لما كان لا يُفتي في السياسة إلا العالم المجتهد، كان لا يمارس السياسة إلا هو، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " فإذا بلغ الإنسان مبلغا فَهِمَ عن الشارع فيه قَصْدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبي في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله "( ).
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: " ولا يشاوِر إذا نزل المشكل إلا أمينا عالما بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب " » مختصر المزني «.
قال ابن الصباغ في الشامل: " اعتبر الشافعي أن يكون الإمام من أهل الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا قول له في الحادثة "( ).
وقال الشاطبيّ: " إنّ العلماء نقلوا الاتّفاق على أنّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع "( ).
قلت: وهذا الاتّفاق لا يضره وجود المخالف؛ لأنّ من خالف فقد شرط الاجتهاد فيمن يستفتيه الإمام كما قال الشهرستاني: " ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه في الأحكام "( ). فعاد الأمر إلى اشتراط الاجتهاد سواء في الإمام نفسه أو فيمن يرجع إليه الإمامُ من الفقهاء.
وقال ابن حمدان الحرّاني: " المجتهد المطلق وهو الذي ذكرناه آنفا إذا استقلّ إدراكه للأحكام الشرعيّة من الأدلّة العامة والخاصة، وأحكام الحوادث
منها ..."( ).
نكت في آيات الكتاب
من تدبّر آيات الكتاب الكريم في كل حديث عن الخلفاء الشرعيّين ـ ونحن نحب أن تكون الخلافة لفقهاء الشريعة ولاريب ـ يجد أنّ الله ما ذكر أحدا منهم إلا وصفه بالعالم المحيط بفنون الشريعة؛ فآدم أوّل من ساس البشر، ميّزه الله عن الملائكة بالعلم حتى كانت الخلافة له دونهم، ومهما اختلف المفسّرون في كلمة {خَلِيفَة} التي في أوّل سورة البقرة، فإنّه لا ينتفي عنها معنى السلطان، وهذا الذي أشار إليه ابن تيمية حين قال: " في الخلافة والسلطان وكيفية كونه ظلّ الله في الأرض، قال الله تعالى: {وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقال الله: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، وقوله: {إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً} يعمّ آدم وبنيه، لكن الاسم متناول لآدم عيناً، كقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ... "( )، ولهذا قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: " هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمَع له ويطاع ..."( ).
وأقول: إنّ الله اختار آدم لخلافة الأرض دون الملائكة لا لكونه عالما ببعض دون بعض، ولكن لكونه محيطا بما عبّر الله عنه بلفظ الكلية حين قال: {وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} ولم يسكت ولكن زاد {كُلَّهَا}.
ـ ومثله قوله تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنا دَاوُودَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ لِلَهِ اَّلِذي فَضّلَنا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ}، قال ابن باديس ـ رحمه الله ـ: " {عِلْماً} نوعاً عظيماً ممتازاً من العلم، جَمَعا به بين المُلْك والنّبوّة وقامَا بأمر الحُكم والهداية ".
وقال: " تنويه وتأصيل: قد ابتدأ الحديث عن هذا المُلْك العظيم بذكر العلم، وقدّمت النّعمة به على سائر النّعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنّه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأنّ الممالك إنما تُبنى عليه وتُشاد، وأنّ الملك إنما يُنظَّم به ويُساس. إنّ كل مالم يُبْن عليه فهو على شفا جرف هار وأنّه هو سياج المملكة ودرعها وهو سلاحها الحقيقيّ، وبه دفاعها وأنّ كل مملكة لم تُحْم به فهي عُرضة للانقراض والانقضاض "( ).
ـ ومثله قوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسُّدي وغيرهم: " يعني عِلْماً "( )؛ أي من كل شيء علماً، إذن فهي الإحاطة بكل فنون العلم.
فتأمّل العلم المبسوط على هؤلاء السياسيين الصّالحين، وقد روى أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هَلَك نبيٌّ خَلَفَه نبيٌّ، إلا أنّه لا نبيَّ
بعدي )) متفق عليه، ومصداقه في كتاب الله قوله سبحانه: {إنّا أنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ...} الآية.
إذن فالسياسة كانت للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم كانوا أحقّ بها وأهلها، فإذا مات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت نصيب ورثتهم قال رسول الله : » إنّ العلماء ورثة الأنبياء « رواه التّرمذيّ وهو حسن.
فما لطلبة العلم يحومون حول التّركة طامعين، وليس لهم فيها نصيب لا تعصيبا ولا مفترضين؟! ولهذا كان من دقّة التّعبير القرآنيّ أن وصف اللهُ الرّجال المستحقين للإمامة بـ ( اليقين ) في علمهم فقال سبحانه: {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا ُيوقِنُونَ}، فجعل اليقين بدل العلم للفرق الواضح بين مجرّد العلم وبين علم اليقين، والمقام مقام إمامة واقتداء، وقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر
واليقين "( )، فما أعظم أسرار الكتاب!
ومن هنا قال ابن تيمية: " كان الرسولُ وخلفاؤه يَسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم تفرقت الأمور: فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يُرجَع إليهم فيه من العلم والدين "( ).
تنبيهان
1 ـ لايزول العَجَب من قوم ـ أحسن ما يقال فيهم أنهم طلبة علم
ـ يَقيسون أنفسهم على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمارسوا السياسة بدعوى أنّ ابن تيمية كان يمارس السياسة! والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ هذا النّوع من الاستدلال بأحوال الرّجال على حكم شرعي خبط منهجي لا تعرفه السلفية وخطأ يقدح في توحيد المتابعة، وذلك لأنّ ابن تيمية ـ كغيره من أهل العلم ـ يُستدَلُّ له ولا يُستدَلّ به، كما ذكر ذلك هو نفسه ـ رحمه الله ـ في (( رفع الملام )) وغيره من مصنفاته، فهل من متذكر؟!
الثاني: أنّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لم يمارس السياسة وإنما أفتى في السياسة كما أفتى في غيرها من فنون الشّريعة، وقد كان يقول: " أنا رجل ملّة، لا رجل دَوْلة "( )0
الثّالث: أين أنتم من ابن تيمية؟! ذلك المجتهد المطلق، يقاس عليه طلبة العلم اليوم؟! ما أشبهه بقياس الحدّادين على الملائكة! قال رسول الله :
» المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِس ثوبَيْ زور « متفق عليه.
2 ـ وأغرق في الخطأ: مَن يحتجّ بممارسة يوسف السياسة حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} مع أنّه ما دخلها إلا وله شهادة من الله مكتوب عليها {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}( ). وأهل البلاغة يفرّقون جيّداً بين
( الحافظ ) و( الحفيظ )، وبين ( العالم ) و( العليم )، فتدبّر هذا فإنّه من أسرار الكتاب الحكيم! كما أنّه يُتعجَّب من آخرين سوّغوا لأنفسهم استلام الوظائف السياسية اليوم بما في ذلك البرلمانات الكافرة أوالفاجرة، محتجّين بفعل يوسف عليه الصلاة والسلام، غافلين عن أنّه لم يَسألها ولكن عَرَضها عليه الملِك نفسه، ولم يَقبلها إلا بعد أن ضمن له الأمن والتّمكين، فلا مضايقات ولا استفزاز، ولا تنزّلات ولا استدراج، ولا مساومات ولا احتجاج، ولذلك تأمل ترتيبه في قوله تعالى: {وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، وأما هؤلاء فقد أُعجِبوا بإيمانهم وحَسّنوا ظنّهم بأنفسهم حتى صوّر لهم الشيطان خيال التّصلب في الحق، وهم ذائبون في رضا أنظمة الخلق، والله المستعان. أما يوسف فلم يميِّع دينَه، ولم يَأْلُ من السياسة الشرعيّة جهدَه، ولا نفّذ قانون الملك الكافر باسم مصلحة الدعوة قال الله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}( ).
ولو تنزّلنا جدلاً إلى مدّعاهم لقلنا كما قال علماء أصول الفقه: " شَرْعُ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا فيما خالف فيه شرعنا " وقد خالفه؛ لأننا نهينا عن سؤال الإمارة كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله : » يا عبد الرحمن! لاتسأل الإمارة؛ فإنّك إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها « متفق عليه. ولقلنا إنّ يوسف عليه الصلاة والسلام قد زكّاه الله ولايَعمَل إلا بأمر الله، أي كل البشر تجري عليهم قاعدة » إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها ... « إلا من زكّاه الوحي الذي لا يعتريه الخطأ، أما هؤلاء ( المتكيّسون ) اليوم فهم خاضعون للأوضاع القانونيّة اليوم أو غداً، بل قبل أن يمارِسوا السياسة لا بد أن يحلفوا على احترام الدستور! وقد حصل، بل لا نعرف أن غيره قد حصل. فعَجَباً لمن يُنَحّي الكفر بالكفر!
فتحصّل من هذه العجالة أجوبة خمسة هي:
ـ أن يوسف لم يسأل الإمارة وإنما عُرضت عليه، كما يدل عليه السياق، وكل ما في قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} بيان لتَخَصُّصه واختياره .
ـ أنه أمِن من مضايقات النظام، ومُكِّن للعمل بشريعة الإسلام، وهذان الأمران خيال في واقع أنظمة الأرض اليوم.
ـ أنه مزكَّى بما أنه رسول، فيُؤمَن عليه ما يُخاف على غيره؛ فعن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله وعدوّ كتابه؟! فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدوّ الله وعدوّ كتابه! ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نُتجت، وغلّة رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا، فوجدوه كما قال، فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليُولِّيه، فأبى! فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك: يوسف ! فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين، قال: فهلا قلتَ: خمسا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي "( ).
ـ أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا فيما خالف فيه شرعنا، وقد خالفه.
ـ أن يوسف تصرّف فيما تصرف فيه بمنصب الرسالة، فلو جاز لأحد أن يقتدي به فيه فوارثه الشرعي وهو المجتهد؛ قال ابن عبد البر: " فإذا كان ذلك، فجائز للعالِم حينئذ الثناء على نفسه، والتنبيه على موضعه، فيكون حينئذ تحدَّث بنعمة ربِّه عنده على وجه الشكر لها "( ). والله أعلم.
تأصيل
قال الله تعالى: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيِكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
هذه الآية في بيانها الواضح أصل في هذا الباب، قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمّة والمصالح العامة ما يتعلّق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبّتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردّونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرّأي والعلم والنّصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدّها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السّديدة وعلومهم الرّشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبيّة وهي إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك ويُجعل من أهله، ولا يُتقدّم بين أيديهم فإنّه أقرب إلى الصّواب وأحرى للسّلامة من الخطأ وفيه النّهي عن العجلة والتّسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر
بالتّأمّل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه"( ).
سبب النزول:
قال عبد الله بن عباس: " مكثتُ سَنَةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجًّا فخرجت معه، فلمّا رجع فكنّا ببعض الطريق عَدَل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين! مَنِ اللّتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: قلت له: والله! إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننتَ أنّ عندي من علم فسلْني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، قال: وقال عمر: والله إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمرا، حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم؛ كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أميّة ابن زيد بالعوالي( ). قال: فبينما أنا في أمر أَئْتَمِرُه، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعتَ كذا وكذا، فقلت لها: ومَا لكِ أنت ولما ههنا؟ وما تكلفُكِ في أمر أريده؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطّاب! ما تريد أن تراجَعَ أنت وإنّ ابنتك لتُراجِعُ رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فآخذُ ردائي ثم أخرج مكاني، حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة! إنّك لتُراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنُراجعُه. فقلت: تعلمين أنّي أحذِّرُك عقوبةَ الله وغضبَ رسوله، قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِر. أفَتَأْمَن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله .فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك، يا بنيّة! لا يَغرنَّك هذه التي قد أعجبها حسنها وحبّ رسول الله إيّاها( ). ثم خرجتُ حتى أدخلَ على أمّ سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت لي أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب! قد دخلتَ في كل شيء حتى تبتغي أن تدخلَ بين رسول الله وأزواجه! قال: فأخذَتْني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. قال: وكان لي جار من الأنصار، فكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله ، فينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، ونحن حينئذ نتخوّف ملِكا من ملوك غسّان، ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاري عشاء يدقّ الباب، وقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغسّانيّ؟ فقال: أشَدّ من ذلك؛ اعتزل رسول الله أزواجه، فقلت: رَغِمَ أنفُ حفصة وعائشة، قد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصّبح شددت علي ثيابي، وفي رواية: دخلت المسجد، فإذا الناس يَنْكُتون بالحصى( ) ويقولون طلّق رسول الله نساءَه
ـ وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب ـ قال عمر: فقلت: لأَعلمنَّ ذلك اليوم، وأتيت الحُجَر فإذا في كل بيت بُكَاء. قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطّاب؟ عليك بعَيْبَتك( ) قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ والله لقد علِمتِ أنّ رسول الله لا يحبّكِ، ولولا أنا لطلّقكِ رسول الله ، فبكت أشدّ البكاء، فقلتُ لها: أين رسول الله ؟ قالت: هو في خزانته في المَشْرُبة( )، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله قاعدا على أَسْكُفَّةِ( ) المشربة مُدَلّ رجليه على نقير من خشب ـ وهو جذع يرقى عليه رسول الله وينحدر ـ فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم رفعت صوتي فقلتُ: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فإنّي أظنّ أنّ رسول الله ظنّ أنّي جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنَّ عُنُقَها، ورفعت صوتي، فأومأ إليّ أن ارقَه، فدخلت فسلّمت على رسول الله ، فإذا هو متّكئ على رَملِ حصير( ) قد أثّر في جنبه، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلمتُ ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية؛ آية التّخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ}، {وَإِن تَظَاهَرَا َعَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ ، فقلت: أطلّقت ـ يا رسول الله! ـ نساءَك؟ فرفع رأسه إليّ وقال:» لا «، فقلتُ: الله أكبر! لو رأيتنا يا رسول الله! وكنّا معشر قريش، قوماً نغلِب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ما تنكرُ أن أراجعك؟ فوالله! إنّ أزواج النبي ليراجعنَه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى اللّيلة، فقلتُ: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله ، فقلتُ: يا رسول الله، قد دخلتُ على حفصة فقلتُ: لا يغرنّكِ أن كانت جارتكِ هي أوسم منكِ وأحبّ إلى رسول الله منكِ، فتبسّم أخرى، فقلتُ: أستأنس يا رسول الله؟ قال:» نعم «، فجلستُ، فرفعتُ رأسي في البيت فوالله! ما رأيتُ فيه شيئا يردّ البصر إلا أُهُبا ثلاثة، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع ومثلها قَرَظًا( ) في ناحية الغرفة، وإذا أُفِيقٌ( )معلّقٌ، قال: فابتدرت عيناي قال:» ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟ «، قلتُ: يا نبيّ الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثّمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك، فقلت: ادعُ الله يا رسول الله! أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والرّوم، وهم لا يعبدون الله! فاستوى جالسا ثم قال:» أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجِّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا، يا ابن الخطّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ « قلت: بلى، فقلت: استغفر لي، يا رسول الله! قلتُ: يا رسول الله، إنّي دخلتُ المسجد والمسلمون ينكُتون بالحصى، يقولون: طلّق رسول الله نساءَه، أفأنزلُ فأخبرهم أنك لم تطلّقهنّ؟ قال: (( نعم، إن شِئت )) فلم أزل أُحدِّثه حتى تَحَسَّر الغضب( ) عن وجهه، وحتى كشَر فضحك ـ وكان من أحسن النّاس ثغرا ـ ثم نزل نبيّ الله ونزلتُ، فنزلت أتشبّث بالجذع ونزل رسول الله كأنّما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده، فقلتُ: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال:» إنّ الشهر يكون تسعا وعشرين « فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي:لم يطلّق رسول الله نساءَه، ونزلت هذه الآية: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطونَهُ مِنْهُم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التّخيير. رواه البخاري ومسلم.
بعض فوائدها
ـ أوَّلها أن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة كان قد بلغهم أن مَلِك غسّان يدبِّر لهم شرا، فلم يثنهم هذا عن طلب العلم بزعم تتبّع الأخبار! ومع الأسف الشديد إنك لتدخل المكتبات العامة التي يرتادها طلبة العلم الشرعي فتجد أكثرهم في جانب المجلات و( الدوريات ) يستطلعون الواقع! مع أن المكتبات زاخرة بكتب التوحيد والتفسير والسنة، ولا تكاد جموعهم تكثر ههنا إلا لبحث مدفوع إليه دفعاً لنيل شهادة أو لدراهم معدودة! اللهم إلا القليل الذين حُبِّبَ إليهم الدين حقيقة. ويالله العجب! فكم هم الذين ليست لهم أوراد يومية من الأذكار النبوية، مع أن وِرْدهم مع الإذاعات والجرائد آنية!! والله المستعان.
ـ و منها التحذير من إشاعة الأخبار التي وصفها بالخوف والأمن، والسياسة ـ من هذا الباب ـ إمّا خبر سار آمن، وإمّا خبر مخوف محزن، وتجد اليوم عمدة السياسيين الجلَّى على تتبّع الأخبار، وتراهم يُفنون أعمارهم في دراسة طرق إذاعتها بدقّة، حتى يتمكّنوا من تخويف المؤمنين وتأمين أعداء الدين، ومن تأمّل أحوال الإسلاميّين ـ الذين يتوسّلون إلى توعية أتباعهم من الخواص والعوام بتحليل الأخبار السياسية والتّظاهر بسعة الاطّلاع فيها ـ من أشدّ الناس تأثّرا بإرجافها، ممّا يبعث في نفوسهم فزعا شديدا من أعدائهم، حتى إنهم ليحسبون كل صيحة عليهم، وأنّ كل هزيمة فمن مكرهم بهم، مع هذا فهم يَظهرون للسّذج شجعانا إذ ظنّوهم يصدعون بالحق، ومن أمارات هذا التّأثّر أنك لو قلت لهم دعوا العوام لا تشغلوهم بالقضايا السياسية، ولا تخدموا أعداءكم بإذاعة أخبارهم، لأنّها توهن المسلمين في استضعافهم، وليسعكم قول الله تعالى حينئذ {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قالوا في جرأة لا تحترم النّصوص: " وهل نبقى مكتوفي الأيدي مع أعداء ماكرين؟ "، ولم يتدبّروا أنّ الله المطّلع على كيد الأعداء أمر بالصبر بعد أن بيّن مكرهم الكبار كما قال في هذه الآية: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، هذا مع أنّ كفّ الأيدي في زمن ما ممّا أمر الله به حين قال: {أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..}، وهو شريعة محكمة ما وُجد زمنها، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف أو في وقت هو فيه مستضعَف، فليعمل بآية الصبر والصّفح والعفو عمّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوّة فإنما يعملون بآية قتال أئمّة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزية عن يد وهم صاغرون "( ).
بهذا يتبيّن لنا سرّ منع الله تعالى المؤمنين أن يشغلوا أنفسهم بالعدّة الماديّة في الوقت الذي هم في حاجة إلى العدّة الإيمانيّة، والجمع بينهما ـ كما يتخيّله المحاولون الاعتدال والتّوسّط ـ في وقت افتقارهما وافتقار السلطان خطأ واضح وخلاف السّيرة النبوية؛ لأنّه لا بدّ أن تطغى إحداهما على الأخرى، ولمّا كان الإنسان أكثر إيمانا بعالم الشّهادة من عالم الغيب، فإنّه لا بدّ أن يميل إلى الاستعداد المادّي الذي يمثّل عالم الشّهادة حتى يفقد أعظم روافد النصر وهو التوكل على الله، إغراقا في التوكل على الأسباب، مع أنّ الله يقول: {إن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخْذ لْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}.
وتأمّل كيف جعل الرّسلُ عليهم الصلاة والسلام الصبرَ على الأذى، من التوكل قال الله تعالى حكاية عنهم {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُون}.
إذن فالبدء بالاستعداد الإيماني ثم إتباعه ـ بعده وليس معه ـ بالاستعداد المادّي كما قال الله تعالى للمؤمنين في المدينة الذين حقّقوا أصل الإيمان في مكّة: {وأَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}.
خلاصة هذه الفائدة: التحذير من إشاعة الأخبار؛ لأنّها تحمل معها أمنها أو خوفها، والنّفوس ضعيفة، هذا مع ما فيها من شهوة التّطلّع إلى الواقع، خاصة واقع الكراسي؛ فإنّ الأفئدة تهوي إليها معرضة عن الوحي، وإليك هذه العبرة:
عن سَعد في قول الله : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، قال: أنزل الله القرآن على رسوله فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو قَصَصْتَ علينا؟ فأنزل الله تعالى: {الـــر . تِلْكَ ءايَاتُ الكِتَابِ المُبِين} إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، فتلاها رسول الله زمانا( )، فقالوا: يا رسول الله! لو حَدَّثْتَنا؟ فأنزل الله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشابِهاً} الآية، قال: كل ذلك يُؤثَرون بالقرآن ( وفي موارد الظّمآن: كل ذلك يؤمرون بالقرآن ) قال خلاّد: وزاد فيه آخر، قال: قالوا: يا رسول الله! لو ذَكَّرْتنَا؟ فأنزل الله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} الآية( ).
فتأمّل هذه التربية الربانية والرّعاية النبوية للصّحابة وقد عرفت ثمارها فيهم، وتأمّل تربية من يستجيب لرغبة العوام فيفسدهم بالأخبار السياسية ويهيّج الشباب بلا فائدة، ثم هو يتململ قائلا: لماذا يتخلّفون عن دروس العلم الصحيح التي فيها تلاوة الوحيين، بل وتعلّم العقيدة الصحيحة التي هي مفتاح الجنة، ويزدحمون على الدّروس السياسية التي تروّعهم، بل تتخبّطهم تخبّط الجِنّة.
وإن تعجب فعجب قول ناصر العمر في شريط ( السعادة بين الوهم والحقيقة ): " هذه قصة عجيبة تابعتُ فصولها على مدى خمسة عشر عاما ... وقد تابعت شخصيا هذه القصة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وهي قصة
( كرستينا أوناسيس )! "( )، فسئل: " ما هو قولك في تتبع قصص الكافرين في هذا الزمان الذي حلت عليه المحن والفتن؟ ".
فأجاب: " إذا كان فيها عبرة فلا بأس! فهذا القرآن مليء بقصص الكافرين ... فإذا كان تتبعها من أجل العبرة ومن أجل العظة فهي من الأمثال التي تضرَب في ذلك، فإنه على خير! لا من أجل الاقتداء وأجل العظمة، لا ولكن من أجل أن نتجنب سبيلهم {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ المُجْرِمِينَ}، من أجل استبانة سبيل المجرمين فإنهم .. يحسن هذا الأمر، أما إذا خشي على نفسه فلا! ".
قلت: هل تعني أن النبي كان يفعل ذلك؟ مع أنك لو تأملت القصص النبوي لألفيته مما لا تطوله يد الواقع؛ لأنَّ جلّه عن بني إسرائيل والأمم السابقة مما لا يعرف إلا بالوحي، ولذلك كثيرا ما كان يقول عليه الصلاة والسلام:
" لقد كان فيمن كان قبلكم كذا وكذا ".
ثم هل استبانة سبيل المجرمين تكون بتضييع أعمار المسلمين؟! وهل يَفِي بهذا عمر نوح عليه السلام؟ وهل استنتاج أن السعادة ليست في جمع المال يستلزم منك توريط الشباب في متابعة القصص الغرامية؟! إن الذي يتتبع قصة هذه اليونانية ويقرأ لها أياما متتابعة لا بد أن يعشقها فكيف وهي ربع عمر الإنسان؟! لقد كان يكفيك قول الله {ما أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه} للحذر من فتنة المال!
أما تذكر نهي النبي لعمر عن تتبع ما في صحيفة التوراة؟ مع أن هذا أولى وأهم مما ذكرتَ، بل إنَّ الله نهى نبيَّه عن متابعة خبر أهل الكهف إلا ظاهرا دون الغوص في تفاصيلها مع أنهم فتية مؤمنون فقال: {فَلاَ تمُارِ فيهِمْ إِلاَّ مِرَاءاً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فيهِم مِنْهُمْ أَحَداً}.
إن زعم ( استبانة سبيل المجرمين ) ـ على فهمكم ـ هو الذي أمْلى على جبهة الإنقاذ عندنا اقتناء الهوائيات المقَعَّرة ( الدُّش )، بل لم يُعرَف زمن انتشرت فيه هذه الأجهزة انتشاراً واسعاً إلا أيامها، لحماية دولتهم الوهمية زعموا! وقد كانوا يطوفون على البيوت لمَدِّها بأسلاكها، فلما ذهبت ريحهم ذهبوا وتركوا الأمة تتقاسم هذا الميراث الخبيث، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ ِمن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}.
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وإذَا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ} دليلاً على أنّ العامي قد يدرك من الواقع ما يخفى على العالم، ولا يعدّ عيباً في العالم؛ لأنّ إحصاء واقع الناس ليس إلا إلى ربّ الناس، لكن العيب فيما إذا أفتى المجتهد في نازلة ولمّا يسأل أهل الاختصاص عن ملابساتها وهو يقدر على ذلك( ). فقد كان يخفى على النبي القليل أو الكثير من واقع الناس، فيأتيه العاميّ بالخبر اليقين فيفتي على غرار ما سمع، وخذ مثالا على ذلك قصّة الثلاثة الذين عزفوا عن الدنيا ... وهل نسيت أنّ الهدهد قال لسليمان : {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، فهذا طائر عَلِم من الواقع مالم يعلمه رسول أوتي من الملك ما لم يؤته أحد من قبله ولا من بعده، بل كان يعلم من واقع الطير والنمل ومنطقها ما هو معلوم، فما لعصافير الأحزاب الإسلامية تتطاول على العلماء، أن رأوا أنفسهم تُحَلِّق في أجواء مكذوبة حسبوها يقين الأنباء؟!! قال العلامة عبد العزيز بن باز: ".. ومما يَكثر فيه الكلام من مظاهر الجهل بالواقع اتّهام بعض أهل العلم والفضل بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، وهذا غير قادح؛ إذ يوجد في الأمة منافق أو زنديق لا يَعلمه العلماء ولا يَعرفون حاله، ولا يُعَدُّ هذا الخفاء عيباً في حقهم، قال الإمام الذهبي في ترجمة الحلاج: كان جماعة في أيام النبي منتسبون إلى صحبته وإلى ملّته وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يَعرفهم نبي الله ولا يَعلَم بهم قال الله تعالى:{ومِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ}، فإذا جاز على سيِّد البشر أن لا يَعلَم ببعض المنافقين ـ وهم معه في المدينة سنوات ـ فبالأولى أن يَخفَى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده على أمته ... "( ).
من أجل هذا لم أذكر هنا هذا العلم أعني المسمّى ( فقه الواقع ) في صفات المجتهد. ومن مظاهر الغلوّ فيه أنّني سمعت مرارا من يتناقل قصّة عن الشيخ محمد ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ يريدون إدانته بجهله بالواقع زعموا( )، فيقولون:
" لقد نُبِّه الشيخ على وجود مجلاّت خليعة بالأسواق، وفي كل مرّة ينكر ذلك؛ لأنّه لم يرها، فبينما هو في درسه إذ دخل عليه من رمى بالمجلّة في حجره، فقام الشيخ بعدها فكتب في التحذير منها ومن الأفلام! ".
أقول: إن صحّ هذا فإنّه لا يقدح في الشيخ ولا في علمه، كما لم يقدح في النبي عدم علمه بمثل ما ذكرته آنفا، ولا في عمر ولا في ابن عباس عدم علمهما بواقع قصّة الطلاق، بل هذا يزيد الشيخ ابن عثيمين منقبة على منقبة؛ لأنّه يدلّ على انكبابه على العلم تعلّما وتعليما وشغل وقته به، حتى لم يجد فراغا للتّطلّع على ما في الأسواق، وأنّ قراءة المجلاّت ليست عنده ذات أشواق، وكأنّ لسان حاله ينشد:
مُنـايَ من الـدنيـا علـومٌ أبثُّـهـا وأنشرُهـا في كـل بـادٍ وحـاضـرِ
دعـاءٌ إلى القـرآن والسّنـة الـتي تناسَى رجالٌ ذِكْرَها في المحـاضـرِ
وقـد أبـدلـوها بــالجرائـد تـارة وتلفـازهـم رأس الشرور المنـاكـرِ
ومِذْيـاعهم أيضا فلا تَنْسَ شـرّه فكم ضاع من وقت بها بالخسائرِ( )
ولا أدري لماذا يوردون هذه القصة في كل مرّة إلا أن يكون في الأمر ما يأتي:
ـ ومنها أنّ العيب الأعظم أن يتصدّر العامي أو طالب العلم مجالس فقه الواقع بحجّة تقصير العلماء فيه؛ وهذا خطأ لأنّ الله حين نعى عليهم إذاعة الأخبار، لم يأمرهم بتحليلها ولكن بردّها إلى أهلها كما قال سبحانه: {ولَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وفي مخالفة هذه الآية خيانة للأمانة التي أمر الله بأدائها إلى أهلها {ِإنّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه}، وفي مخالفتها خراب الدنيا، فعن أبي هريرة قال: بينما النبي في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابيّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: » أين ـ أُراه ـ السائل عن الساعة؟ «، قال: ها أنا يا رسول الله! قال: » فإذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة «، قال: كيف إضاعتها؟ قال: » إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة « رواه البخاري..
فعجباً لقوم وسّدوا هذه الأمور إلى طلبة العلم! بانين على أوهام الشباب علاليَ وقصورا، فتارة يريدون مجلساً للشّورى بالسعودية للتسلل فيه، وتارة يريدون لجنة لحقوق الإنسان الشرعيّة، ونهايتها التّملّص بل التّخلّص من جمود هيئة كبار العلماء زعموا! وكان عاقبة ذلك خسرا( ).
وهاك ضياء من هدي السّلف :
ـ عن يحيى بن يَعْمَر قال: " كان أوّل من قال بالقدر بالبصرة مَعْبَد الجُهني، فانطلقتُ أنا وحُميد بن عبد الرّحمن الحِمْيَري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنّ صاحبي سيكِل الكلام إليّ فقلتُ: أبا عبد الرّحمن! إنّه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقَفَّرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أُنُف.قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنّي بريء منهم، وأنهم برآء منّي.والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنّ لأحدهم مثل أُحد ذهبا فأنفقه، ما قُبِل منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدّثني أبي عمر بن الخطّاب قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب، شديد سواد الشّعر، لا يُرَى عليه أثر السّفر ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال
رسول الله : » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا «، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: » أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه «، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: » أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك «، قال: فأخبرني عن الساعة قال:» ما المسئول عنها بأعلم من السائل « قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: » أن تلد الأَمَةُ رَبَّتَها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان «، قال: ثم انطلق، فلبث مليّا ثم قال لي:» يا عمر أتدري من السائل؟ « قلت: الله ورسوله أعلم، قال:» فإنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم « رواه مسلم.
والشاهد منه أنهم حين واجههم واقع لا يعرفونه من قبل وهو ظهور القدر، عرفوا أنّ أصحاب رسول الله هم مرجعهم في علاجه لأنهم أعلم الخلق يومئذ، بل جاء في رواية أنهم لَقوا بعض الصحابة فلم يسألوهم وإنما قصدوا أعلمهم يومئذ؛ فقد قال الراوي: " فلما أتينا المدينة لقينا
أناساً من الأنصار فلم نسألهم؛ قلنا: حتى نلقَى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري ... "( )، ولذلك وجدتُ العلامة محمد ابن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بوَّب لهذا الحديث في » كتاب التوحيد « بقوله: " باب ما جاء في القدَر " وذكر فيه مسائل منها قوله: " الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء "( ).
قلت: ومِن قَبله بوّب النسائي له في (( السنن الكبرى )) (3/446) بقوله:
" توقير العلماء " لما فيه من توقير جبريل للنبي ، فاجعل من السلف قدوتَك تكن سلفيّا وإلا ...
ـ وروى الدارميّ قال: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنا عمرو بن يحي( ) قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه قال: " كنّا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلمّا خرج قمنا إليه جميعا، فقال أبو موسى الأشعريّ: يا أبا عبد الرحمن! إنّي رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة، فيكبّرون مائة، فيقول: هلّلوا مائة، فيهلّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبّحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاَ انتظار رأيك ـ أو انتظار أمرك ـ قال: أفلا أمرتهم أن يَعُدّوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء؛ وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيّكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنّكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد؟ أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله، يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إنّ رسول الله حدثنا أن قوما يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايْمُ الله، ما أدري لعلّ أكثرهم منكم؛ ثم تولّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج "( ).
فخذوا العبرة أي إخواني! من صنيع أبي موسى ، فهو لا يقضي بشيء فيما هو نازلة في زمانه حتى يعرضه على الفقيه، مع أنّه من الفقه بمكان مكين! أليس هذا المنهج عاصمة العواصم، وفاضحة كل متعالم؟!
يا ليت شعري ما ضرّ شبابنا ودعاتنا لو أخذوا بهذا الأدب فيما يَجِدُّ من قضايا العصر وقد كثرت، وبه يقلّ نصيب الشيطان من صف المسلمين {إنّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً}. وتأمّل أيضاً فراسة مجتهدهم ابن مسعود حين بان له غيب مُرٌّ من رؤوس تلك الحِلق، فقال:
" وأيم الله! ما أدري لعلّ أكثرهم منكم "؛ أي: عرف أنهم للخوارج أنساب، وقد كان الأمر كما أخبر، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين}، ولذلك قلتُ:
ـ ومن فوائد قصة الطلاق فراسة عمر ، حيث استنبط من هذه النازلة التي يجهلها ما نزل القرآن بتصديقه، ولذلك قال: " فكنتُ أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله آية التخيير"،وهذا يذكّرني بفراسة أحد كبار محدّثي وفقهاء هذا العصر، وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ومتّع المسلمين بعلمه ـ حين سئل عن جماعة ظهرت في هذا العصر، وهي جماعة الدعوة والتبليغ، فكان من جوابه أن قال: " ... هذه صوفية عصرية! "، قالها يوم قالها متفرِّساً، على حسب ما رأى وبلغه عن الجماعة، ثم أعادها بعد سنوات، وبالضبط في هذه المدّة القريبة مع شرح لهذه الكلمة، وأنّه يعني بيعة هذه الجماعة لأربع طرق من فرق الصوفية ـ لعلها أضلها، وهي: النقشبندية، والجشتية، والقادرية، والسهروردية. والشيخ في المرّة الأولى لم يكن على علم بهذه البيعة، لكن كيف وقعت فتواه مطابقة لواقع القوم؟ الجواب: قال الله تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
هذا قاله الشيخ من زمان بعيد ثم يشاء الله أن يجتبي عبداً من عباده قد خَبَر القوم مدّة طويلة، فأعلنها صريحة( ).
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} دليلاً على أنّ أخبار الواقع ترجع إلى أهل العلم والسلطان؛ فهم أولو الأمر، ثم من هؤلاء جماعة تتولى استنباط الأحكام الشرعية لهذا الواقع، وليسوا كلهم؛ لأنّ الله قال: {مِنْهُمْ}، قال الطبري ـ رحمه الله ـ: " يعني جلّ ثناؤه {ولَوْ رَدُّوهُ} الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين، إلى رسول الله وإلى أولي الأمر، يعني: وإلى أمرائهم، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله أو ذوو أمرهم هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك بعد أن تثبت عندهم صحّته أوبطلانه، فيصححوه إن كان صحيحاً أو يبطلوه إن كان باطلاً ..."( ).
قلتُ: ولذا فرمي بعض أهل العلم بالانزواء والانطواء على أنفسهم ظلم؛ لأنّ الله تعالى لم يفرض هذا العلم إلا على الكفاية بصريح هذه الآية. ولو كانوا مصيبين في انتقادهم لكانوا مخطئين؛ لأنهم لما تفقّهوا في الواقع ـ وقد رأوا أنفسهم أهلاً لذلك! ـ فقد كَفَوْا غيرهم هذه المؤنة، فعلامَ العتاب علامَ؟!
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ: " فإذا كان بعض الأحزاب يدّعي أنّه يعرف فقه الواقع وما يدبَّر للمسلمين، فلماذا تلوم السّلفيين وتصفهم بالغفلة عن واقع الأمّة، وقد سقط عنهم هذا الواجب بقيام غيرهم به؟! ".
قلت: فافهم هذا ـ رحمك الله ـ وأنصف! وقال: " ولا يجوز أن يُنال من العلماء والدّعاة الذين تشغلهم واجباتُهم العلمية والدّعوية عن متابعة الصّحف والمجلاّت وتقارير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وغيرها؛ مكتفين بمتابعة غيرهم لهذه الأمور، وهذا ما يقتضيه العقل والشرع لا العواطف العمياء، فقد فرغ العلماء من بيان واجبات الأعيان وواجبات الكفاية "( ).
وهذا يذكِّرني أيضاً بذلك الحوار العلمي الماتع بين الشيخ الألباني والشّابّ ناصر العمر، حيث كان هذا الأخير يقرأ فصولاً من كتابه » فقه الواقع «، فكان كلما أدخل طلبة العلم في هذا الفقه، يقول له الشيخ: اشطُب على كلمة ( طلبة العلم ) وضع بدلَها ( بعض أهل العلم )، فتأمّل هذا وعضّ عليه بالنواجذ!
ـ ومنها أن مخالفة هذا المنهج يفتح شرّاً مستطيراً على الأمّة لقول الله تعالى في ختام آية الباب: {ولَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً}، وباتّباع الشيطان تَحصل الفرقة؛ كما قال الله تعالى: {وقُل لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنّ الشيْطانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنّ الشيْطَانَ كانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}. وسبحان من هذا وحيه! فمنذ أن دخل طلبة العلم العمل السياسي مخالفين هدي الأنبياء وقعت فُرقة عظيمة؛ إذ لم أعرف بالجزائر زمناً تفرقنا فيه شذر مذر، وتمزّقنا فيه كل ممزّق إلا يوم نُصب لنا الحَبُّ على الفخُّ السياسي، فمدَّ إليه بعض طلبة العلم ـ إن حسنّا بهم الظّنّ ـ أيديهم! لقد كان الواحد يستأنس بأخيه إذا عرفه بزيّه الإسلامي، ويسلّم عليه مهما بعُدَ عنه، وأما اليوم فودّ لو أنّه لم يره؛ لأنّه لا يدري أيردّ عليه السلام أم لا؟! ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ومن سنوات وأنا أتردد على البلاد السّعودية ـ والحمد لله ـ، فكنت أرى من طلبة العلم من يفتي في السياسة ويدرِّسها درساً عاما من غير تمييز، هل هو من أهلها؟ وهل الحضور مطالبون بها؟ فعرفت أنّه نذير شرّ، خاصة في تلك البلاد التي أغناها الله بعلماء كبار، هم أحوج ما يكونون إلى من يعينهم في الدعوة، لا أن تُسرق منهم الفتوى السّياسية بزعم أنهم يعينونهم فيها أو يكمِّلونهم، فكم سمعنا لهؤلاء الشباب من فتاوى سياسية مستقلة ومخالفة لما عليه هؤلاء الشيوخ، وما قضية الخليج عنكم ببعيد، فقد كانت البئر بغطائها، فلمّا كانت هذه القضية فاض وفاح ما فيها( ).
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي: " وليس لأحد أن يلقي بثقل هذه الواجبات على طلاّب العلم؛ فإن هذا من إسناد الأمر إلى غير أهله، وهو من أشراط الساعة، وهو ممّا يؤدّي إلى الفساد والإفساد والفتن، وليس ممّا يفيد الأمّة أن يصير الشباب بأجمعهم من أساطين السياسة ولا من شبكات التّجسس! فإن هذا ممّا يؤدي إلى الجهل بالعلوم الشرعية، وإلى تقسيم الأمّة إلى أحزاب سياسية متناحرة، كل حزب يريد أن ينفرد بالحكم، وكل فرد يريد أن يَعْتَليَ عرش الإمامة والرئاسة "( ).
وقال عن جناية هذا الفقه ـ إن صحّت تسميته بذلك ـ على العلم: " في المتغالين في السياسة تهاويل وتطاول لا يطاق على أهل الحديث والتوحيد، وغمط شديد، وتجهيل وتحقير، ورمي لهم بالعظائم، فمن غلوّهم ومبالغاتهم التي لا عهد لأعلم علماء الإسلام بها تهويلهم بعلم الواقع، وادعاؤهم وادعاء الصبيان منهم أنهم علماء الواقع، وتجنيدهم الشباب لقراءة الصّحف والمجلاّت ومتابعة الإذاعة، وصرفهم بذلك عن حفظ الكتاب والسّنة، والاشتغال بفقههما، وإشغالهم عن العلوم الشرعيّة "( ).
ثم كل من تتبّع فتنة الحرم المكّيّ المشهورة عند رأس هذا القرن، وما وقع في سوريا ومصر، يرى جماعات تخرب بيوتها بأيديها، وليس معها أهل العلم الذين وصفنا لك. واليوم في الجزائر أيضا، وقد اعترف علي ابن حاج لجماعته بعدم وجود كفاية من أهل العلم في صفوفهم، فقال في رسالته إليهم المؤرخة في ( 15/10/1994م ) في ق (3): " وأنا أعلم أنه لو وُجد معكم عدد كافٍ من الدعاة وأهل العلم لما وقعت بعض هذه الأخطاء الشرعية الفادحة!!! ".
هذه صورة الورقة الأولى من رسالة علي بن حاج إلى الجماعات المسلّحة التي فيها ما سبق ذكره
هذه صورة آخرها مع توقيعه
هذا وكل هؤلاء ـ وخاصة منهم الإخوان المسلمون ـ يرون أنفسهم عالمين بالواقع ويضحكون على العلماء السّلفيين، مع أنّ التّاريخ الحديث برهن بلا خفاء على أنّه لا يُعْرَف في المسلمين أغبى وأجهل بالواقع منهم؛ وإليك بعض الأمثلة التي تبيّن سرعة تغرير أعدائهم بهم:
ـ مَن هم الذين استغلهم الضباط الأحرار بمصر ليصلوا بهم إلى مآربهم ثم يقضوا عليهم؟ آلإخوان أم السلفيون؟
ـ من هم الذين منّاهم بعض الحكام بالعمل بالشريعة، وأظهروا لهم بعض الشعارات الدينية حتى أعطوهم أفئدتهم؟ آلمتبجّحون بفقه الواقع أم السلفيون؟
ـ من هم الذين استهزأت بهم أمريكا في قضية أفغانستان؟
ـ من هم الذين لُعِبَ بهم فيها حتى حكَمهم شرّ المتصوّفة؟
ـ من هم الذين أفتوا بدخول البرلمانات، ووقعوا في شِراك الانتخابات، محسِّنين ظنونهم بالديمقراطيات، مصدِّقيها حين وعدتهم بالحكم إن كانت لهم الأصوات؟ وكانت نهايتها زيارة السّجون، وعدّ المقاعد في الأموات؟!
ـ من هم الذين خدعهم الخميني بدولته الرّافضية يوم سقط الشّاه؟ آلسّلفيون أم الحركيون عن بكرة أبيهم؟!
ـ من هم الذين حرّموا الاستعانة بأمريكا وحلفائها في قضية الخليج، ثم استعانوا وسكتوا عمن استعان بالمليشيات الشيوعية في أفغانستان، وكذا استعانة الأكراد في شمال العراق بالغرب، وكذا استعانة مسلمي البوسنة والهرسك ببعض النصارى، وكذا شدّ حزب جبهة الإنقاذ الجزائرية رحاله إلى الفاتيكان بإيطاليا، وقد استنجدوا به مرّتين، واجتمعوا هناك تحت إشراف النصارى! يريدون حَلَّ مشكلتهم عند من كانوا ولا يَزالون سبب مشكلتهم!! {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعيداً} ويا له مِن ذُلّ! ... مما يدلّ على أن هؤلاء المحرِّمين المحلّلين يستغلّون الدين ولا يتبعون الدين!
ـ من هم الذين غرّهم زعيم البعث العراقي أيام حربه مع الرّفض الإيراني حتى شبّهوه بفاتح القادسية؟! اسألوهم عن ذلك، ومنهم عبد الرحمن
عبد الخالق! ولماذا غيَّر رأيه فيه بعد حرب الخليج!!!
ـ مَن مِن الحركيين لم يكن مع العراق بل مع صدام المستولي على الكويت؟ حتى زارنا ـ شانيء السّلفية ـ إسماعيل الشّطّي متذمّراً من إخوانه ( الإخوان ) الخاذلين الكويت وهو كويتي!!
وتالله إنّها لإحدى الكبر! نذيرا لمن أراد أن يتبيّن مبلغ وعي متتبعي سياسات البشر! يا لها من مهزلة! صلّى صدام للتلفزيون ركعتين فإذا بالأمم والشّعوب الإسلامية بدعاتها ـ حاش السلفيين ـ وراءه بالنفس والنفيس!
ومع هذا كله تسمُّون هؤلاء المراهقين السياسيين اليوم: ( شباب
الصحوة! ) وتشتغلون بالسياسة وتتظاهرون بالكياسة، وأنتم أول من يضحك عليه الصياد، وبيننا وبينكم يوم المعاد.
لذلك فلا غضاضة في أن أقول: لو خرج رجل من اليهود في ديار المسلمين، وتظاهر بزيّ المسلمين، بل ولو تظاهر بزيّ الكفار لكنه يحفظ آية واحدة من القرآن، وهي قوله تعالى: {ومَن لَمْ يَحْكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ}، وأحسَنَ ترديدها في المجالس العامة بلهجة عاطفية، وبهرج بأخبار الكفار، واللّعب على العواطف بالتظاهر ببغض أمريكا، ثم نادى: يا فلسطين! لما تخلف عنه أحد من الحركات الإسلامية، ولقادهم جميعاً لا إلى فلسطين، ولكن إلى مجزرة تل أبيب!! وإلى الله المشتكى.
فكيف لو خرج عليهم الدّجّال يحيي الموتى، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتخرج؟! وقد قال ابن سيرين: " لو خرج الدَّجَّال لرأيت أنه سيَتبَعه أهلُ الأهواء "( ).
كتبتُ هذا ثم تذكرتُ أن أخصّ أهل الأهواء الذين يَخرج في صفوفهم الدجّال هم الخوارج، لتقارُبِ ما بينه وبينهم من فتنة وفكر أهوج، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: » ينشأُ نَشْءٌ يقرؤون القرآن لا يُجاوِز تراقيهم، كلما خرج قرنٌ قُطِع « قال ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: » كلما خرج قرنٌ قُطع « أكثر من عشرين مرة: (( حتى يَخرج في عِراضهم الدَّجَّال ))( ).
كتبتُ هذا ثم فوجئتُ بدعوة رجل يقال له محمد المسعري، لم تسَعْه أرض الله حتى اختار لنفسه ديار الكفر ببريطانيا، يكتب عن الإسلام مع أنه لا هو في العير ولا في النفير، تبعته جماهير غفيرة وهي لا تعرف عنه إلا كلامه السياسي في صورة استرجاع المظالم!!
هذه صورة عن بعض ما ينشره محمد المسعري الناطق الرسمي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية
قال العلامة عبد العزيز بن باز في صاحب هذا المنشور: " .. مِن الحاقدين الجاهلين الذين باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان من جنس محمد المسعري "( ).
قلتُ: ولا بدّ من تذكّر أنه لا يكاد أحد يجهل عفّة لسان الشيخ ابن باز، فإذا سلَّط لسانه على أحد فثَمَّ أمر عظيم! وصورة هذا المنشور تدلّك عليه، بل وتُعَرِّفك بمبلغ علم صاحبه ودينه، ومع ذلك فقد وجد لدعوته رَواجاً في سوق أصحاب ( الصحوة! )، وكيف لا تروج بضاعتُهم وسلمان العودة ـ هدانا الله وإياه ـ دعا في الوجه الثاني من شريط » أخي رجل الأمن « إلى تأييد لجنة هذا الرجل الموتور فكيف بالأتباع؟!!( ).
ولذلك وجدتُ ابن بطّة العكبري يقول في زمنه: " والناس في زماننا هذا أسرابٌ كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدّعي النّبوة، مع علمهم بأن رسول الله خاتم الأنبياء، أو من يَدَّعي الربوبية لوَجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً "( ).
ولعلك لاحظت أنه ما من دعوة يراد لها رواج إلا استُغِلّ في ذلك القضايا السياسية، كما هو بادٍ مما أبرزته في هذه الصورة. وكذلك فعلت مجلة
» السنة « ـ التي يستقي منها ( شباب الصحوة! ) أخبار العالم ـ فقد جمعت في عشّها البريطاني رويبضات الزمن وتجرّأت على النيل من علماء السنة؛ فهي بالأمس في عدد رمضان 1413هـ أخذت تقدح في عرض أحد كبار العلماء السلفيين، وهو الشيخ محمد أمان الجامي ـ رحمه الله ـ، ولم تَعرِف له سابقته في العلم والدعوة، ولا وَقَّرته في سنّه، حتى جعلت تستهزيء بلهجته، وتقول: إنه ينطق الحاء هاء؛ ومثَّلت بكلمة ( مُلْهِد! ) بدلاً من ( مُلْحِد! )، نعوذ بالله من قلة الحياء! بله من فَقْد الحياء!!
بل حتى العلامة الألباني لم يَسْلَم من طعنها اللاذع بقلم محمد سرور زين العابدين! وهي اليوم تستغل قضية الصلح مع اليهود لتؤجِّر أحدهم فيطعن في العلامة عبد العزيز بن باز( )، واستنجد في ذلك بالدكتور يوسف القرضاوي الذي رمى الشيخ بأنه يُفتي فيما ليس له به علم! وذلك قوله: " وهل الشيخ علىعلم حقًا بما يجري حتى يُدْلي بدَلْوه في هذا الوقت بالذات، وفي مثل هذا الموضوع الخطير؟ ..."( ). ثم أخذ كاتب » السنة! « يفصح عما في نفسه قائلا: " هل يَعرف الشيخ ما معنى المستعمرات الاستيطانية؟ لا أظن! كما لا أظن أنه ـ في هذه السن ـ يمكنه أن يَدَع أحدا من تلاميذه أن يشرح ويوضح له هذا المصطلح وما يترتب على استيطان هؤلاء اليهود .. ".
قلتُ: إذن فالشيخ لا يَعرف ولا يحب أن يَعرف؛ لأن كبَر سنّه وَرَّثه كبْرا عن تقبل النصح!!
ومع هذه التهم الهالكة فإن الشيخ ـ في أدبه الذي لا يُشَقّ له فيه غبار ـ لم يَزد على أن قال بعد البيان العلمي: " ما ذكرناه في الصلح مع اليهود أوضحنا أدلته الشرعية ... فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان "( ).
قلتُ: كان الأولى بالدكتور القرضاوي ألا يفتح هذا الباب بمثل ذاك الطعن المرمَّم بسؤال! بل كان الأولى به أن يبري قلمه لتقويم جماعته ( الإخوان المسلمون )؛ فقد نادوا بلا استحياء أن النصارى إخوانهم، وقالوا في بيانهم المؤرخ في ( 30 من ذي القعدة 1415هـ ): " وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم شركاء في الوطن، وإخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي... ومن قال غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل!!! "( ). وجعلوا الشورى الإسلامية أختاً للديمقراطية الكافرة فقالوا: " وإذا كان للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام فإنها تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي ". وفيه دعوتُهم الحكومةَ أن تلتزم بالقانون الوضعي لا الشريعة فقالوا: " .. بإصرار الإخوان على مطالبة الحكومة بألا تقابل العنف بالعنف، وأن تلتزم بأحكام القانون والقضاء "، بل رضوا لأنفسهم ذلك فقالوا: " ولكنهم ( أي الإخوان ) ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون .. ". ولم يقولوا هذا تَقِيّة منهم، ولكن عن قناعة كما شهدوا على أنفسهم قائلين: " والأمر في ذلك كله ليس أمر سياسة أو مناورة، ولكن أمر دين وعقيدة، يلقى ( الإخوان المسلمون ) عليها ربهم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنوُنَ إلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ".
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! آجركم الله في مصابكم يا د/ يوسف! لِمَ لا توجِّه نقدك إلى هؤلاء؛ فإن الأقربين أولى بالمعروف؟ بل أعِدِ البنيان من أساسه، فإن الأمر لايجبره الترميم؛ إذ الخلل عقدي وقديم كما صرحوا بذلك فيما سبق، ولقد صدقوا؛ فقد نقل محمود عبد الحليم ـ وهو من أعمدتهم ـ ماسمعه بنفسه من محاضرة حسن البنا قوله: " فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن حضّ على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية، وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقا {ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتي هِي أَحْسَنُ} وحينما أراد القرآن الكريم أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية ..!!! "( ).
كان الأولى بالدكتور أن يراجع كلمة قطبه هذه؛ فهي خطأ فادح! وأين خطأ العلامة ابن باز ـ لو كان خطأ ـ من هذه التي صرح بعض أهل العلم فيها بأنه ليس بينها وبين الكفر حجاب؟
أهذا التحامي للباطل غيرةٌ على الدين وحربٌ على اليهود أم هي حرب على المنهج السلفي؟!
شكوتُ إلى القرضاوي ما قاله شيخه البنا، فإذا بي أجدني ضيَّعتُ شكواي، لأن القرضاوي نفسه على دربه يسير؛ حيث قال: " فنحن لا نقاتل اليهود من أجل العقيدة!! إنما نقاتلهم من أجل الأرض!! لا نقاتلهم لأنهم كفار!!! وإنما نقاتلهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وأخذوها بغير حق "( ).
قلتُ: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا}.
ثم أعود إلى آية الباب قائلا: فهلاّ أخذتم العبرة من سبب نزول آية الباب، وتدبرتم الفرق بين العوام الذين سارعوا إلى إذاعة خبر تطليق النبي نساءه، حتى كادوا يفتنون أهل المدينة كلها، وبين أناة أهل العلم كابن عباس الذي مكث سنة كاملة لا يقول فيه شيئاً حتى يسأل عمر، وعمر لا يَلْوِي على شيء من الإشاعة حتى يسأل أهل الاستنباط، مع أنه منهم، أجمعين. وهو الذي كان يقول: " تفقّهوا قبل أن تُسَوَّدوا "( ).
وفي » المتواري على تراجم أبواب البخاري «( ): " وجه مطابقة قول عمر للترجمة ـ أي: باب الاغتباط في العلم والحكمة ـ أنّه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم؛ لأنه يغتبط به صاحبه لأنه سبب سيادته ". وقال ابن حجر: " إن تعجلتم الريّاسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة، وتعلّموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية ".
وقال الخطّابي عند شرحه حديث (( يظهر الجهل ... )): " يريد ـ والله أعلم ـ ظهور المنتحِلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقَّهوا في الدين ويرسخوا في علمه "( ).
وفي شريط مسجل من » سلسلة الهدى والنور « (رقم440/1) دار نقاش طويل بين الشيخ الألباني وبين بعض شباب جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، زعم هذا الأخير إغلاق الخَمَّارات وبيوت الفواحش أيام عمل الجبهة في مبالغة مدهشة( )، فأجاب الشيخ بمنع دخول البرلمانات لا يَلْوي على شيء من نتائج التحزّب وذكر سبب المنع فقال:
الأول: أنه خلاف هدي النّبي ؛ إذ لم يدخل مع الكفار بمثل هذا.
الثاني: أن كل من يدخلها لابد أن ينحرف عن الإسلام شيئا فشيئاً.
فزعم أحدهم أن الجبهة لم ( تتنازل ) عن شيء من الدين.
فسأله الشيخ: هل يتعامل بعضهم بالرّبا بحكم أن بعض المؤسسات الحكومية بأيديهم؟.
فأجاب بالإيجاب، ثم بادر الشّابُ إلى سؤال حطّم به مزاعمه الأولى بعد هذه الهزيمة الأولى، فقال: إذا عرَضت لنا قضية فقهية فيها رأيين( )، فيها رأي عند الفقهاء راجح ومرجوح، وإذا ما أخذنا بالقول الرّاجح فيها تسببنا في فتنة أو مشكلة أو تفرقة بين المسلمين، فهل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح لمصلحة وحدة المسلمين؟.
فقال الشيخ: " هذه هي السياسة! هذه هي السياسة! ".
فقال محمد إبراهيم شقرة: هذه السياسة ليست شرعية.
فقال الشيخ: أي نعم، ثم قال: " المسألة في الحقيقة مهمة جدّا، أنا سمعت أن الجبهة أو النهضة ما أدري ـ الأسماء ما حفظتها بعد جيدا ـ فيها ملايين، أليس صحيحاً هذا "؟.
فقال الشّاب مستبشرا: نعم.
قال الشيخ: كم ألف عالم فيهم؟.
فقال الشّاب: ما فيه!.
قال: كم مائة عالم؟.
قال: لا، ما هو موجود!.
قال: طيب من يقودهم ـ يا جماعة ـ هؤلاء؟.
قال: الشيوخ قليلين( ) يعني؟.
قال: هل يستطيع هؤلاء الشيوخ أن يقودوا ملايين؟.
قال: طبعا لا.
قال: هل يمكنهم أن يعلّموا ملايين؟.
قال: أبدا.
قال الشيخ: " إذن أنتم تعيشون في الأوهام، ومن ذلك هذا السؤال الذي أنت تطرحه الآن حينما يكون في هؤلاء الملايين من المسلمين علماء يستطيعون أن يديروا دفة المحكومين من أهل العلم، حينما يوجد فيهم المئات ولا أقول الألوف ليس هناك حاجة أن يطرح مثل هذا السؤال: راجح ومرجوح، هل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح ونترك القول الراجح، هذا: الفقيه هو الذي يجيب عن هذا، وأنا أضرب لكم مثلاً من واقع حياتنا مع الأحزاب، أنا قلت مرة لأحد أفراد حزب التحرير: يا جماعة أنتم تريدون أن تقيموا الدولة المسلمة، وأنتم لا تدرسون الشريعة من أصولها وقواعدها، وأنتم تحتجّون في كتبكم ببعض الأحاديث غير الصحيحة؟! ".
قال: أخي! نحن نستعين بأمثالكم.
قال الشيخ: " هذا الجواب هو أول الهزيمة، لأنه حينما يكون هناك حزب يعتمد على غيره، معناها أنه حزب في قوته غير مكتمل، وكان هذا الرجل قال لي: لا زلتم أنتم تضيّعون أوقاتكم في الكتب الصفراء ... " ثم قال الشيخ عن ملايين جبهة الإنقاذ: " لكن هؤلاء أليسوا بحاجة إلى أطباء بدن؟ لا شك أنه عندكم أطباء بدن بالمئات بل بالألوف، طيب أليسوا بحاجة إلى أطباء ـ كما يقولون في العصر الحاضر ـ في الرّوح؟ هذا أولى وأحوج وأحوج، هل هؤلاء موجودون بتلك النسبة؟ الجواب: لا ... ". ثم أخبر عن مخاطبته حزب التحرير قائلا: " افرضوا أنكم ما بين عشية وضحاها أقمتم عَلَم الدولة الإسلامية، يعني بانقلاب من الانقلابات، لكن الشّعب ما عنده استعداد لأن يُحْكَم بما
أنزل الله، يمكن ... أنتم ... جماعتكم قالوا: قرار رقم واحد، اثنين: ممنوع
ـ مثلا ـ دخول السينماءات، ممنوع خروج النساء متبرجات ... الخ، ستجد
ـ يمكن ـ بعض نسائكم أول من يخالف هذه القوانين الإسلامية! لماذا؟ لأنَّ الشعب لم يُربَّ على ذلك، ومن يربِّي الشعب؟ هم العلماء، وهل كل نوع من أنواع العلماء؟ ... ". ثم تكلم عن علماء الكتاب والسنة العاملين بهما، ثم قال: " لذلك أنا أعتقد أن الجهاد الأكبر الآن هو: هذه الملايين المملينة أن تخرج العشرات من العلماء المسلمين هناك، حتى تتولوا توجيه الملايين إلى تعريفهم بدينهم وتربيتهم على هذا الإسلام، أما الوصول إلى الحكم، فكل طائفة تحاول أن تصل إلى الحكم، ثم تستعمل القوّة في تنفيذ قراراتها وقوانينها، سواء كانت حقّا أو باطلا، والإسلام ليس كذلك ".
ولو أن إخواننا هؤلاء أخذوا بهذه النصيحة الذهبية لجنَّبوا الإسلام والمسلمين الفتنة العظيمة التي يعيشها اليوم كل العالم الإسلامي، وفي كل مرة تؤخَّر الدعوة الإسلامية بعجلة شبابها وانحراف موجِّهيها، ومن استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، والله العاصم.
وأختم بهذه الكلمة التي أرجو من إخواني أن يعوها، وهي:
لئن كان في الخروج على الحكّام من الشّر ما برهن عليه تواطؤ النصوص الشرعية مع الأخبار الواقعية، كما ظهر من صنيع حدثاء الأسنان في كل الأزمان، فشر منه الخروج على العلماء بإهدار حقهم، وعدم اعتماد فتاواهم إلا ما وافق أهواء الحركيين، واستصغار شأنهم في السياسة، ورميهم بعلماء بيت الوضوء! وما أشبهها من الألقاب التي يَنْبِز بها المبتدعة صاغرا عن صاغر العلماء السلفيين كابرا بعد كابر؛ وفي هذا إهدار للشريعة بتجريح حملتها وشهودها، والله الموعد( ).
و لقد كان يقال في الجزائر: " جبهة الإنقاذ لم تركن إلى الذين ظلموا "، فإذا بهم لما دارت عليهم الدائرة، وأسلمهم أتباعهم إلى عدوهم، يكتبون بيانا يطالِبون فيه الدول الكافرة وغيرها بأن تقاطع الجزائر اقتصاديا؛ لأنها غصبت الشّعب حقه في حرية الاختيار! ثم يكتبون آخر يستغيثون فيه بالبرلمانات العالمية، ومعلوم أنه ـ فضلاً عن كونه استعانة بالكفار ـ فهو استغاثة بالبرلمان الإسرائيلي، لأنهم لم يستثنوه ـ كما ستراه هناـ مع علم الجميع أنه أضحى اليوم يتحكم فيها كلها.
وهاكم صورة هذا البيان بعد هذه الصفحة، وهو تنديد جبهة الإنقاذ الإسلامية بالنظام بعد مصادرته قانون الانتخابات، وتوقيفه إثر فوزها في الدور الأول منه. فاقرؤوه لتعلموا ما هو الإسلام الذي تنادي به الجبهة، ولتدركوا مدى صدق ما تنسب إليه من السّلفية===========
الجزائر، 14 رجب
1412هـ ـ الموافق: 19 /1/1992م
قال تعالى: {الذينَ
قَالَ لهَمُ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جمعُوا لَكُم فَاخْشَوهُم فَزَادهُمْ
إِيماناً وقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ
الوَكِيل}.
إزاء التطوّرات
الخطيرة التي تشهدها البلاد، وشعوراً منّا بثقل المسئوليّة الملقاة على عاتقنا،
وإبراءً للذمّة، ووفاءً للعهد أمام الله
ثم أمام التاريخ والأمّة:
فإنّنا نحن نواب
الأمّة المنتخبون يوم:2 جمادى الثانية 1412هـ الموافق: 26/12/1991م المجتمعون
يوم14رجب1412هـ الموافق: لـ19/1/1992م بالجزائر العاصمة نذكّر بما يلي:
لم تفتأ الأنظمة
المتعاقبة على الحكم في البلاد تسير في الاتجّاه المغاير لإرَادة الأمّة
وطموحات الشّعب([1])
بدءاً بانتهاك دستور 63 وانتهاءً
بالتّجاوزات الخطيرة لدستور 89([2]).
وكان
من نتائج هذا المسار الخاطيء أن عمّت الفوضى في كافّة المجالات السياسية
والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فجمّدت العقول، وعطّلت الطاقات، وبدّدت الثّروات،
وأبعدت الأمّة عن مشروعها الحضاريّ الإسلاميّ، ولمّا لاح بريق الأمل، وظنّت الأمّة
أنّها تنفّست الصّعداء من وطأة هذا الكابوس المخيف، إذا بالموازين تنقلب فجأة
فتصادر إرادة الشّعب([3])،
فيوقف المسار الانتخابي، ويداس الدّستور والقوانين([4])
وكافّة
القيم الإنسانيّة
([1])
تأمّل تعبيرهم هذا الّذي لا يختلف عن تعبير الدّيمقرطيين، وهل للشّعب طموح وللأمّة
إرادة مع إرادة الله؟! ولماذا لا يعبرون بالإسلام بدلا عن القاموس الديمقراطي؟!
أهي مداهنة للنظام العالمي؟ فإنّ الله تعالى يقول: {وَدُّوا
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، أم هو انهزام
وشعور بالذلّ لو نادوا بالإسلام؟ فإنّ الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ
العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ}.
([2])
إنّه انتهاك للدستور وتجاوز له بدءًا وانتهاءًا كما قالوا، فأين الإسلام؟! اللهمّ
إلاّ أن يكون الإسلام عندهم هو الدستور!
([4])
هذا إيمان منكم بالدستور والقوانين الوضعية، بل إذا ساءكم أن يداس الدستور
والقوانين فهل يسرّكم أن ترفعوها فوق رؤوسكم؟! قال الله تعالى:{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ
ضَلاَلاً بَعِيداً}.
الجزائر، 14 رجب
1412هـ ـ الموافق: 19 /1/1992م
قال تعالى: {الذينَ
قَالَ لهَمُ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جمعُوا لَكُم فَاخْشَوهُم فَزَادهُمْ
إِيماناً وقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ
الوَكِيل}.
إزاء التطوّرات
الخطيرة التي تشهدها البلاد، وشعوراً منّا بثقل المسئوليّة الملقاة على عاتقنا،
وإبراءً للذمّة، ووفاءً للعهد أمام الله
ثم أمام التاريخ والأمّة:
فإنّنا نحن نواب
الأمّة المنتخبون يوم:2 جمادى الثانية 1412هـ الموافق: 26/12/1991م المجتمعون
يوم14رجب1412هـ الموافق: لـ19/1/1992م بالجزائر العاصمة نذكّر بما يلي:
لم تفتأ الأنظمة
المتعاقبة على الحكم في البلاد تسير في الاتجّاه المغاير لإرَادة الأمّة
وطموحات الشّعب([1])
بدءاً بانتهاك دستور 63 وانتهاءً
بالتّجاوزات الخطيرة لدستور 89([2]).
وكان
من نتائج هذا المسار الخاطيء أن عمّت الفوضى في كافّة المجالات السياسية
والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فجمّدت العقول، وعطّلت الطاقات، وبدّدت الثّروات،
وأبعدت الأمّة عن مشروعها الحضاريّ الإسلاميّ، ولمّا لاح بريق الأمل، وظنّت الأمّة
أنّها تنفّست الصّعداء من وطأة هذا الكابوس المخيف، إذا بالموازين تنقلب فجأة
فتصادر إرادة الشّعب([3])،
فيوقف المسار الانتخابي، ويداس الدّستور والقوانين([4])
وكافّة
القيم الإنسانيّة
([1])
تأمّل تعبيرهم هذا الّذي لا يختلف عن تعبير الدّيمقرطيين، وهل للشّعب طموح وللأمّة
إرادة مع إرادة الله؟! ولماذا لا يعبرون بالإسلام بدلا عن القاموس الديمقراطي؟!
أهي مداهنة للنظام العالمي؟ فإنّ الله تعالى يقول: {وَدُّوا
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، أم هو انهزام
وشعور بالذلّ لو نادوا بالإسلام؟ فإنّ الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ
العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ}.
([2])
إنّه انتهاك للدستور وتجاوز له بدءًا وانتهاءًا كما قالوا، فأين الإسلام؟! اللهمّ
إلاّ أن يكون الإسلام عندهم هو الدستور!
([4])
هذا إيمان منكم بالدستور والقوانين الوضعية، بل إذا ساءكم أن يداس الدستور
والقوانين فهل يسرّكم أن ترفعوها فوق رؤوسكم؟! قال الله تعالى:{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ
ضَلاَلاً بَعِيداً}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق