطان من السلاطين إلاّ على عثمان بن عفان ، ويستشهد
بالرواية الباطلة المنسوبة ظلمـًا وزورًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فهل
كان عثمان في نظر سيد من بني أمية الظلمة الذين قال عنهم : ((فلما جاء بنو أمية
نهبوا الناس ، وأقطعوا الأرض لذويهم([8])؛ فكانوا ملوكـًا ظلمة لا خلفاء
راشدين)).
لا شكّ أن سيد قطب لا يحمل هذه الحملات على عثمان ولا يستروح إلى
الروايات الباطلة التي تطعن فيه إلاّ من هذا المنطلق؛ وقد صرّح بأن خلافة عليّ كانت
امتدادًا طبيعيـًّا لعهد الخليفتين ، وأن عهد عثمان كان فجوةً؛ وهنا يريد إبطال
تصرّفاته وإبطال إقطاعاته .
خامسـًا : كيف يقول علي ـ رضي الله عنه ـ هذا
القول : ((ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في
بيت المال)) بهذا العموم والشمول ، فلماذا أجمع الصحابة على بيعة عثمان إذًا ؟ ،
ولماذا كان إمامـًا ؟ ، وكل عطاء أعطاه ، وكل قطيعة أقطعها طوال خلافته الطويلة
باطل ؟ .
ألا إنه كذب الروافض ، يتعلّق به سيد قطب ، لماذا ؟ ، لأنه طعن في
عثمان فحسب ، وإلاّ فإن مجرّد سماع هذا الهراء يكفي للحكم على بطلانه وأنه مفترى
على عليّ ـ رضي الله عنه ـ .
بقية الخطبة المفتراة على عليّ ـ رضي الله عنه
ـ :
((أيها الناس ... ألا لا يقولن رجال منكم غدًا ـ وقد غمرتكم الدنيا
فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار واتخذوا الوصائف([9])المرققة إذا منعتهم ما كانوا
يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا
.
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يرى أن الفضلَ له على سواه بصحبته فإن الفضلَ غدًا عند الله وثوابه وأجرُه على
الله .
ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله ، فصدّق ملتنا ، ودخلَ ديننا ،
واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده؛ فأنتم عباد الله ، والمالُ مالُ
الله يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضلَ لأحدٍ على أحد ، وللمتقين عند الله أحسنُ
الجزاء))([10]).
وهذه الخطبة تبرز لنا أناسـًا آخرين من المهاجرين والأنصار
قد امتلكوا العقار وفجّروا الأنهار .
ثم أقول : إن واضعَ هذه الخطبة مع
كذبِه فهو من أجهل الناس بتاريخ عليّ نفسه ـ رضي الله عنه ـ؛ كان الجهادُ في سبيل
الله والفتوحات الإسلامية في عهده قد توقّفت فلا غنائم ولا فيء؛ فما هي الأموالُ
التي يقسمها بين الأغنياء والفقراء والمهاجرين والأنصار وغيرهم ؟! .
إن
الفتن والحروب الداخلية ومشاكل الثوّار في داخل جيشِه قد فعلت بقوّة عليّ وشجاعته
وعدله كل الأفاعيل .
فلو فرضنا أنه كان يرى أن إقطاعات عثمان وعطاءه كان
باطلاً أكان يستطيع أن يستعيدَها ممن حازوا هذا العطاء خصوصـًا بني أمية الذين
قاتلهم وقاتلوه حتى كان النصر والظفر لهم في النهاية ؟ .
ثم أين هي البلدان
التي فتحت في عهد علي ؟ ، وكم كانت هذه المغانم التي يزعم مفتري الخطبة أن عليـًّا
سيقسمها بالسوية ؟!! .
إن هناك عقبات كئيدة وقفت في وجه عليّ ـ رضي الله عنه
ـ أخطرُها : تمرُّد جيشِه عليه من الثوار على عثمان والخوارج والغُلاة وغيرهم
.
فهل ترك هؤلاء له الفرصة ليَعِدَ مثل هذه الوعود ، فضلاً عن
تنفيذِها([11]).
ثم هل كان عليّ في عهد عثمان من الكادحين المحرومين فلا
يملك أرضـًا ولا يركب خيلاً ولا يملك وصيفة .
لقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ
من أغنياء الصحابة؛ فعنده العقار ، والمال ، والعبيد ، والإماء؛ وكان ممن يُفضَّل
في العطاء؛ وكلُّ ذلك مما أباحه الله له وللمؤمنين جميعـًا ، ولا حرجَ على أحدٍ
منهم في امتلاك ذلك ما دام يؤدِّي منه الحقوق .
قال سيد : ((ولقد كان من
الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن عليّ وألا يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل
، ومن مردوا على الاستئثار ، فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر ـ معسكر
أمية ـ ، حيث يجدون فيه تحقيقـًا لأطماعهم على حساب العدل والحق اللذين يصرُّ
عليهما علي ـ رضي الله عنه ـ هذا الإصرار))([12]).
نتسائل مَن هؤلاء
المستنفعون الذين لا يقنعون بشرعة المساواة والذين مردوا على الاستئثار فانحازوا في
النهاية إلى معسكر أمية ؟ .
إنهم آخرون غيرَ بني أمية .
إنهم أولئك
المهاجرون ، ومنهم : علي ، والأنصار ، وأبناؤهم ، ومَن شاركَهم من التابعين الذين
خاطبهم عليّ ـ رضي الله عنه ـ ممن غمرتهم الدنيا ، فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار
، ويرون لأنفسهم فضلاً على مَن سواهم؛ فيريد علي ـ رضي الله عنه ـ أن ينصف منهم
الكادحين المحرومين والمظلومين في نظر سيد قطب الذي تملّك المذهب الإشتراكي عقلَه
ومشاعره حتى صار لا يعرف الحقَّ من الباطل والكذب من الصدق ، يفرح بكلّ هراء ولغو
من القول يدعم به هذا المذهب .
ألا تعلم أنّ هؤلاء هم خيرُ القرون الذين شهد
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريّة ؟ ، ألا تعلم أنّ هؤلاء هم الذين فتحوا
الدنيا ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلّموا الناس العدل ؟
.
ألا تدرك أنّك بتصويرهم بهذه الصورة الشوهاء تؤكّد مطاعن أهل الرفض
والزندقة ومطاعن سائر أعداء الإسلام من اليهود والنصارى المبشرين والمستشرقين
والمستعمرين .
بأيّ تاريخ يعتزّ المسلمون ؟ ، وبأي الأمجاد يلهجون إذا كان
هذا هو واقع أسلافهم ؟؛ فكلُّ مواقفهم تابعة لأهوائهم وشهواتهم في نظر سيد قطب؛ فلا
ينصرون الحق ، ولا يفكّرون فيه ، ولا يبحثون عنه ؟؟! .
واصل سيد قطب طعنه في
بني أمية مستثنيـًا عهد عمر بن عبد العزيز .
ثم ذكر خطبتين مزعومتين لمعاوية
لا تليقُ بمن هو دونَه ، فكيف به .
وذكر خطبة للمنصور في زعمه .
ثم
قال : ((أما سياسة المال فكانت تبعـًا لسياسة الحكم وفرعـًا عن تصوّر الحكام لطبيعة
الحكم وطريقته ، ولحقّ الراعي والرعية؛ فأما في حياة محمد صلى الله عليه وسلم
وصاحبيه وخلافة عليّ بن أبي طالب فكانت النظرة السائدة هي النظرة الإسلامية ، وهي :
إن المال العام مال الجماعة ، ولا حقّ للحاكم بنفسه أو بقرابته أن يأخذ منه شيئـًا
إلا بحقِّه ، ولا أن يعطي أحدًا منه إلا بقدر ما يستحقُّ؛ شأنُه شأن الآخرين
.
وأما حين انحرف هذا التصوُّر قليلاً في عهد عثمان فقد بقيت للناس حقوقهم ،
وفهم الخليفة أنه في حلٍّ ـ وقد اتسع المال عن المقررات للناس ـ أن يطلق فيه يدَه
ببر أهله ومن يرى من غيرهم حسب تقديره .
وأما حين صار الحكم إلى الملك
العضوض فقد انهارت الحدود والقيود وأصبح الحاكم مطلق اليد في المنع والمنح بالحق في
أحيانٍ قليلة ، وبالباطل في سائر الأحيان ، واتسع مال المسلمين لترف الحكام
وأبنائهم وحاشيتهم ومملقيهم إلى غير حد ، وخرج الحكام بذلك نهائيـًّا من كل حدود
الإسلام في المال))([13]).
وفي هذا نظرات :
الأولى : أن الرجل قد وصف
عهد الرسول وصاحبيه وخلافة عليّ بأن النظرة السائدة فيها هي النظرة الإسلامية ...
إلخ ، أما عهد عثمان فبخلاف ذلك .
لكن الرجل استدرك على خلاف عادته ـ أو
استدرك له غيره من المشرفين على طبع الكتاب ـ القول الآتي : ((وأما حين انحرف هذا
التصور قليلاً في عهد عثمان ...)) إلخ لامتصاص غضب من قد يغضب لعثمان ـ رضي الله
عنه ـ .
ولكن هيهات أن تنطلي هذه الحيلة على مَن سبرَ غور سيد وغور هذا
الكتاب وشاهد الحملات الكثيرة فيه على الخليفة الشهيد المظلوم ـ رضي الله عنه ـ من
سيد قطب ، والتي منها :
((هذا التصوّر لحقيقة الحكم قد تغيّر شيئـًا ما دون
شكّ على عهد عثمان وإن بقيَ في سياج الإسلام فقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخٌ كبير
ومِن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام))
.
فهذه الحملة على ما فيها من إقدام وإحجام تبيّن أن سيد قطب يعتقد أنّ
الأمرَ قد انحرف كثيرًا في عهد عثمان .
وقوله بعد أن ساق رواية كاذبة
مضمومنها : أنه أعطى زوج ابنته مائتي ألف فبكى من ذلك زيد بن أرقم الذي يستشعر روح
الإسلام المرهف ، فغضب عثمان على الرجل الذي لا يطيقُ ضميره هذا التوسعة من مال
المسلمين على أقارب خليفة المسلمين ، وقال له : ((ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنا
سنجد غيرَك)) .
قال : ((والأمثلة كثيرة على هذه التوسعات)) ، ثم ذكر منحـًا
كبيرة للزبير وطلحة ومروان .
ثم يقول : ((وغير المال كانت الولايات تغدق على
الولاة من قرابة عثمان ، وفيهم معاوية الذي وسع عليه في الملك فضم إليه فلسطين وحمص
، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، ومهّد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة علي
وقد جمع المال والأجناد وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي آواه عثمان ، وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصّرف ، وفيهم عبد الله بن
أبي سرح أخوه من الرضاعة([14]).
ويقول : ((ولقد كان الصحابة يرون هذا
الانحراف عن روح الإسلام فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ الإسلام وإنقاذ الخليفة من
المحنة والخليفة في كبرته وهرمه لا يملك أمره من مروان))([15]).
ويقول :
((مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلّف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في
الأرض ، وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من
إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع))([16]).
ويقول
: ((ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ امتدادًا طبيعيـًّا لخلافة
الشيخين قبلَه ، وأن عهد عثمان الذي تحكم فيه مروان كان فجوةً
بينهما))([17]).
فبالله هل الذي ينظر إلى عثمان هذه النظرة الحانقة ويحمل
عليه هذه الحملات الشعواء وغيرها بما تحمل من قسوة وعنف ويصدق فيه الأقاويل الباطلة
يقبل منه تلطيف العبارات أحيانـًا لا سيّما وهو لا يزال يدير رحى الحرب على عثمان
وغيره مواصلاً حملاته التي لم تكتف بإسقاط خلافة عثمان في غمارها؛ بل استمرّ يكيل
له الضربات ولغيره إلى الحدِّ الذي يشفي غليل الروافض والباطنية وسائر أعداء
الإسلام .
الثانية : انظر كيف انتهى كلامه على بني أمية إلى قوله : ((...
وخرج الحكّام بذلك نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال)) .
إن سيد قطب
إمامُ التكفير في هذا العصر وحامل رايته ، فهل يا ترى إذا خرج حكّام بني أمية
نهائيـًّا من كل حدود الإسلام في المال هل يبقون في دائرة الإسلام أو لا ؟ . ننتظر
الإجابة !! .
([1]) ((كتاب
الخراج)) ( ص : 66 ) .
([2]) ((كتاب الخراج)) ( ص : 63 ) .
([3])
((كتاب الخراج)) ( ص : 65 ) .
([4]) ( 8/153 فما بعدها ) .
([5]) (
4/46 ) ، وانظر ((السنن الكبرى)) للبيهقي : ( 6/148 ـ 149 ، باب من أقطع قطيعة
أو تحجر أرضـًا فلم يعمرها ) ، وانظر : ((المعرفة)) للبيهقي أيضـًا : ( 9/11 ـ
20 ، باب إقطاع الموات وإحياؤه ، وباب الحمى ) .
([6]) ((شرح الزرقاني
للموطأ)) : ( 4/29 ) .
([7]) ((العدالة الاجتماعية)) ( ص : 98 )
.
([8]) في قوله هذا نظرٌ قوي يحتاج للأدلة الواضحة .
([9]) الوصائف
: جمع وصيفة ، وهي الأَمَة ، والعبد وصيف .
([10]) ((العدالة)) ( ص : 163 )
ط ثانية عشرة ، و ( ص : 193 ) ط خامسة .
([11]) إن مما يؤكد كذب هذه الخطبة
التي تزعم أنّ عليـًّا وعد بردّ عطايا عثمان : أن عثمان كان قد أقطع طلحة أرضـًا
بالعراق تسمى (النشاستج) . ذكر ذلك ابن شبّة في ((تاريخه)) ( ج 3 ، ص : 239 )
.
وذكر ابن سعد في ((طبقاته)) ( ج 3 ، ص : 224 ) : ((أن عمران بن طلحة دخل
على عليّ ـ رضي الله عنه ـ فأكرمَه وأجلسه على طنفسة ، ثم قال له : أما إنا لم نقبض
أرضكم هذه السنين ونحن نريد أن نأخذها ، إنما أخذناها مخافةَ أن ينتهبها الناس . يا
فلان اذهب معه إلى ابن قرظة فمُره ليدفع إليه أرضه وغلة هذه السنين ، يا ابن أخي
وأْتنا في الحاجة إذا كانت لك))
|
|
========
زعم سيد أن مذهب أبي بكر التسوية في قسمة
المال
|
|
تحدث سيد عن
سياسة المال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ
، وذكر :
أن مذهب أبي بكر التسوية في قسم المال بين السابقين الأولين
والمتأخرين في الإسلام وبين الأحرار والموالي وبين الذكور
والإناث([1]).
ورأي عمر مع جماعة من الصحابة أن يقدم أهل السبق في الإسلام
على قدر منازلهم ، فقال أبو بكر : أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما
أعرفني بذلك ، وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه ، وهذا معاش فالأسوة فيه خير
من الأثرة))([2]).
ثم قال([3]) : ((هما رأيان إذًا في تقسيم المال : رأي أبي
بكر ، ورأي عمر ، وقد كان لرأي عمر ـ رضي الله عنه ـ سنده : لا أجعل من قاتل رسول
الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ، و ... فالرجل وبلاؤه في الإسلام ...
.
وهو التعادل بين الجهد والجزاء .
وكان لرأي أبي بكر ـ رضي الله عنه
ـ سندُه كذلك : إنما أسلموا لله ، وعليه أجرُهم يوفيهم ذلك يوم القيامة ، وإنما هذه
الدنيا بلاغ .
ولكننا لا نتردد في اختيار رأي أبي بكر؛ إذ كان أقمن أن يحقق
المساواة بين المسلمين ـ وهي أصل كبير من أصول هذا الدين ـ ، وأحرى ألا ينتج
النتائج الخطرة التي نشأت عن هذا التفاوت من تضخّم ثروات فريق من الناس وتزايد هذا
التضخم عامـًا بعد عام بالاستثمار؛ والمعروف اقتصاديـًّا أن زيادة الربح تتناسب إلى
حدٍّ بعيد مع زيادة رأس المال .
هذه النتائج التي رآها عمر في آخر أيام
حياته فآلى لئن جاء عليه العام ليسوينّ في الأعطيات ، وقال قولته المشهورة : لو
استقبلت من أمري ما استدبرتُ لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء
.
ولكن وا أسفاه لقد فات الأوان ، وسبقت الأيام
عمر))([4]).
التعليق
أولاً : يجب الانتباه إلى أن سيد قطب إنما اختار
ما يزعمه أنه هو رأي أبي بكر وما يزعم أنه رجع إليه عمر في آخر حياته؛ لأنه ـ كما
يزعم ـ أقمن أن يحقق المساواة وأحرى أن لا ينتج النتائج الخطرة التي نشأت عن هذا
التفاوت من تضخّم ثروات فريقٍ من الناس ... إلخ .
إن المساواة الحقيقية
والواقعية والمساواة الشريفة العادلة موجودة على أحسن صورة في الإسلام في كثير من
المجالات : في القصاص ، والديات ، والحدود ، والإرث ، والعبادات ، وكثير من الحقوق
والواجبات .
إلا بعض الفروق التي تقتضيها حكمة الله بين الذكور والإناث ،
والأحرار والعبيد ، والمسلمين والكفّار؛ وتفاصيل ذلك معروفة لدى علماء
الإسلام([5])وفي دواوينه.
لكن المساواة التي يقررها سيد قطب شيء آخر ، إنها
شعارات جوفاء كان يرددها في عهده الشيوعيون والاشتراكيون المنتسبون إلى الإسلام
الذين تأثروا بالفكر الشيوعي في الاقتصاد .
فشرعوا يفسّرون نصوص القرآن
والسنة وقواعد الشريعة تحت شعار الاشتراكية الإسلامية بما يوافق الشيوعية في
مزاعمها من المساواة المطلقة ووجوب التوازن والتعادل والتأميم ومحاربة الترف
والتضخّم المالي إلى آخر الشعارات التي مؤدّاها فرض عبودية عامّة على الشعوب
ليصبحوا عبيدًا للحزب الحاكم بعد مساواة الأغنياء بالمعدَمين في الفقر والذل تحت
سيطرة الحزب المتحكم المستبد .
قد تأخذ العاطفة العمياء بعض المعجبين بسيد
قطب وبمنهجه ومؤلفاته ، ولكن المسلم المتجرّد من الأهواء وتقديس الأشخاص سيدرك
فداحة ما يقرّره سيد باسم الإسلام سواء في المجالات العقائدية أو السياسية أو
الاقتصادية
|
|
==================
|
لقد قرر
اشتراكية مدمّرة في عددٍ من كتبه ، مثل : ((العدالة الاجتماعية)) ، و ((الظلال)) ،
و ((دعوة الإخوان المسلمين)) ، و ((معركة الإسلام والرأسمالية)) .
وحسبُنا
أن ننقل عنه ما قرّره في كتابه : ((معركة الإسلام والرأسمالية))([1])ليعرف حقيقة
فقه سيد قطب للإسلام عقيدةً وشريعة .
قال : ((سوء توزيع الملكيات
والثروات([2])لم يعد أحد يجادل في أنّ توزيع الملكيات الزراعية في المجتمع المصري
توزيع سيء مختل يجب العمل على تعديله فورًا.
وليس الاختلاف اليوم على صحة
هذه الحقيقة ، وإنما الاختلاف على الطريقة التي يعالج بها وضع لا يقبل البقاء ، ثم
شرع يقرر باسم الإسلام طرق العلاج وهي غير إسلامية قطعـًا)) .
إلى أن قال :
((وفي يد الدولة أن تنزع من الملكيات ، وأن تأخذ من الثروات ـ بنسب معيّنة ـ كلّ ما
تجده ضروريـًّا لتعديل أوضاع المجتمع من الآفات آفات الجهل ، وآفات المرض ، وآفات
الحرمان ، وآفات الترف ، وآفاد الأحقاد بين الأفراد والجماعات ، وسائر ما تتعرض له
المجتمعات من آفات .
بل في يد الدولة أن تنزع الملكيات والثروات جميعـًا ،
وتعيد توزيعها على أساس جديد ، ولو كانت هذه الملكيّات قد قامت على الأسس التي
يعترف بها الإسلام ، ونمت بالوسائل التي يبررها؛ لأن دفع الضرر عن المجتمع كله أو
اتقاء الأضرار المتوقعة لهذا المجتمع أولى بالرعاية من حقوق الأفراد؛ فنظرية
الإسلام في التكافل الاجتماعي لا تجعل هناك تعارضـًا بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع
.
وكل ضرر يصيب المجتمع يعدّه الإسلام ضررًا يقع على كل أفراده ، ويحتم على
الدولة أن تقي هؤلاء الأفراد من أنفسهم عند اقتضاء)) .
قدمتُ هذا النموذج من
منهج سيد قطب الاشتراكي الغالي المدمر المستمد من ماركس وهيجل وغيرهما من
الاشتراكيين ليتبيّن المسلم مدى ما يرتكبه قادة الحركات الحزبية المعاصرة من ظلم
للإسلام وانتهاك لمبادئه وأسسه بل تحطيمها واستيراد مبادئ كافرة ثم إلصاقها
بالإسلام .
وليتبين أن تعلق الاشتراكيين ومنهم سيد قطب بأبي بكر وعمر وعلي
وأبي ذر تعلٌّقٌ باطل يتجاوز أقصى حدود الخداع والتلاعب بالعقول والعواطف
.
وحتى تلك الروايات الضعيفة والباطلة التي نسبت ظلمـًا إلى هؤلاء الصحابة
الكرام بعيدة كل البعد عن هذه المناهج الاشتراكية الكافرة ، بل المسافة بينهما أبعد
مما بين المشرقين .
أولاً : حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية
والشيوعية في الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ، أما بعد:
فقد ورد الي سؤال من بعض الاخوة الباكستانيين هذا ملخصة:
ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية ، ويحاربون حكم
الاسلام ، وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب ، ويذمون من يطالب بحكم الإسلام ،
ويلمزونهم ويفترون عليهم ، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء ئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟
والجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
واصحابه ومن اهتدى بهداه.
لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن
يحكموا الشريعة الاسلامية في جميع شؤونهم ، وأن يحاربوا ما خالفها ، وهذا امر مجمع
عليه بين علماء الإسلام ، ليس فيه نزاع بحمد الله ، والأدلة عليه من الكتاب والسنة
كثيرة معلومة عند أهل العلم ، منها:
قوله سبحانه {فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}([3])
وقوله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}([4]) .
وقوله سبحانه: {وما اختلفتم فيه من شيء
فحكمه إلى الله } ([5])
وقوله سبحانه: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من
الله حكما لقوم يوقنون}([6])
وقوله سبحانه: {ومن لم يحكم بما انزل الله
فاولئك هم الكافرون}([7])
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الظالمون}([8]) .
{ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون}([9])
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن
حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو أن هدي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن
من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز
لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها ، فهو كافر
ضال.
وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره
أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة
لحكم الإسلام كفار ضلال أكفر من اليهود والنصارى ، لأنهم ملاحدة ، لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر ، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبا وإماما في مسجد من مساجد
المسلمين ، ولا تصح الصلاة خلفهم ، وكل من ساعدهم على ضلالهم وحسَّن ما يدعون إليه
وذم دعاة الإسلام ولمزهم ، فهو كافر ضال ، حكمه حكم الطائفة الملحدة ، التي سار في
ركابها وأيدها في طلبها ، وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على
المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة ، فهو كافر مثلهم ، كما قال الله
سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}([10]) .
وقال
تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر
على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون }([11]) .
وأرجو أن يكون
فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، ونسأله
سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ، ويجمع كلمتهم على الحق ، وأن يكبت اعداء الإسلام ،
ويفرق جمعهم ، ويشتت شملهم ، ويكفي المسلمين شرهم ، إنه على كل شيء قدير ، وصلى
الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
ثانيـًا : هذا التعليل
الذي علل به سيد قطب لا يعرفه أبو بكر ولا عمر ، ولا يعرفه المسلمون ، وإنما هو
تعليل الشيوعيين والاشتراكيين لابتزاز أموال الناس ومصادرتها وتأميمِها لتؤول في
النهاية إلى أيدي الحكّام والأحزاب المستبدة ولتصبح الشعوب جميعـًا فقراء أذلاّء
مستعبدين .
وقد وقع ذلك بالفعل ، وفضح الله نوايا هذه الأحزاب ، وفضح الله
هذه الأنظمة الإشتراكية ، فتهاوت روسيا سادنة الإلحاد والاشتراكية ، وتهاوت
يوغوسلافيا ، ومزّقها الله شر ممزّق نتيجة لكفرهما ولاشتراكيتهما المصادمة للفطر
والعقول والشرائع .
ثالثـًا : يقرر سيد قطب هذه الاشتراكية الخطيرة في كتابه
((العدالة)) وغيره([12])تحت شعار (المساواة في الإسلام) و (التوازن في الإسلام) ،
والإسلامُ منها برئ؛ لأن ذلك ينافي سنن الله في الكون ، ويخالف حكمته في خلقه ، قال
تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتَهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوقَ بعض درجات
ليتخذ بعضهم بعضـًا سخريـًّا ورحمةُ ربك خيرٌ مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] ،
وقال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما
آتاكم } [ الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى : { كُلاَّ نُمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء
ربك وما كان عطاء ربك محظورًا } [ الإسراء : 20
] ، وقال تعالى : { له مقاليد السموات والأرض
يبسط الرزقَ لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم } [ الشورى : 12 ]
.
وما عرفت هذه المساواة المزعومة الظالمة والتوزان الاشتراكي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما سبق من حكمة الله في خلقه ، ولا عرفت عن أبي بكر ، وعمر ،
وعثمان ، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ .
رابعـًا : ما نسب إلى أبي بكر من التسوية
في العطاء الرواية به ضعيفة؛ فقد روى أبو يوسف في ((كتاب الخراج))([13])قال :
وحدثني ابن أبي نجيح قال : قدم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ مال ، فقال : مَن كان
له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليأت؛ فجاء جابر بن عبد الله ، فقال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا))
.
وفيه : أنه قسم بالسوية بين الصغير والكبير ، والحر والمملوك ، والذكر
والأنثى؛ فخرج على سبعة دراهم سبعة دراهم؛ فلما كان العام المقبل جاء مالٌ كثير ،
وهو أكثر من ذلك ، فقسمه بين الناس ، فأصاب كل إنسان عشرين درهمـًا .
ورواه
البيهقي([14])من طريق زيد بن حباب : حدثني أبو معشر قال : حدثني عمر مولى
غفرة([15])وغيره قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء مالٌ من البحرين
... فساقه مطوّلاً ، وفيه : قسمة عمر ـ رضي الله عنه ـ ، وتفضيله فيها على حسب
السوابق وعلى حسب القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي كلٍّ من
روايتي أبي يوسف والبيهقي إرسال .
والظاهر : أن مدار الروايتين على أبي معشر
نجيح بن عبد الرحمن السندي وهو ضعيف؛ قال الإمام أحمد : ((أضعفهم عنه حديثـًا أبو
معشر)) ، وقال : ((ضعيف)) ، وقال : ((صدوق ، لكنه لا يقيم
الإسناد))([16]).
وقال الحافظ ابن حجر في ((التقريب)) : ((ضعيف ، من السادسة
، أسنّ واختلط ، مات سنة سبعين ومائة)) .
ومما يؤكد أن مدار الروايتين على
أبي معشر أمران :
أولهما : أنه من شيوخ أبي يوسف ـ رحمه الله ـ كما ذكر ذلك
الإمام المزي في ((تهذيب الكمال))([17]) ، ولم يذكر أحدٌ ممن ترجم لأبي يوسف أن ابن
أبي نجيح ـ وهو عبد الله ـ من شيوخه ، ولم يذكر أحدٌ ممن ترجم لابن أبي نجيح أن أبا
يوسف ممن أخذ عنه .
ثانيهما : أن أبا معشر ـ وإن كان مدنيـًّا ـ فإن الخلفية
المهدي العبّاسي أشخصه إلى بغداد سنة 161ه ، فبقي بها إلى أن مات سنة سبعين
ومائة([18]) ، أما ابن أبي نجيح فمات سنة 131ه بالمدينة ، وأبو يوسف آنذاك صغير
عمرُه حوالي خمس عشرة سنة ، ولم يكن قد رحل ولم يذكر أحد في حدود علمي أن ابن أبي
نجيح دخل العراق.
وإذًا : ففي هذه الرواية علتان :
1 ـ إحداهما : ضعف
أبي معشر .
2 ـ أن في إسنادها إرسالاً وضعفـًا؛ إذ عمر بن عبد الله مولى
غفرة : ضعيف ، كثير الإرسال([19]) ، وهو لم يدرك أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ
.
وإذا كان هذا هو حال هذه الرواية عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فلا يجوز
الاعتماد عليها .
والأدهى والأمرّ أن تكون من مستندات الطعن في الخليفة
الراشد عثمان ـ رضي الله عنه ـ وفي سائر الصحابة في عهده ، بل ومعظم التابعين وقريش
وبني أمية بصفة أخص .
خامسـًا : مع ضعف هذه الرواية فهي خاصّة بقسمة الفيء
فقط على أهل المدينة فقط لا على جميع المسلمين ولا في جميع الميادين .
وهي
دارهم قليلة في المرتين في الأولى كانت القسمة على سبعة دراهم ، والثانية على
عشرين؛ ومثل هذا لا تحصل فيه مشاحة .
ولو جاءت الأموال الكثيرة لربما غيّر
أبو بكر رأيه؛ كل هذا من باب التنزل جدلاً ، وعلى فرض ثبوت هذه الرواية وقد عرفت
ضعفها .
سادسـًا : أن ما نسب إليه ـ رضي الله عنه ـ مستبعد جدًّا؛ لأنه كان
أشد الناس اتباعـًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأشدّ الناس خوفـًا من مخالفته؛
ورسول الله ما كان يسوي في قسمة الفيء ، بل كان يراعي مصلحة الدعوة فيحصل بهذا
السبب التفاوت ، بل أحيانـًا التفاوت الكبير؛ ومن الأمثلة على شدّة متابعة أبي بكر
لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته
نصيبَها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى عليها ذلك ، وقال : لستُ
تاركـًا شيئـًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملُ به إلا عملت به ، فإني أخشى
إن تركتُ شيئـًا من أمره أن أزيغ([20]).
فكيف تقبل رواية ضعيفة في رجل
صِدِّيق هذا حاله ومقاله .
تفضيل أبي بكر في العطاء
سابعـًا : أنه
قد ورد عنه التفضيل : فقد ذكر ابن كثير في ((البداية والنهاية))([21])أن أبا بكر ـ
رضي الله عنه ـ نفل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - سلب كسرى وكانت قلنسوته بمائة
ألف وكانت مرصّعة بالجوهر .
وهذه الرواية وإن لم نعرف إسنادها فإنها أولى
بالتصديق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفضل ، وكان ينفل السلب ، وكان
ينفل بعض السرايا من الجيش الثلث بعد الخمس والربع بعد الخمس تشجيعـًا على الجهاد ،
ومراعاة لمصلحة الدعوة الإسلامية؛ وهذا هو العدل والحكمة والفقه .
ثامنـًا :
أن أبا بكر لم يأخذ فضول أموال الأغنياء ولم يعزم على ذلك ، فلماذا لم يحاسبه سيد
على ذلك كما حاسب عثمان حسابـًا شديدًا . إن منهجه يقتضي محاسبة أبي بكر فما هو
السرّ في اختلاف المكاييل والموازيين لدى سيد قطب .
ثم قد عرفت أن هذا لم
يثبت عن عمر ولم ينسب إلى أبي بكر مجرّد نسبة([22])؛ لأن هذا السلب والنهب لا يوجد
إلاّ في شريعة الاشتراكيين والشيوعيين نزّه الله عنه الإسلام وخلفاء الرسول صلى
الله عليه وسلم وأئمة الإسلام .
تاسعـًا : للإجهاز على الدعاوي الباطلة
والمغالطات الكبيرة التي يرتكبها الاشتراكيون لا بدّ من سوق بعض الأدلة من تصرفات
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل العادلين وسيد الأنبياء والمرسلين ، على أنه كان
يفاوت في العطاء ، ويؤثر أناسـًا على أناس ، ويخصّ أناسـًا دون أناس بحسب المصلحة
العليا للإسلام وبحسب ما يراه من الترغيب في الإسلام وتذليل العقبات في طريق دعوته
العظيمة .
وقد يحصل اعتراض أحيانـًا ممن لا علم له أو ممن ضعف دينه ومرض
قلبه .
عن أبي وائل عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : لما كان يوم حنين
آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسـًا في القسمة ، فأعطى الأقرعَ بن حابس مائة من
الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى أناسـًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذٍ في
القسمة . قال رجلٌ : والله إن هذه لقسمةٌ ما عدل فيها ، وما أُريد بها وجهُ الله ،
فقلت : والله لأخبرنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيتُه فأخبرتُه فقال : ((فمن
يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ ، رحم الله موسى قد أوذيَ بأكثرَ من هذا
فصبر))([23]).
فهذا عطاء سخيٌّ فيه إيثارٌ لأناس على أناس هو في نظرِ ذي
الخويصرة وأمثاله ظلمٌ شديد مجاف للعدل ، لكنه في ميزان الله ورسوله والمؤمنين عدل
حق العدل وحكمة عظيمة لها آثارُها البعيدة في خدمة الإسلام ونصرته وانتشاره في أرض
الله وامتداده نتيجة لتلك التصرّفات القائمة على العدل والحكمة .
عن أنس بن
مالك أن أناسـًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء ، فطفق يعطي رجالاً من قريش
المائة من الإبل ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشـًا ويدعنا وسيوفنا تقطر
من دمائهم ، قال أنس : فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم ، فأرسل إلى
الأنصار فجمعهم في قبة أدم ولم يدع معهم أحدًا غيرهم ، فلما اجتمعوا جاءهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : ((ما كان حديث بلغني عنكم ؟)) ، قال له فقهاؤهم :
فأما ذوو آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئـًا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم
فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشـًا ويترك الأنصار
وسيوفُنا تقطر من دمائهم ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني لأعطي
رجالاً حديث عهدهم بكفر؛ أما ترضون أن يذهب الناسُ بالأموال وترجعوا إلى رحالكم
برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؛ فوالله ما تنقلبون به خيرٌ مما ينقلبون به)) ،
قالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا ، فقال لهم : ((إنكم سترون بعدي أثرة شديدة ،
فاصبروا حتى تلقوا الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم على الحوض)) ، قال أنس : فلم
نصبر([24]).
وهذا العطاء فيه إيثار لأناسٍ بأموال طائلة ، ويقال فيه ما قيل
في العطاء قبله .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لي : ((لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا
وهكذا)) ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءنا مالُ البحرين قال أبو بكر
: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليأتني ، فأتيتُه فقلت : إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان قال لي : ((لو قد جاء مال البحرين لأعطيتك
هكذا وهكذا وهكذا)) ، فقال لي : أحثه فحيث حثية فقال لي : عدها ، فعددتها ، فإذا هي
خمسمائة ، فأعطاني ألفـًا وخمسمائة([25]).
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ : أتي
النبي صلى الله بمال من البحرين فقال : ((انثروه في المسجد)) ، فكان أكثر مالٍ أتي
به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله أعطني ،
فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً ، فقال : ((خذ)) ، فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله فلم
يستطع ، فقال : فمر بعضهم يرفعه إليّ ، قال : ((لا)) ، قال : فارفعه أنت عليّ ، قال
: ((لا)) ، فنثر منه ، ثم ذهب يقلّه فلم يرفعه ، فقال : فمر بعضهم يرفعه عليّ ، قال
: ((لا)) ، قال : فارفعه أنت عليّ ، قال : ((لا)) ، فنثر منه ثم احتمله على كاهله
ثم انطلق ، فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبـًا من حرصه؛ فما قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم وثمَّ منها درهم([26]).
وعن عمرو بن تغلب ـ رضي الله عنه
ـ قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومـًا ومنع آخرين ، فكأنهم عتبوا عليه
، فقال : ((إني أعطي قومـًا أخاف ظلعهم([27])وجزعهم ، وأكل أقوامـًا إلى ما جعل
الله في قلوبهم من الخير والغنى ، منهم عمرو بن تغلب)) ، فقال عمرو بن تغلب : ما
أحبّ أنّ لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم .
وفي لفظٍ:أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو بسبي ، فقسمه([28]). بهذا.
وعن
سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطـًا
وسعدٌ جالس ، فترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إليَّ ، فقلت :
يا رسول الله مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنـًا ، فقال : ((أو مسلمـًا)) ،
فسكت قليلاً ، ثم غلبي ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت : مالك عن فلان فوالله إني
لأراه مؤمنـًا ، فقال : ((أو مسلمـًا)) ، فسكت قليلاً ، فغلبني ما أعلم منه فعدت
لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ((يا سعد إني لأعطي الرجل
وغيره أحبّ إليّ منه خشيةَ أن يكبّه الله في النار))([29]).
وعن أنس ـ رضي
الله عنه ـ قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطعهم البحرين
فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : ((إما لا فاصبروا حتى
تلقوني؛ فإنه سيصيبكم بعدي أثرة))([30]).
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ :
أن رسول الله صلى الله عليه بعث سريّة فيها عبد الله بن عمر قِبل نجد ، فغنموا
إبلاً كثيرة ، فكانت سهمانهم اثنى عشرة بعيرًا ، ونفلوا بعيرًا
بعيرًا([31]).
وعنه ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصّة سوى قسم عامة الجيش([32]).
وعن
حبيب بن مسلمة الفهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفِّل الربع بعد الخمس
والثلث بعد الخمس إذا قفل .
وعن مكحول : سمعتُ حبيبَ بن مسلمة الفهري يقول :
شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في
الرجعة([33]).
قال الخطابي : ((والبدأة إنما هي ابتداء سفر الغزو إذا نهضت
سرية من جملة العسكر فأوقعت بطائفة العدو ، فما غنموا كان لهم منه الربع ، ويشركهم
سائر العسكر في ثلاثة أرباعه ، فإن قفلوا من الغزاة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية
كان لهم مما غنموا الثلث؛ لأن نهوضهم بعد القفل أشقُّ والخطرُ فيه
أعظم([34]).
وأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل السفينة من مهاجرة
الحبشة جعفر وأصحابه وهم لم يشاركوا في القتال والفتح ، ولم يعط لأحد غاب عن فتح
خبير شيئـًا([35]).
فهذه الأحاديث الشريفة وغيرها تبيِّن سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم في الإيثار والحرمان على حسب المصلحة للإسلام والمسلمين ومراعاة حال
أقوام وضعفهم في الإيمان خشية أن يكبّهم الله في النار وأنه يكل أقوامـًا إلى ما في
نفوسهم من الخير والغنى . وهذه التصرفات التصرفات كلها في الخمس .
أما أصل
المغانم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوِّي بين المقاتلين الذين شهدوا
المعارك ، فيعطي للرجل سهمـًا ، وللفرس سهمين بعد إخراج الخمس ، وقد يتصرّف
أحيانـًا في هذا كما أشرك أهل السفينة في مغانم خيبر ولم يعط سواهم ممن غاب ، وقد
يحصل تفضيل لبعض الناس بإعطائه سلب قتيله ، وقد يفضل بعض السرايا بتنفيلهم الربع
بعد الخمس في الذهاب إلى الجهاد والثلث عند الأوبة منه .
وما يعتقد مسلمٌ أن
أبا بكر يخرجُ عن هذا الهدي النبوي السمح الحكيم .
وما يعتقد مسلم أنه
يسوِّي بين الأحرار والعبيد ، والذكور والإناث وقد فاوت الله بين درجاتهم ، ومضى
على هذا السنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يرضخ لمن حضر المعارك من النساء والعبيد رضخـًا ، كما قال ابن عباس لنجدة : ((إنك
كتبت إليّ تسأل عن المرأة والعبد يحضران المغنم هل يقسم لهما شيء ، وإنه ليس لهما
شيء إلاّ أن يحذيا([36]).
وعند أبي داود([37]): ((قد كن يحضرن الحرب مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأما أن يضرب لهن بسهم فلا ، وقد كان يرضخ لهن
.
وقريبٌ من هذا اللفظ في ((مسلم)) أيضـًا .
وعلى هذا الأدلة الصحيحة
اعتمد أكثر فقهاء الإسلام فذهبوا إلى أن النساء والعبيد لا يسهم لهم ، وإنما يرضخ
لهم ، وخالف الأوزاعي فقال : يسهم للنساء ، وعمدته حديث ضعيف لا تقومُ به الحجة .
من كلام الخطّابي تعليقـًا على أحاديث أبي داود([38]).
وكذلك الجزية وهي من
حقوق الإسلام والمسلمين على أهل الذمة ، فلا تكون على النساء ولا على الصبيان
.
فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه
إلى اليمن قال : خذ من كل حالم دينارًا . أخرجه أصحاب السنن ، وصححه الترمذي
والحاكم .
واختلف السلف في أخذها من الصبي : فالجمهور على مفهوم حديث معاذ ،
وكذا لا تؤخذ من شيخ فانٍ ، ولا زمِن ، ولا امرأة ، ولا مجنون ، ولا عاجز عن الكسب
، ولا أجير ، ولا من أصحاب الصوامع والديارات؛ والأصحُّ عند الشافعية الوجوب على من
ذكر آخرًا([39]).
وقال الموفق ابن قدامة([40]): ((فصل : واختلف الخلفاء
الراشدون - رضي الله عنهم - في قسم الفيء بين أهله؛ فذهب أبو بكر الصديق - رضي الله
عنه - إلى التسوية([41])بينهم فيه ، وهو المشهور عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ؛ روى أن
أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ سوّى بين الناس في العطاء وأدخل فيه العبيد ، فقال له عمر
: يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا
ديارهم له كمن دخلوا في الإسلام كرهـًا ؟ ، فقال أبو بكر : إنما عملوا لله ، وإنما
أجورهم على الله ، وإنما الدنيا بلاغ .
فلما ولي عمر ـ رضي الله عنه ـ فاضلَ
بينهم ، وأخرج العبيد .
فلما ولي علي ـ رضي الله عنه ـ سوّى بينهم وأخرج
العبيد .
وذكر عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه فضّل بينهم في القسمة
.
فعلى هذا يكون مذهب اثنين منهم ـ أبي بكر ، وعلي ـ التسوية؛ ومذهب اثنين ـ
عمر ، وعثمان ـ التفضيل .
وروى عن أحمد ـ رحمة الله عليه ـ أنه أجاز الأمرين
جميعـًا على ما يراه الإمام يؤدِّي اجتهادُه إليه؛ فروى عنه الحسن بن علي بن الحسن
أنه قال : للإمام أن يفضل قومـًا على قوم .
وقال أبو بكر اخيتار أبي عبد
الله أن لا يفضلوا .
وهذا اختيار الشافعي .
وقال أبي : رأيت قسم الله
المواريث على العدد يكون الإخوة متفاضلين في الغنى عن الميت ، والصلة في الحياة ،
والحفظ بعد الموت فلا يفضلون ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأربعة
الأخماس على العدد ، ومنهم من يغني غاية الغنى ، ويكون الفتح على يديه ، ومنهم من
يكون محضره إما غير نافع ، وإما ضرر بالجبن والهزيمة؛ وذلك أنهم استووا في سبب
الاستحقاق وهو انتصابهم للجهاد فصاروا كالغانمين .
والصحيح ـ إن شاء الله
تعالى ـ : أن ذلك مفوّض إلى اجتهاد الإمام يفعل ما يراه من تسوية ، وتفضيل؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي الأنفال فيفضل قومـًا على قوم على قدر غنائهم؛
وهذا في معناه .
والمشهور عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه حين كثر عنده المال
فرض للمسلمين أعطيائهم ، ففرض للمهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ...)) إلخ
.
وعلى القول بأن التفضيل والتسوية مفوضان إلى رأي الإمام فيجب أن نفهم
أمرين :
الأول : أن هذا أمرٌ خاص بالفيء فقط .
الثاني : أنه لا علاقة
لهذه التسوية بالتوازن والتأميم وما شاكلهما مما يُدَنْدِنُ حوله سيد قطب
والاشتراكيون .
وقول سيد قطب : ((هما رأيان إذًا في تقسيم المال : رأي أبي
بكر ، ورأي عمر؛ وقد كان لرأي عمر سنده : ((لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله
عليه وسلم كمن قاتل معه)) ، و : ((... فالرجل وبلاؤه في الإسلام ...)) ، ولهذا
الرأي أصل في الإسلام وهو التعادل بين الجهد والجزاء .
أقول :
1 ـ
ليس لعمر ـ رضي الله عنه ـ رأيٌ ، وإنما هو متبعٌ لما شاهده من تصرفات الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم ، وقد سقنا أحاديث في ذلك فيما سبق .
هذا فيما
يتعلّق بأصل المسألة وهو التفضيل .
2 ـ أن له ملحظان في التفضيل :
أ
ـ السابقة؛ ومِن هنا فضّل المهاجرين ففرضَ لهم على خمسة آلاف خمسة آلاف ، ولمن شهد
بدرًا من الأنصار أربعة آلاف ، ولمن شهد الحديبية ثلاثة آلاف .
ب ـ النسب
والقرابة؛ ففرض عمر ـ رضي الله عنه ـ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر
ألفـًا إثني عشر ألفـًا .
وفرض للعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه
وسلم اثني عشر ألفـًا ، ولأسامة بن زيد أربعة آلاف ، ولعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف
، وفرض للحسن والحسين خمسة آلاف خمسة آلاف ألحقهما بأبيهما .
وعلى هذا : فإن
عمر لم يراع التعادل بين الجهد والجزاء كما يقول سيد قطب ، وإنما راعى الاتباع ثم
السابقة ثم شرف القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما بدأ ببني هاشم وبني
المطلب وغيرهم من بطون قريش حتى كان عمر نفسه وأهله في آخر البيوت .
وأما
أبو بكر فلم تثبت عنه هذه المساواة المطلقة التي تعلق بها الاشتراكيون وجعلوها
شعارًا ، بل هي لم تثبت عن رسول الله ولا عن عمر ولا عثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ
في أبواب المال خاصة ، وإن كانت ثابتة في باب القصاص كما قال تعالى : { وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن
والجروح قصاص } ، وكما قال تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد
بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان
} .
وفي الحدود تقام على الشريف والوضيع : حد الزنا ، والسرقة ، والحرابة ،
والقذف ، لا يفرق فيها بين شريف ووضيع ، وعربي وعجمي ، وغني وفقير كما قال صلى الله
عليه وسلم : ((والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها)) .
وإنصافُ
المظلوم من الظالم ونصرته لا فرقَ بين هذه الأصناف كلها ، إلى ميادين أخرى تتحقق
فيها هذه المساواة .
والعجب أن سيدًا يرى أن لأبي بكر وعمر أن يجتهدا فيذهب
أحدهما إلى المساواة والآخر إلى التفضيل ، ويرى أن لكل منهما أصلاً في الإسلام ،
ولا يرى هذا الحق لعثمان ـ رضي الله عنه ـ ، بل يرى سيد هذا الحق لكل إمامٍ مسلم ،
بل يراه لنفسه ، ولا يراه لعثمان الخليفة الراشد .
والعجب ثانية : أن سيدًا
يخوض هذه المآزق ولا يلتفت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلتفت إلى
مذاهب وأقوال أئمة الفقه والحديث .
والعجب ثالثة : أن سيدًا يقيس الأمور
بمقاييس عصره كأن عمرًا وأبا بكر عايشا عصر الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية
فلهذا كان عمر يرتعد فرقـًا من زيادة رؤوس أموال بعض الناس وتضخمها ، فلما رأى هذه
النتائج الخطرة آلى لئن جاء عليه العام ليسوين في الأعطيات وقال قولته المشهورة :
(لو استبقلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على
الفقراء) .
هكذا يصور سيد عمر في ضوء أو في ظلمات هذه الروايات الزائفة؛
يصوّره وهو يشرع وينوي التأميم والمصادرة كأنه من زعماء الاشتراكية الكبار ـ
والعياذ بالله ـ .
إن الله لم يعط هذا الحق لرسله وأنبيائه فكيف يعطي سيد
قطب هذا الحق لعمر؛ حاشا عمر ثم حاشا عمر أن يفكر مثل هذا التفكير أو يقولَ مثل هذا
القول وقد سمع محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((ما أعطيكم ولا أمنعكم
، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت))([42]) ، وقد سمعه يقول : ((إن دماءكم ، وأموالكم ،
وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا؛ ألا هل بلّغت
؟))([43]) ، وقد سمعه يقول وقد غلا السعر فقال له أصحابه([44]): يا رسول الله لو
سعّرت ، فقال : ((إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعر ، وإني لأرجو أن
ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتُها إياه في دمٍ ولا مال)) .
وفي الباب
أحاديث عن أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وأبي جحيفة .
وجمهور العلماء
على منع التسعير بناء على هذه الأدلة؛ فإذا كان رسول الله يرى التسعير ظلمـًا وأنه
صلى الله عليه وسلم إنما هو قاسم يضع حيث أُمر ، ويحرِّم الدماء والأموال هذا
التحريم المؤكَّد فكيف يعقل أن يقوم عمر بمصادرة أموال الناس وتأميمها على المصطلح
الاشتراكي؛ حاشاه ثم حاشاه من هذا الفكر والتفكير (الثوري الاشتراكي) .
ثم
إن هذا الأثر : ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم
فرددتها على الفقراء ) . لم أجده ، ولكن قال ابن أبي شيبة في ((مصنفه))([45]):
حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل قال : قال عمر لئن
بقيت لآخذن فضل مال الأغنياء ولأقسمنه في فقراء المهاجرين .
وفي إسناده حبيب
بن أبي ثابت([46])وهو مدلس ، عدّه الحافظ ابن حجر في الطبقة الثالثة ، وهم من أكثر
من التدليس ، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلاّ بما صرّحوا فيه بالسماع؛ وحبيبٌ
منهم فلا حجة في روايته .
وهناك احتمال علة أخرى في إسناد هذه الرواية من
قبل أبي وائل وهي الإرسال الخفي؛لأن أبا وائل كان يرسل كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم عن
أبيه وعن الإمام أحمد.
وهذا الأمر الخطير الذي يتضمن أخذ أموال حرّمها الله
تحريمـًا شديدًا كتحريم الدماء والأعراض مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة ، مخالف
لما يتمتع به عمر نفسه من العدل .
ثم لو ثبت لكان حجة على سيد؛ إذ يرى أن
تضخّم الأموال إنما كان نتيجة للتفضيل في العطاء؛ فعمر ـ رضي الله عنه ـ كان يفضل
المهاجرين على غيرهم ، فأين نتائج هذا التفضيل ؟ ، ألا يرى في هذا الأثر أن عمر
يريد أن يأخذ فضل مال الأغنياء ليقسمه بين فقراء المهاجرين؛ فهل يا ترى أن عمر لم
يكتف بتفضيل المهاجرين حتى عزم أن يأخذ فضل الأغنياء ليقسمه بينهم ، ثم إن النص
الذي نقله سيد يفيد أن عمر عزم على أخذ فضول عموم الأغنياء في الدولة الإسلامية
ليعطي عموم الفقراء في الدولة؛ وهذا النص يفيد أنه يريد أن يأخذ فضل بعض الأغنياء
لبعض الفقراء؛ إذ لا يعقل أن يأخذ أموال الأغنياء في العالم الإسلامي ليعطي فقراء
المهاجرين فقط مع تفضيله إياهم في العطاء .
والواقع أنه لا يثبت هذا ولا ذاك
، ولا يجوز نسبة أيٍّ منها إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ لما أسلفناه .
ثم
لو فرض ثبوت أن عمر كان يفكر في أخذ فضول الأغنياء وهذا شيءٌ لا أصل له في كتاب
الله ولا في سنة رسول الله العملية ، بل الموجود خلافه وهو تحريم ذلك أكان الصحابة
يسكتون لعمر ؟ .
والجواب : لا ، والشريعة لا تأمر الأمة بالطاعة إلاّ في
طاعة الله وفي غير معصية ، والصحابة واعون لذلك تمام الوعي ، وقد خالفوا عمر في
قضايا مثل قضية متعة الحج ، وقضية ترك الجنب التيمم والصلاة حتى يجد الماء ،
وناقشوه في قضايا كان يراها فرجع عنها؛ لأنه كان وقافـًا عند كتاب الله ، وعمر نفسه
كان يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فيأتي الوحيُ بموافقته ، وأحيانـًا
يأتي بمخالفته .
فالصحابة إذًا لن يسكتوا عن قول كلمة الحق التي ربّاهم
عليها القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم
البيعة أن يقولوها حينما أخذ عليهم البيعة على الطاعة لولاة الأمر .
وإذا
كان هذا هو المعتقد في عمر والصحابة الكرام فهل يحقُّ لسيد قطب وغيره أن يأخذ
الكلام البعيد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي عمر والصحابة على عواهنه وعلى
عجره وبجره فيطعن به في عثمان ـ رضي الله عنه ـ ويسقط به خلافته ثم يقدمه للأمة على
أنه هو المنهج الإسلامي الحق ؟!! .
وما يقوله سيد من تضخم ثروات فريقٍ من
الناس وتزايد هذا التضخم عامـًا بعد عام بالاستثمار ... إلى قوله : ((هذه النتائج
رآها عمر في آخر أيام حياته فآلى لئن جاء العام ليسوين في الأعطيات ، وقال قوله
المشهورة : لو استقبلتُ من أمري...)) إلخ.
أقول : يوهم سيد قطب القرّاء بما
يهول به من تخضم الثروات ونتائجه المؤلمة أن كل هذا وذاك جاء بسبب التفضيل في
العطاء؛ فهل الواقع كذلك ؟ . الجواب : كلا .
أولاً : أن هذه تهاويل من
تهاويل من امتلأت أدمغتهم بالاشتراكية .
ثانيـًا : أن من وسع الله عليه من
الصحابة الكرام لا يرجع ثراؤه إلى العطاء الذي يناله من الفيء والخراج ، وإنما مردّ
ذلك أولاً إلى فضل الله ومنِّه وعطائه؛ فهو سبحانه يبارك ويوسع على من يشاء من خلقه
ويقدّر على من شاء منهم ثم إلى الأسباب التي يبارك الله فيها من السعي في التجارة
وحسن التدبير والإدارة والسعي في تنمية الأموال واستثمارها ، ثم بركة الله وحسن
توفيقه وإتاحة الفرص لنجاح الصفقات التجارية .
ولو كان سبب التضخّم هو
التفضيل في العطاء لكان زوجات رسول الله أكثر الناس ثراء؛ لأن عطاءهن كان أكثر ،
إذْ كان عمر يعطي الواحدة منهن اثني عشر ألفـًا ، وكذلك العباس كان عمر يعطيه اثني
عشر ألفـًا ، وكان يعطي البدريين المهاجرين على خمسة آلاف خمسة آلاف ، ومنهم عبد
الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ ، وأبو ذر ، وسعيد بن
زيد ، والمقداد ، وابن مسعود ، وبلال ، وعمّار .
فكيف استمر بعضهم مقلاّ
معدمـًا وبعضهم ذا طول وغنى مع توحّد العطاء ؟!! .
فلو كان سبب التضخم
المالي هو تفاوت الناس في العطاء فلماذا يموت بعض المهاجرين والأنصار فقيرًا
مدينـًا وبعضهم له الثراء الواسع منه يتصدّق ويصل وبه ويدعم الجهاد إلى آخر أبواب
الخير والبر التي كانوا يتنافسون فيها ـ رضي الله عنهم ـ===============
سيد قطب تتقطع نفسُه
حسرات
|
|
قال سيد قطب :
((ولكن وا أسفاه لقد فات الأوان وسبقت الأيام عمر ، ووقعت النتائج المؤلمة التي
أودت بالتوازن في المجتمع الإسلامي ، كما أدت فيما بعد إلى الفتنة بما أضيف إليها
من تصرّف مروان وإقرار عثمان))([1]).
لقد نجا عمر ـ رضي الله عنه ـ من بطش
سيد قطب بسبب عزمه على التسوية في العطاء وبقولته المشهورة : (لو استقبلتُ من أمري
ما استدبرتُ لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء)؛ لولا هذا
العزمان لهاجمه سيد كما هاجم عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، ومن هنا اعتبر رأيه مقبولاً
له أصل ، لكنه لم يدرك أنه وقع في التناقض العجيب ، ولم يدرك أن كثيرًا من القراء
والكتّاب غير المؤدبين والفاقهين سينحون باللائمة على عمر قبل عثمان؛ لأنه هو الذي
سنّ هذا التفاضل في العطاء الذي أدّى إلى النتائج المؤلمة ، وأنه حين أدرك هذه
النتائج المؤلمة لم يبادر إلى التسوية في العطاء ولم يبادر إلى أخذ فضول الأغنياء
ثم ردها إلى الفقراء ، بل حتى لم يوص الخليفة بعده بتنفيذ ما عزم عليه .
بل
جعل الأمر شورى بعده في الستة ، وجعلهم أهل ثروة طائلة بحجة أن رسول الله مات وهو
راض عنهم ، وبحجة أنهم أفضل الموجودين وأحق الناس بالخلافة .
هذا كله لا
يستبعد أن يثيره السفهاء حول عمر بجناية سيد قطب ، بل لا أستبعد أن تكون هذه قد
ثارت في نفس سيد .
لكن عمر ـ رضي الله عنه ـ إنما هو متبعٌ لا مبتدع ولا
مخترع ، وما قال شيئـًا مما نسبه إليه سيد قطب ـ حاشاه رضي الله عنه من ذلك ـ ، ولم
يكن هناك نتائج مؤلمة كما خيل لسيد فلا هذا ولا ذاك .
([1]) ((العدالة)) ( ص : 172 ) ط ثانية عشرة ، (
ص : 206 ) ط خامسة ، وفيها : ((من تصرف أمية وإقرار عثمان)) .
([2])
((العدالة)) ( ص : 172 ) ، الطبعة الثانية عشرة ، الطبعة الخامسة ( ص : 206 ) ، وفي
الثانية عشرة : ((وأن عهد عثمان الذي تحكّم فيه مروان كان فجوةً بينهما))
.
([3]) ( 1/112 ) .
([4]) والعجب أشد العجب من القطبيين كيف يتخذون
سيد قطب إمامـًا ومجدّدًا ؟!! وهو قد ارتكب كثيرًا من أنواع الظلم ، فقال بوحدة
الوجود ، وبالحلول ، والجبر ، وعطّل صفات الله ، وقال بخلق القرآن ، وأن الله لا
يتكلم ، وأنكر رؤية الله ، وهوّن من شأن معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكفّر
الأمة بأجمعها ، واعتبر مساجدها معابد جاهلية ، ودعا إلى الاشتراكية الغالية ...
إلخ الضلالات العقائدية والفكرية التي وقعَ فيها .
وحتى مظهره كحلق اللحية ،
وملبسه كان يقلِّد فيها أعداء الإسلام ويتشبّه بهم فيها؛ فعلى أيّ ٍأساس إسلامي
اتخذوه إمامـًا واعتبروه مجددًا ؟؟! .
([5]) الإشارة راجعة إلى اليهود ، وقد
قال فيهم نحو ما قال في المسلمين؛ فلا فرق عنده بين اليهود والمسلمين في القطع
بالخروج عن ملة إبراهيم عليه السلام وعن عهد الله
|
|
=====================
هل للتوازن الذي يزعمه سيد قطب موضع في شرعة الإسلام
؟
|
|
وهل تم هذا
التوازن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ، ثم
أخنت عليه ودمرته تصرفات عثمان ـ رضي الله عنه ـ ؟؟ .
والجواب : أنّ هذا
التوازن المزعوم غير واقع قدرًا؛ فقد شاء الله أن يفاوت بين عباده في أرزاقهم
وأخلاقهم وفي سائر شؤون حياتهم لحكم ومصالح عظيمة لا تستقيم حياة البشر إلا بها ولا
تقوم إلاّ عليها ، قال تعالى : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضها سخريـًّا ورحمة ربك
خيرٌ مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] ، وقال تعالى : { والله فضَّل بعضكم على بعض في
الرزق فما الذين فُضلوا برادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة
الله يجحدون } [ النحل : 71 ] ، وقال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع
بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم } [
الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى : { كُلاًّ نُمد
هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض
وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } [ الإسراء :
20 ـ 21 ] .
وقد شاء الله سبحانه وهو
السيد المالك المتصرف في الكون والمدبر لشؤون خلقه جميعـًا أن يكون من عباده أُناسٌ
أغنياء وآخرون فقراء ، وأناسٌ مرضى وزمنى وأناسٌ أصحّاء ، وأناس جهلة وأناس علماء ،
وأناس مبصرون وآخرون أكفاء إلى آخر التفاوت في هذا المجال .
وفي شرع الله
الحكيم شاء الله أن يفاوت بين عباده في مجالات؛ وذلك عدلٌ منه وحكمة؛ ففي باب
المواريث فاوت بين الذكور والإناث ، فللذكر من الإخوة مثل حظ الأنثيين .
وإن
مات الميت عن الأبوين فللأم الثلث ، وللأب الثلثان .
وإن ماتت المرأة دون أن
يكون لها ولد فلزوجها النصف من مالها ، فإن كان لها ولد فله الربع ، وإن مات عنها
وليس له ولد فلها الربع ، فإن كان له ولد فلها الثمن .
وللرجل على المرأة
القوامة إن كان زوجـًا ، وله عليها الولاية في عقد النكاح ، فلا ولاية لها على
نفسها ولا على غيرها .
وفي الديات ديتها نصف دية الرجل .
وشرع سبحانه
المساواة في مجالات ، منها :
القصاص : قال تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن
النفسَ بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
} [ المائدة : 45 ] ، وبيّنت السنة أنه لا يُقتل مسلمٌ بكافر ، كما
بيّنت أن الرجل يقتل بالمرأة ، ويقتل الشريف بالوضيع ، والعربي بالأعجمي ، وكبير
الأثرياء وكبار الأمراء بأفقر الفقراء وأوضع الوضعاء .
وفي الحدود في الزنا
، والخمر ، والسرقة ، والحرابة تقام الحدود على الجميع لا فرقَ بين شريفٍ ووضيع :
قال صلى الله عليه وسلم لأسامة لما شفع في المرأة المخزومية القرشية : ((أتشفع في
حدٍّ من حدود الله ؟)) ، ثم قام فاختطب ، ثم قال : ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم
كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد؛ وأيم
الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها)) ([1]).
وفي حق التملّك
بالإرث أو التجارة أو إحياء الموات .
وفي نصرة المظلوم على الظالم وفي أمور
أخرى وكلها فيها احترام وكرامة للمسلم وهي أمور معنويّة ترفع نفسيته وتشعره بكرامته
فتجعله يحتقر الدنيا وتذيب الفوارق بين الأغنياء والفقراء إن كان هناك مجتمع متمسك
بدينه مدرك بعقله؛ فهذا ما شرعه الإسلام وبيّنه .
وأما أنه هل تم هذا
التوازن المزعوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه ـ رضي الله عنهما ـ فلم
يكن شيء من ذلك .
ولو كان هذا من الإسلام لم تشرع الزكاة ولا سائر الصدقات ،
بل كان الله يأمر فورًا بالتأميم والمصادرات لأموال الأغنياء أو لفضول أموالهم ، بل
لو كان التعادل واجبـًا والمساواة واجبة لبلّغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه من المهاجرين والأنصار وكان من السهل أن يتنازل الأغنياء حينذاك عن أموالهم
لا سيما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما الأنصار الذين أثنى الله
عليهم وأشاد بإيثارهم على أنفسهم .
لكن المسلم الذي يعرف القرآن والسنة
والتاريخ يجد أنه كان هناك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أغنياء وفقراء
والتفاوت بينهم كبير .
فهناك فقراء في المدينة ، بل وفي الجزيرة كلها ،
وهناك أعراب ، وهناك أهل الصفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم
يحبوا على بطنه من شدة الجوع([2])مع وجود أغنياء وأصحاب ثروات ومزارع .
وفي
عهد عمر كان عام الرمادة اشتدت المجاعة بأهل الجزيرة فكان يقتصر على جلب الصدقات من
الأمصار الإسلامية كمصر والعراق والشام ، ولم يأخذ الزكاة من كثير من المسلمين في
ذلك العام فضلاً عن المصادرة والتأميم .
أرأيت لو كان التوازن أمرًا
مشروعـًا في الإسلام وأخذ فضول الأغنياء وردها إلى الفقراء أكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتأخّر عن تنفيذه أو على الأقل عن بيانه للأمة ؟ .
وهل كان أبو
بكر الصدّيق الذي قاتل المرتديين ومانعي الزكاة وقال : (والله لو منعوني عقالاً أو
عناقـًا كانوا يؤدّونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها) يتأخّر عن
تطبيق تعاليم الإسلام التي يزعمها سيد قطب .
وهل عمر العبقري الصارم يتأخر
طول خلافته عن تنفيذ هذا الأمر العظيم في نظر الاشتراكيين ؟ ، ويظل على خلافه طول
مدّة خلافته ؟ .
وهل لو كان هذا التوازن مما حتمه الإسلام يغفله الصحابة
والتابعون وأئمة الفقه والحديث في أحاديثهم وكتب فقههم وتفسيرهم وتواريخهم ؟!!
.
أو أن هذا التوازن الذي جاء به الإسلام لم يفهمه الرسول وخلفاؤه وعلماء
الأمة بعده ولم يعلموا به حتى جاءت الثورات الشيوعية والاشتراكية في القرن العشرين؛
فهدى الله لإدراكه الاشتراكيين المسمين أنفسهم بالإسلاميين فبيّنوه للناس ووضّحوه
وأدركوا إشتراكية الرسول صلى الله عليه وسلم ـ حاشاه ـ واشتراكية عمر والمقداد وعلي
وأبي ذر ـ رضي الله عنهم ـ وحاشهم ، فبيّنوها للأمة .
وأنحوا بالائمة على
عثمان الذي أودت سياسته بهذا التوازن([3])وحطم الأسس التي جاء بها هذا الدين([4]) ،
وتابعه على ذلك بنو أمية أشدّ أعداء الاشتراكية والاشتراكيين .
وأخيرًا نبا
القلم بسيد قطب فجعل ما حصل في عهد عثمان من التضخم في الثروات ونتائجه المؤلمة
إضافة إلى ما في عهد عمر .
فيا ترى هل كان سيد قطب يعتقد أن عمر يتحمل كبر
ذلك ومسئوليته العظمى في نظره ثم طوى عن ذلك كشحـًا واكتفى بالنظر إليه شزرًا ؟
.
أو كان له رأي آخر والجواب عند الاشتراكيين السياسيين .
قال سيد
قطب : ((اختار علي مبدأ المساواة في العطاء وقد نص عليه في خطبته الأولى ، قال :
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن
الفضل له على من سواه بصحبته ، فإن الفضل غدًا عند الله وثوابه وأجره على الله ،
ألا وأيما رجل استجاب لله ورسوله فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد
استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، ولا فضل لأحدٍ
على أحد ، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء .
هذا هو المبدأ الإسلامي السليم
الذي يتفقُ مع روح المساواة الإسلامية ، ويكفل للمجتمع الإسلامي التوازن ، فلا يدع
الثروات تتضخم إلا بقدر الجهد والعمل وحدهما لا بفضل إتاحة فرصة لا تتاح للآخرين
بوجود وفر من المال للعمل فيه أكبر مما لدى الآخرين))([5]).
أقول :
أولاً : هكذا يصوّر سيد قطب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار أبو
بكر مبدأ المساواة فيأتي عمر يخالفه فيختار مبدأ آخر هو في نظر سيد غير مقبول وهو
مبدأ التفضيل الذي أدى إلى نتائج خطرة ، ثم يندم عمر فيرجع إلى المبدأ الإسلامي
السليم الذي فيه روح المساواة والتوازن لكنه لم يتمكن من التنفيذ ، ثم يأتي عثمان
فيختار مبدأ التفضيل الخطير الذي أودى بالتوازن الإسلامي ثم أودى بحياته وبالإسلام
.
ثم يأتي عليّ فيختار مبدأ المساواة السليم الذي يكفل للمجتمع الإسلامي
التوازن.
هذا هو حال الخلفاء الراشدين في نظر سيد قطب .
كان الإسلام
ولا سيما الاقتصاد ملعبة في أيديهم ، فكل يختار رأيـًا غير ملتفت إلى كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ، والصحابة كلهم مستخذون أمام هذه
التصرفات لا يُذكّرون هؤلاء الخلفاء ولا ينصحونهم ولا يحاكمونهم إلى الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!! .
ولطالما شدد سيد قطب على الذين لا يحكمون
بما أنزل الله ، ولطالما كفّرهم ، وكيف نسي قول الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا
مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [ الأحزاب : 36 ] ،
ونسي قوله الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا
يجدوا في أنفسهم حرجـًا مما قضيت ويسلموا تسليمـًا } [ النساء : 65 ]
.
هل تظن أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا لأنفسهم حرية
الاختيار لما يريدونه في أمور حسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه قولاً
وعملاً ؟!! .
أتعتمد على الروايات الضعيفة والمزيّفة فتصور أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة ؟!! .
ثم ترجح وتمدح ما يوافق هواك ويوافق
المنهج الاشتراكي الذي رفع رايته قومٌ لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من أعداء
الإسلام . حاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين مما تنسبه
إليهم .
إنما شأنهم وديدنهم الاتباع وهم أسوة الأمة في التمسك بكتاب الله
وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا هو الأصل فيهم؛ لأنهم قد زكّاهم
الله في كتابه وزكّاهم رسوله صلى الله عليه وسلم وشهدت لهم الأمة بذلك ، فلا نقبل
ما ينسب إليهم مما يخرجهم عن هذا الأصل ، لاسيما مثل هذا الأمر الجسيم ، ولا سيما
وقد ثبت هذا بتطبيقهم الدقيق لمنهج الإسلام ، إضافة إلى تصريحاتهم بالتزامهم باتباع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتخوفهم من مخالفته .
استمع إلى قول أبي بكر
ـ رضي الله عنه ـ : ((لستُ تاركـًا شيئـًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل
به إلا عملتُ به؛ فإني أخشى إن تركتُ شيئـًا من أمره أن أزيغ))([6]) ، كأنه ـ رضي
الله عنه ـ يشير إلى قول الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم } .
ثانيـًا : أين إسناد هذه الرواية ؟ ، وأين
مصادرها؛ ثم إذا صحت ألا تحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كيف
تقدم على تأويل نصوص القرآن القطعيّة في أبواب الصفات وغيرها .
ألستَ ترد
الأخبار الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل الأخبار المتواترة
فيما تسميه بالغيبيات ؟ ، فلماذا تقبل الروايات التي لا تعلم صدقها من كذبها
وصحّتها من سقمها ؟ .
إن ذلك لم يكن إلا للنيل من عثمان الشهيد وإخوانه
الكرام .
وأعجب من التسليم المطلق والاستسلام للروايات الواهية في هذا الأمر
العظيم والشرح والتحليل بأسلوب لا يقوله ويردده إلا الاشتراكيون ... المساواة ...
والتوزان ... والتضخم ... والجهد ، فرص لا تتاح للآخرين؛ فهل كان عمر وعثمان ـ رضي
الله عنهما ـ لا يتيحون الفرص إلاّ لأفرادٍ ويكبّلون الأمة ويحولون بينها وبين
الفرص التجارية والزراعية وغيرها من طرق الاكتساب .
ثالثـًا : يقال : سبحان
الله العظيم ! لماذا لم يؤاخذ سيد قطب عليـًّا بما آخذ به عثمان من عدم أخذ فضول
الأغنياء أو تأميم أموالهم ولا على عدم عزمه على ذلك . إن من وراء الأكَمة لأشياء
.
قال سيد قطب : ((وقد كان عمر في آخر أيّامه على أن يفيء إلى هذا المبدأ ،
ولكنه عوجل فاستُشهد لسوء حظ الإسلام ولم ينفذ عزيمته التي اعتزم ، بل عزيمته في أن
يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء إذا كانت هذه الفضول قد نشأت ـ في
الأغلب ـ من تفريقه في العطاء .
وعزيمته في أن يسوي بينهم في العطاء فلا
تعود هذه الفوارق إلى الظهور كما ظهرت ، ولا يختل المجتمع الإسلامي كما بدأ
يختل))([7]).
أقول : إذًا يرى سيد قطب أن التضخم والفوارق واختلال التوازن
ظهرت في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ نتيجة لتفريقه وتفضيله في العطاء ، فهل يخرج عمر
من المسئولية بمجرّد قوله : ((لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ)) أولا بدّ من
الإصلاح فعلاً ؟ .
إنّ منطق سيد في التشديد على عثمان يقتضي منه أن يعرّج
على عمر فيشركه مع عثمان في تحمل مسئولية وجود هذا التضخم في الثروات ووجود هذه
الفوارق والاختلال في المجتمع الإسلامي .
وإذا كانت مسألة التفضيل قد سنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنطق سيد يقتضي أن لا يفلت النبي صلى الله عليه وسلم
من الحساب؛ لأنه هو الذي سنّ هذه السنة ، وأكّد ذلك عمر؛ فإذا كان التفضيل في
العطاء قد أدّى إلى هذه المفاسد والنتائج التي يقولها ويزعمها سيد قطب ، فما ذنب
عثمان إلاّ المتابعة وليس هو المشرع ، فلماذا يقصر عليه الحساب الشديد والجرح
المؤلم .
وعلى كل : فإما أن يعترف بأنّ ما فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم حقّ وعدلٌ وحكمة واتباع الخلفاء الراشدين لهذا التشريع والاعتزاز به من
مفاخرهم ومزاياهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وإما أن يراه تشريعـًا فاسدًا يؤدِّي
إلى الإخلال بالتوازن في المجتمع الإسلامي ، ويؤدِّي إلى مفاسد أخرى فينتقد
المشرِّع الأساسي وتشريعه ومَن تابعه على هذا التشريع وهو عمر ـ رضي الله عنه ـ قبل
أن يطعن ويجرح في عثمان ويقصر التبعة والمسئولية عليه .
أما تعلقه بما يزعمه
من عزم عمر فإن كان ما فعله طول حياته في التفضيل في العطاء إثمـًا فلا يكفيه مجرّد
العزم فلا بدّ من الإقلاع عنه والإصلاح فعلاً كما قال تعالى : { إلا الذين تابوا
وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوبُ عليهم وأنا التواب الرحيم } ، وشروط التوبة معروفة
.
أما الأمة الإسلامية من الصحابة إلى يومنا هذا فيرون أنّ ما شرعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فهو حقٌّ وعدل وحكمة .
ويرون أن الخلفاء الراشدين
راشدين أبرارًا في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ مجال ولا سيّما
مجال تقسيم المال وعطائه ـ رضي الله عنهم وعن من اتبعهم بإحسان وعرف قدرهم وقدر
الإسلام ـ .
وأخيرًا : فمن التجنِّي والتعسّف أن يقال : أن تضخّم الثروات
جاء نتيجة لعطاء عثمان وعمر قبله ، فإن ذلك العطاء الذي ذكره سيد([8])يتراوح بين
خمسة آلاف إلى تسعمائة إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة لا يمكن أن يكون له هذا الأثر
الكبير من التضخم واختلال التوازن في المجتمع الإسلامي كما يزعم سيد قطب؛ فهذا أبو
ذر وكثير من المهاجرين من أكثر الناس عطاء وما زالوا فقراء ، وهذا حكيم بن حزام
حصلت له قصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآلى على نفسه أن لا يرزأ أحدًا بعد
رسول الله فكان يعرض عليه العطاء([9])من الخلفاء فيأباه ويصرّ على هذا الإباء إلى
أن مات وهو من أكثر قريش مالاً .
وهذا الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ
يخرج نفسه من الديوان في عهد عثمان فلم يأخذ من العطاء شيئـًا([10]) ، وكان من
أغنياء المهاجرين .
فالغناء والفقر تابعان لإرادة الله ومشيئته ، ثم للأسباب
التي يهبها الله لمن يريد له ذلك ، وهذه حقيقة ثابتة بالكتاب والسنة ويشهد لها
الواقع التاريخي للبشر .
وأخيرًا : إذا كان علي ـ رضي الله عنه ـ قد أعاد
مبدأ المساواة وأحياه ـ على زعم سيد قطب ـ فما الذي منعه من الاستمرار ؟
.
فإن قلتم وقفوا في وجهه ، يقال : فلماذا لم يُعِدْه من يتمسحون بعليّ من
الفاطميين والبويهيين والصفويين والزيدية وغيرهم من الفرق التي تتمسح بأهل البيت ؟
.
ولماذا يسكت عنهم سيد قطب ويصبّ جام غضبه على عثمان رضي الله عنه وبني
أمية وبني العبّاس؛ فهل هناك أسرار ؟؟! .
([1]) البخاري : ( 60 ، الأنبياء ، حديث : 3475 )
، ومسلم : ( 29 ، الحدود ، حديث : 1688 ) .
([2]) كان هذا يحصل لشدّة كتمان
الفقر ولحالهم وعدم علم الأغنياء بهم؛ فإذا علموا ذلك قاموا بسدّ خلتهم ، بل كانوا
في الأغلب يقومون بذلك بدون شكوى من الفقراء .
([3]) ((العدالة الاجتماعية))
( ص : 172 ) ـ وبرّا الله عثمان من ذلك
|
|
|
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق