الجمعة، 18 ديسمبر 2015

 فكيف يخطر في البال بعد هذا أن هنالك خطرا على عقيدة المسيحيين وأحوالهم الشخصية؟ 

2- إن معنى دين الدولة الإسلام ، العداء للأديان الأخرى، وانتقاص غير المسلمين في حقوقهم والنظر إليهم نظرا يختلف عن أتباع الدين الرسمي ، وهذا خطأ بالغ أيضا، فليس الإسلام دينا معاديا للنصرانية حتى يكون النص عليه عداء لها، بل هو معترف( ) بها ومقدس لسيدنا المسيح عليه السلام ، بل هو الدين الوحيد من أديان العالم الذي يعترف بالمسيحية وينزه رسولها الكريم وأمه البتول ، وقد أمر القرآن الكريم أتباعه أن يؤمنوا بالأنبياء جميعا ومنهم عيسى عليه السلام ، فأين العداء وأين الخصام بين الإسلام والمسيحية ؟ ! 

أو ليس النص على أن الإسلام دين الدولة ( )  الرسمي يتضمن أن المسيحية دين رسمي للدولة باعتبار الإسلام معترفا بها ومحترما لها ؟


وأما توهم الانتقاص من المسيحيين ، والامتياز للمسلمين ، فأين الامتياز؟ 

أفي حرية العقيدة، والإسلام يحترم العقائد جميعا ، والدستور سيكفل حرية العقائد للمواطنين جميعا ؟ 

أم في الحقوق المدنية والتساوي في الواجبات ، والإسلام لا يفرق بين مسلم ومسيحي فيها، ولا يعطي للمسلم في الدولة حقا أكثر من المسيحي ، والدستور سينص على تساوي المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات( ) ؟ 

إني سأضع أمام القراء وأمام أبناء الشعب جميعا نص المادة المقترحة في هذا الشأن ليروا بعد ذلك أي خوف منها وأي غبن يلحق المسيحية فيها.

1- الإسلام دين الدولة . 

2- الأديان السماوية محترمة ومقدسة. 

3-  الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية. 

4- المواطنون متساوون في الحقوق لا يحال بين مواطن وبين الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بسبب الدين أو الجنس أو اللغة. 

إني أسأل المنصفين جميعا وخاصة أبناء الطوائف الشقيقة : إذا كانت المادة التي تنص أن دين الدولة الإسلام هي التي تتضمن هذه الضمانات كلها ، فأين الخوف ، وأين الغبن ؟ وأين الامتياز للمسلمين ؟ وأين الانتقاص لغيرهم ؟

اعتراض القوميين :

ويعترض بعض القوميين بأن النص على دين معين للدولة ينفي الوحدة بين أبنائها، وأن سورية ذات أديان مختلفة فلا يصح أن ينص على دين معين . 

والواقع أنه ليس في سورية إلا مسلمون ومسيحيون وقليل جدا من اليهود، أما الطوائف فهي كلها ترجع إلى هذين الدينين وفي النص الذي ذكرناه سابقا ضمان لحقوق المواطنين جميعا وتساويهم وضمان لعقائدهم وأحوالهم الشخصية، فأي تفرقة في هذا النص؟

وهل في الدنيا دولة ليس فيها إلا دين واحد أو مذهب واحد ؟

فهل منع تعدد الأديان أو المذاهب كثيرا من الدول على أن تنص على دين معين أو مذهب معين ؟

إن الوحدة القومية بين العرب ليست باطراح عواطف ثمانية وستين مليونا وإهمال هذا الرابط الديني القوي بينهم ، وإذا كان مفهوم القوميات في أوروبا يحتم إخراج الدين من عناصرها الأساسية، فذلك لا ينطبق علينا نحن العرب.

إن ألمانيا النازية قد تجد في المسيحية دينا غريبا عنها، وإن تركيا الطورانية قد تجد في الإسلام دينا غريبا عنها، ولكن العرب لن يجدوا في الإسلام دينا غريبا عنهم ، بل هم يؤمنون بأن قوميتهم العربية لم تولد إلا في أحضان الإسلام ولولاه لما كانت ذات وجود قائم... فليفرق دعاة القومية بين أوروبا والشرق ، وبين نصرانية الغرب وإسلام العرب.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الإسلام يحترم المسيحية ويؤمن بها دينا سماويا، لم يبق عندنا في القومية العربية دينان يصطرعان حتى نطرحهما لتسلم لنا قوميتنا، وإنما هناك دينان يتعاونان على بناء القومية العربية بناء سليما عالميا خالدا. 

اعتراض العلمانيين: 

ويعترض دعاه العلمانية في بلادنا كما جاء في البيان المنسوب إلى خريجي الجامعات العالية بأن الشعوب التي سبقتنا في ميدان الحضارة مرت من مرحلة الدين في التنظيم والحكم حيث كان رجال الدين يسيرون أمور الدولة إلى مرحلة القومية، ثم هي تنتقل اليوم إلى مرحلة التنظيم على أساس التكتل السياسي والاقتصادي ذي الصبغة العالمية . 

ونحن نجيبهم بأن النص على دين الدولة ليس معناه أن يسير رجال الدين أمور الدولة، ولو كان كذلك لما وضعت هذه الأمم التي سبقتنا في ميدان الحضارة في دساتيرها النص  على دين الدولة. 

وفيما يلي بيان لبعض الدول الحديثة التي تنص في دساتيرها على دين معين : 

أسوج ، نرويج ، دانيمرك ، إنكلترا ، بلغاريا ، بيرو ، كوستاريكا ، باناما ، أسبانيا ، بوليفيا ، الأرجنتين ، إيرلندا ، إيطاليا ، اليونان - قبل الحرب الأخيرة -، بولونيا - قبل النفوذ الشيوعي -، جميع دول شرق أوروبا - قبل النفوذ الشيوعي -، مصر، العراق ، الأردن ، ليبيا ، إيران ، الأفغان ، باكستان ، أندونيسيا ، إسرائيل المزعومة. 

فما قول العلمانيين في صنع هذه الدول الحديثة ؟ ألا يدل على أن النص على دين الدولة لا يتنافى مع تطور الحضارة وتقدم المدنية ؟ أم يعتبرونها دولا رجعية لا تزال متأخرة؟

وأيضا فقد اعترف هؤلاء بأن الأمم انتهت من مرحلة القومية إلى مرحلة التكتل السياسي الاقتصادي ، فلماذا يرون من الأمور الطبيعية أن تتكتل بلغاريا وهنغاريا وتشكوسلوفاكيا وألبانيا ورومانيا والمجر والصين وغيرها على أساس الشيوعية، وهي عقيدة حديثة لديهم ، ولا يرون من الطبيعي أن تتكتل مصر وسورية والعراق واليمن والحجاز والأردن على أساس الإسلام وهو عقيدة هذه الأقطار؟ أليس الإسلام نظاما اجتماعيا شاملا كالشيوعية، ولكنه أسمى منها مبدأ وأنبل غاية ؟! أم أنتم لا ترونه كذلك أيها العلمانيون ؟ فلماذا لا تصارحون الشعب بسوء ظنكم بالإسلام وصلاحه  للحياة؟! 

ومن العجيب أن يحرص العلمانيون في بيانهم على الروابط التي تربط ما بين السوريين وبين المغتربين في الخارج وهي روابط نحرص عليها، ثم لا يبالون بالروابط بين السوريين وبين سبعين مليونا من إخوانهم العرب.

ولا ندري متى كان النص على دين الدولة سيقطع ما بيننا وبين إخواننا المغتربين؟ 

أليسوا يعيشون في دول قد نصت في دساتيرها على دين الدولة؟

أليسوا حريصين على قوة هذه البلاد ومصلحتها؟

ولو فرضنا أن النص سيجعل فتوراً بيننا وبينهم - وهذا فرض مستحيل - ولكنه سيربط ما بيننا وبين العرب ، فهل يريدون منا أن نغضب سبعين مليونا من العرب؟

لئن أردتم ذلك كنتم قد كفرتم بالعروبة رابطة قومية، بعد أن جحدتم الإسلام نظاما اجتماعيا صالحا. 

وأعود فأقول لهؤلاء: إن (البعبع ) الذي يخوفون به بعض المثقفين من أن النص على الإسلام دينا للدولة يجعل لرجال الدين الكلمة الأولى في البلاد، هو بعبع لا يخيف إلا من خيم الوهم والباطل على عقولهم ، فليس في الإسلام رجال دين تكون لهم الكلمة العليا، ونحن لا نريد بهذا النص أن نلغي البرلمان ونطرد ممثلي الأمة ، ونمحو القوانين.

كلا، كونوا مطمئنين ! فسيظل كل شيء على حاله ، سيبقى لنا مجلسنا ونوابنا وقوانيننا وأنظمتنا" ولكن . . . مع سمو الروح ونظافة اليد ، واستقامة الأخلاق ، وعيش الإنسان الكريم.

اعتراض الحقوقيين:

ويعترض بعض الحقوقين بأن جعل دين الدولة الإسلام يلغي القوانين الحالية ويضطرنا إلى تنفيذ الحدود الإسلامية من قطع يد السارق وجلد الزاني ، وهذا قول خاطىء، فنحن لا نفكر قطعا بالدعوة إلى تنفيذ الحدود، لأن الإسلام نظام كامل لا يظهر صلاحه إلا في مجتمع كامل ومن كمال المجتمع أن يشبع كل بطن ، ويكتسي كل جسم ، ويتعلم كل إنسان ، ويكتفي كل مواطن ، فإذا وقعت السرقة مثلا بعد ذلك وقعت شرا محضا لا يقدم عليه إلا العريقون في الإجرام، والإسلام يريد أن يرهب هؤلاء الذين لم يردعهم العلم ولا الشبع ولا العيش الكريم عن الوقوع في الجريمة . . . .

على أن الإسلام قد حف تلك الحدود بشروط شديدة جدا يكاد يكون من المتعذر تنفيذ الحكم في حادثة واحدة من بين ألف حادثة مما يدل على أن قصد الإسلام من ذلك الإرهاب والتخويف ، وحسبكم القاعدة المشهورة (ادرؤوا الحدود بالشبهات)

وخلاصة القول : إننا لا نريد انقلابا في قوانيننا الحالية، وإنما نريد التقريب بينها في التشريعات المدنية وبين نظريات الإسلام الموافقة لروح هذا العصر، ولأصدق النظريات الحقوقية السائدة فيه ، فإذا أتفق التشريع الإسلامي مع النظريات الحديثة، فهل تجدون حرجا في الأخذ به تراثا قوميا عربيا تعتزون به وتفاخرون؟

هذا مع العلم بأن مسألة التشريع غير مسألة دين الدولة، فليس لوضع دين الدولة من غرض إلا صبغ الدولة بصبغة روحية خلقية تجعل النظم والقوانين منفذة من الشعب بوازع نفسي خلقي ، ومن أغراض هذه المادة تقوية الصلات بيننا وبين إخواننا العرب والتعاون بيننا وبين الشرق الإسلامي . 

أما الحدود الإسلامية فلا تستلزمها هذه المادة بدليل أن مصر والعراق وضعتا هذه المادة في دستوريهما من ربع قرن ولم تفكرا بإقامة الحدود الإسلامية . . . هذا ما نصرح به علنا لا مجاملين ولا مواربين .

وبعد، فهذه خلاصة الأدلة التي تحتم علينا وضع هذه المادة في الدستور وخلاصة الأجوبة على ما يخاف منها، ونحن نرجوا أن يبحث هذا الأمر بحثا واقعيا بعيدا عن العصبية الطائفية والأهواء المستحكمة، ونعتقد أن الأحبار الأجلاء رؤساء الطوائف المسيحية يشعرون معنا بخطر الإلحاد على الأديان جميعا، ونحن نعلن أننا نفضل أن يكون دين الدولة المسيحية على دولة علمانية ملحدة، فهل هم يفضلون الإلحاد على الإسلام ؟ ونريد أن نذكرهم أن العلمانية لا تضمن حقوق الطوائف ولا تزيل التعصب الطائفي ، وإنما الذي يضمن ذلك الدين الذي جعل من تعاليمه أن يترك الناس وما يعتقدون ، وأن الناس جميعا عباد الله أكرمهم عنده أتقاهم وأنفعهم . 

أما إخواننا القوميون ، فنحب أن يكونوا قوميين عربا حين يبحثون هذه الناحية ، وأن لا يفضلوا مراعاة شعور وهمي محصور في ناحية ضيقة على حقيقة ثابتة شائعة في دنيا العرب جميعا، نحب أن لا يكونوا قوميين سوريين ، بل قوميين عربا. 

أما العلمانيون ، فلسنا نقول لهم بعد أكثر من أن نتوجه إليهم بالرجاء أن لا يحولوا بين هذه الأمة ومصادر قوتها. . . نحن شعب نريد أن نرجع إلى الله فلا تحولوا بيننا وبينه ، ونريد أن نمد أيدينا إلى إخواننا العرب فلا تحولوا بيننا وبينهم ، ونريد أن نستند إلى أصدقاء أقوياء فلا تحرمونا منهم ، ونريد أن نتعاون مسلمين ومسيحيين مستمعين إلى صوت السماء وتعاليم الإنجيل والقرآن ؟ فلا تملؤوا عقولنا بالباطل، ولا تصكوا أسماعنا بأغنية الشيطان ، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}( ) .

وقال التلمساني :

يجب احترام الرأي الحر للآخرين وليس من الحرية أن أحول بين الناس وبين آرائهم)( )

وقال حامد أبو النصر:

لا مانع من وجود حزب علماني أو شيوعي في ظل الحكم الإسلامي )( )

قال الغنوشي :

إنه يجب طرح الإسلام مثل غيره ويجب احترام إرادة الشعوب ولو طالبت بالإلحاد والشيوعية)( )

دعوة الترابي إلى وحدة الأديان : 

وقد دعا الدكتور الترابي إلى ضرورة الحفاظ على الديانات وإذكاء روح الدين في المجتمعات بما يؤدي إلى تحقيق توحد الأديان موضحا أن قوة الدين لها أثر فاعل في الحكم. 

وطالب الدكتور الترابي بضرورة توفير العدل في الحياة بإزالة الفوارق الطبقية بين الناس. 

وعول الدكتور الترابي كثيرا على علماء الدين المسيحي والإسلامي ودعاهم إلى دور فاعل ومتعاظم من أجل إنقاذ البشرية وإرساء دعائم السلام وتوفير الطمأنينة ، مؤكداً بأن العالم الحالي يتجه نحو التوحد الديني بمختلف أشكاله ، وهي رسالة ينبغي أداؤها على الوجه الأكمل ، وأوضح الدكتور الترابي أن هذا المؤتمر يمكن أن يلعب دورا فاعلا ومؤثرا في توحيد الأفكار ومن ثم التوحيد على أساس إنساني بين الديانات كافة من أجل إسعاد البشرية( )  ا هـ. 

فإذا رأيت علاقة طوائف الإخوان المسلمين هنا وهناك بالأحزاب العلمانية ودخولها معها في تحالفات وولاءات.

وإذا رأيت دولة السودان الإخوانية تدعو إلى وحدة الأديان( )  وإلى قيام الحزب الإبراهيمي المكون من أدعياء الإسلام ومن اليهود والنصارى. 

وإذا رأيت تكريم دولة الإخوان في السودان للنصارى وتعيينهم في أعلى المناصب مع تشييد كنائسهم وفتح الإذاعة لهم يذيعون منها ديانتهم الباطلة. 

فلا تستغرب ، فإن كل هذا أو ذاك إنما هو تطبيق عملي لهذا المنهج الذي قام عليه تنظيم الإخوان من أول يوم ، وأكده سيد قطب في كتاباته ، وسار عليه الإخوان في كل مكان ، فإذا تحدثوا عن الولاء والبراء فإنما هو من ذر الرماد في العيون ومن التشبيع بما لم يعطوه كلابس ثوبي زور.

الفصل الثامن

نظرة سيد إلى الجزية وأهلها


ومن بوائق سيد قطب أنه يخالف ما قرره القرآن والسنة وعلماء الإسلام من أن الجزية صغار ورمز إذلال لأهل الذمة، فأينما يذكرها في أي كتاب بما في ذلك "الظلال " يذكرها في صورة تشي بإكرامهم واحترامهم ، ففي تفسير قول الله تعالى : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} لا يذكر هذا الصغار ولا يفسره كتفسير المسلمين ، بل بأسلوب يدغدغ به عواطف المستشرقين واليهود والنصارى وغيرهم من الحاقدين على الإسلام فيقول : 

والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه ، ولتحرير الإنسان من الدينونة لغير دين الحق ، على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار بلا إكراه منه ، ولا من تلك العوائق المادية كذلك . 

وإذن ، فالوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق حتى تستسلم وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلا، وعندئذ تتم عملية التحرير فعلا بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع ، فإن لم يقتنع بقي على عقيدته وأعطى الجزية لتحقق عدة أهداف : 

أولها: أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق . 

ثانيها: أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة، والذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانهم ، ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين . 

ثالثها: المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل بما في ذلك أهل الذمة بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة( ) . 

أقول : أين معنى الصغار في هذه الأهداف فالهدف الأول لا بد منه حتى من المسلم ، فلا بد أن يعلن استسلامه لله رب العالمين ، وإذا قاوم الدولة المسلمة بالقوة المادية ، وجب قتاله وقتله ، والهدفان الآخران لصالح أهل الذمة، فهم في كليهما كالمسلمين ، بل العبء الأكبر على المسلمين ، ولأهل الذمة الغنم والراحة، لقد أضاع سيد قطب الهدف الإسلامي الأساسي من أخذ الجزية من أهل الذمة . 

وأضاع أيضا الهدف الآخر وهو ما قاله عمر رضي الله عنه : (أوصيكم بذمه الله ، فإنه ذمة نبيكم ورزق عيالكم ) . 

ثم قال : ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية، ومن لا تؤخذ منهم ، ولا عن مقادير هذه الجزية، ولا عن طرق ربطها، ومواضع هذا ا الربط (...) ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم كما كانت معروضة على عهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .

إنها قضية تعتبر اليوم تاريخية وليست واقعية . 

إن المسلمين اليوم لا يجاهدون!.. ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون!.. إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي حتاج اليوم إلى علاج ! 

والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مرارا - منهج واقعي جاد، يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ، ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعا مسلما تحكمه شريعة الله ، ويصرف حياته ، الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ويسميهم (الأرائتيين )000 الذين يقولون (أرأيت ) لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟) . 

إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق ، فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . .  ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ويطبقون هذا في واقع الحياة. . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان ، ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات ، ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية، والاشتغال بصياغة الأحكام والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل لا في عالم النظريات ) . 

ثم يقول : معتذرا عن تفسيره لهذه الآية على الوجه الذي قرره (وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ -، فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي ، وعند هذا الحد نقف فلا نتطرق ،وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراما لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال )( ) . 

أقول : نأسف أشد الأسف لهذا التفسير لكتاب الله من وجوه :

أولا: إغفال معنى الصغار في الجزية الذي فرضه الله في كتابه وأكده رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء الراشدون وأئمة الإسلام وعلماء الأمة من محدثين وفقهاء. 

ثانيا : تضييع هدف تشريع هذا الصغار، وهو حمل أهل الذمة على الإسلام الذي فيه عزتهم وشرفهم في الدنيا وسعادتهم ونجاتهم من النار التي أعدت للكافرين . . . فأهل النخوة والذين ينشدون العزة والحرية منهم لا يستطيعون البقاء على الصغار، بل سيحفزهم ذلك على الخلاص منه ، لا سيما وكثير منهم يعرف أن الإسلام هو الحق ، وفيه العزة والسعادة في الدنيا والآخرة . 

أما هذا الأسلوب وهذا المنهج الذي ينتهجه سيد قطب ، فإنه يغريهم بالبقاء على كفرهم الذي فيه شقاؤهم الأبدي وهلاكهم السرمدي ذلك إن كانوا قد اقتنعوا بما تضمنه هذا الأسلوب . 

ثالثا : ماذا يريد سيد قطب بصياغة الأحكام والتقنين ؟ 

أيريد صياغة أحكام وقوانين في أمور قد قررها الله ورسوله وسار الخلفاء الراشدون وأئمة الإسلام في هدي هذا التقرير بما لا يحتاج إلى صياغة أحكام وقوانين جديدة ينشئها سيد قطب وأمثاله ؟ !

أو يريد صياغة أحكام وقوانين تميع الإسلام وتخالفه وترضي أعداءه ، كما يتحدث سيد عن الجزية في ضوء كلام سيرت ، وأرنولد من أن الجزية إنما هي في مقابل الخدمة العسكرية وأن الجزية ليست صغارا على أهل الذمة، وأن لهم أن يدفعوا الزكاة بدلا عن الجزية إذا شاؤوا ذلك ، وأنه لا مانع أن تضرب الجزية على المسلمين بدلا من الخدمة العسكرية إذا لم يقوموا بهذه الخدمة ؟ !

وبمثل هذه التشريعات الماسخة للتشريع الإسلامي يرفع سيد قطب وأمثاله عقيرتهم أن عملهم هذا من صميم حاكمية الله والذي يخالفهم يكون كافرا لأنه حكم بغير ما أنزل . 

رابعا: في أسلوب سيد في هذا الموضع وفي عشرات المواضع من كتبه قسوة وعنف على المسلمين بتكفيرهم والاستخفاف بهم . 

خامسا: استخفافه بالعلم والعلماء والفقه والفقهاء .

انظر إلى قوله : (والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مرارا - منهج واقعي جاد يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء . . . ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ). 

وانظر إلى تعاليه في قوله : (وعند هذا الحد نقف فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراما لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال ) . 

أليس في هذا صرف للناس وصد لهم عن العلم ؟! 

أليس في هذا الإرهاب الفكري ما يسوق الكثير إلى الجهل بشريعة الله الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "إن بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم ويظهر فيها الجهل ( ) . 

هذا الأسلوب هو الذي ملأ أدمغة الكثير ممن يقدسون سيد قطب ، ودفعهم إلى احتقار العلم والعلماء، وإلى تسميتهم بعلماء الورقة لا علماء الحركة، وإلى وصفهم بأنهم علماء الحيض والنفاس ، وبأنهم لا يفقهون الواقع ، وبأنهم جواسيس وعملاء إلى آخر الطعون والتهم التي يوجهونها إلى أهل العلم وطلابه.

سادسا: كان في وقته دولة مسلمة في الجزيرة العربية قائمة على العقيدة الصحيحة والمنهج الإسلامي الصحيح المنبثقين من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها أمراء وعلماء مسلمون يطبقون شريعة الله ويقيمون دين الله الحق ، فلماذا يتجاهلهم سيد ولا يعترف بهم ؟  فهل يحتقرهم هم أيضا لأنهم يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث . . . إلخ ؟ 

ليتك عشت حتى ترى تلاميذك اليوم كيف يطبقون الإسلام بعد أن قامت لهم دول هنا وهناك ، فيصدق عليهم المثل : (إنك لا تجني من الشوك العنب )، ويصدق عليهم (فاقد الشيء لا يعطيه ). . والباقون في انتظار هذا المصير الذي لا محيد لهم منه ولا محيص ، سنة الله في المناهج الفاسدة ولن تجد لسنة الله تبديلا.

فأفيقوا يا معشر العقلاء من المسلمين ! 

سابعا: إذا تحدث سيد قطب عن الجهاد فلا يجوز عنده البحث في الغنائم( )  إلى أن تقوم دولته( )  لأن الحديث سيجره إلى حرمان أهل الذمة من المشاركة في الغنائم وسيجره إلى الحديث عن الاسترقاق والتسري بنساء المغلوبين من المشركين وذلك أمر كريه ينافي كرامة الإنسان في نظره ، لأنه من دعاة الحرية والمساواة والعدالة( )  .

وإذا تحدث عن الجزية ، رأيت منه ما سبق ، ولا يدخل في التفاصيل ، بل يجب تعليقها ويجب الهجوم على الفقهاء الذين يبحثون في هذه الأمور التي تتحدث عن إذلال أهل الذمة وهو يريد إكرامهم وتدليلهم لا تذليلهم .

الفصل التاسع 

مساواة سيد بين أهل الزكاة وأهل الجزية 

ويقول سيد قطب مؤكدا هذا المنهج الذي لا يحيد عنه : 

(فإذا استسلم من يطلب السلام ، فهؤلاء هم (الذميون)، أي الذين أعطاهم الإسلام ذمته وعهده لحمايتهم ورعايتهم ، وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بنص الإسلام الصريح ، فأما ما يؤخذ منهم من الجزية، فهو مقابل ما يؤديه المسلمون من الزكاة، مساهمة في نفقات الدولة التي تحميهم كما تحمى رعاياها المسلمين سواء، والتي توفر لهم العدل المطلق بلا تفرقة ولا تمييز، وتحقق لهم ضماناتهم وتأميناتهم في حالة المرض والعجز والشيخوخة . 

ولم يشأ الإسلام أن يجبرهم على أداء الزكاة، لأن الزكاة عبادة إسلامية خاصة وحرية الاعتقاد التي يكلفها( ) الإسلام للأفراد تمنعه أن يكره الذميين على أداء عبادة إسلامية .

ولم يشأ كذلك أن يجبرهم على الجندية في الصف المسلم ، لأن المسلم إنما يجاهد في سبيل الله عبادة لله ، لهذا يأخذ منهم الضريبة تحت عنوان الجزية لا تحت عنوان الزكاة، مراعاة لهذا المبدأ العام (لا إكراه في الدين ) ، فإذا شاءوا برضاهم واختيارهم أن يؤدوا ضريبة الزكاة كالمسلمين بدل الجزية كان لهم ذلك عن رضاء واختيار، وقد اختارت قبيلة بني تغلب على عهد عمر أن تؤدي الزكاة لا الجزية فأدتها على هذا الأساس ) . 

أقول : 

أولا: ليست الغاية من إعطائهم العهد هو رعايتهم وحمايتهم ، إنما الحماية من توابع العهد الذي يعقد بينهم وبين المسلمين ، والفرق بين الأمرين واضح جدا . 

وقوله : (لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بنص الإسلام الصريح) تقول على الإسلام صريح ، وراجع ما سبق من الأدلة والشروط العمرية . 


ثانيا: قوله : (فأما ما يؤخذ من الجزية ، فهو مقابل ما يؤدي المسلمون من الزكاة) فمغالطة مكشوفة يبرأ منها الإسلام ، فإن الزكاة تزكي أهلها المسلمين وتطهرهم ، وهي من أركان دينهم ، والجزية شعار الذل والصغار، فكيف تقابل هذا الركن العظيم والشعار الرفيع (الزكاة)، ولا أريد الاستطراد في مناقشة النص المليء بالباطل ، فقد مضى له نظائر قد ناقشتها. 

والغريب هنا قوله بتخيرهم بين الجزية والزكاة استنادا إلى قضية بني تغلب التي اعتمد فيها على النصراني سيرت وأرنولد، وسيظهر لك زيف كلامه .

روى أبو عبيد بإسناده إلى زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة، أنه سأل عمر بن الخطاب وكلمه في نصارى بني تغلب ، قال : وكان عمر قد هم أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في البلاد، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين ! إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال ، إنما هم أصحاب حروث ومواش ، ولهم نكاية في العدو، فلا تعن عدوك عليك بهم ، قال : فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة واشترط أن لا ينصروا أولادهم . . . 

قال : (حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : لا نعلم في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا الجزية التي تؤخذ منهم ، غير أن نصارى بني تغلب الذين جل أموالهم المواشي يؤخذ من أموالهم الخراج ، فيضعف عليهم حتى تكون مثلي الصدقة أو أكثر)( ) . 

قال أبو عبيد: (فكذا ما يؤخذ من بني تغلب ، وهو الضعف على صدقة المسلمين ، ثم وجه فعل عمر رضي الله عنه وساق آثارا في سداد رأيه وتوفيق الله له . . . ). 

ثم قال : (وإنما استجازها فيما نرى وترك الجزية مما رأى من نفارهم وأنفهم منها ، فلم يأمن شقاقهم واللحاق بالروم ، فيكونوا ظهيرا لهم على أهل الإسلام وعلم أن لا ضرر على المسلمين من إسقاط ذلك الاسم عنهم مع استبقاء ما يجب عليم من الجزية، فأسقطها عنهم واستوفاها منهم باسم الصدقة حين ضاعفها عليهم ، فكان في ذلك رتق ما خاف من فتقهم مع الاستبقاء لحقوق المسلمين في رقابهم وكان مسددا )( ) . 

ثم قال : (فالذي يؤخذ من بني تغلب ، وإن كان يسمى صدقة، فليس بصدقة لما أعلمتك ، ولا يوضع في الأصناف الثمانية التي في سورة براءة، إنما موضعها موضع الجزية)( ) . 

فيؤخذ من هذا أن الجزية صغار نفر منه عرب بني تغلب وانفوا منه . 

2- إن عمر إنما أسقط عنهم لفظ الجزية، ولسداده وبعد نظره أخذها منهم جزية مضاعفة وإن أسقط عنهم لفظها . 

3- إن عمر لم يفعل ذلك من منطلق أن لأهل الذمة الخيار بين أن يؤدوا الجزية أو الزكاة، وإنما فعل ذلك خشية من شقاق بني تغلب واللحاق بالروم ، فيكونون ظهيرا لهم على المسلمين ، فدرأ هذا الضرر بإسقاط لفظ الجزية عنهم وإطلاق لفظ الصدقة على الجزية المضاعفة .

4- ما أخذه عمر منهم هو في حقيقته خراج كما قال الزهري ، وجزية كما قال أبو عبيد، والدليل على ذلك أنها لا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية المنصوص عليها في سورة براءة .

والآن قارن بين ما يقوله سيد قطب وبين ما حوت قصة بني تغلب من فقه ، لترى بطلان ما يقوله هذا الرجل ، وأن تعلقه بقصة بني تغلب تعلق باطل ، وأن أهل الذمة ليسوا مخيرين بين الجزية والزكاة ولا كرامة لهم . 

ويعجب المسلم كيف يسهل تحريف الإسلام على بعض الناس ، وبمثل هذه الأفاعيل حرفت الكتب السماوية ووجد للمحرفين أتباع يعبدونهم ويقدسونهم ويقتلون من أجلهم الأنبياء والذين يأمرون الناس بالقسط والثبات على دين الله المنزل ، فاللهم رحماك . . .

فرح سيد قطب بما تلقاه عن سيرت وأرنولد النصراني من أن الجزية إنما فرضت في مقابل الخدمة العسكرية : 

فقال نقلا عنه : (ومن الواضح أن أية جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي ، وكان الحال على هذا النحو مع قبيلة الجراجمة، وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونا لهم ، وأن تقاتل معهم في مغازيهم على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم ، ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس في سنة 22 هـ ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود هذه البلاد، وأعفيت من أداء الجزية في مقابل الخدمة العسكرية) . 

ومضى ينقل عن هذا الرجل النصراني ضرب الأمثلة من هذا النوع في العصور المتأخرة، إلى أن قال (ص 59): (ومن جهة أخرى، أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية، على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام ، وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك ، كما فرضت على المسيحيين. 

ثم قال سيد معلقا: (مما يثبت بصفة قاطعة صفة الجزية على النحو الذي قررناه من قبل، ويبطل كافة الترهات الباطلة التي يثيرها المغرضون حول هذه المسألة بصفة خاصة، وحول علاقات الإسلام بمخالفيه في العقيدة ممن يعيشون في كنفه وتظللهم رايته وعدالته )( ) . 

أقول : ليعجب العاقل من موقف سيد من هذا النقل من وجوه :

أولا: هذا التقبل لهذا النقل من هذا النصراني دون أي دليل ولا تأكد، هل هو ينقل عن ثقات المسلمين أو عن دجاجلة النصارى لغرض من الأغراض الدينية والسياسية، وإذا كان نقله عن مصدر إسلامي ، فهل له إسناد صحيح أو حسن أو في إسناده ثقة ضابط أو ضعيف أو كذاب أو متهم بالكذب ، فإن كان فيه ضعيف أو كذاب رفضه ، وإن كان ثابتا نظر من هو قائد المسلمين الذي وافقهم على إسقاط الجزية وإشراكهم مع المسلمين في الغنائم ، فإن الموضوع حساس ومهم جدا، ولا يجوز تناوله بهذه السهولة، ذلك لأنه يخالف الكتاب والسنة، ويخالف الشروط العمرية التي اتفق على قبولها والأخذ بها الخلفاء والعلماء والفقهاء من هذه الأمة المسلمة .

فإن كان الذي فعل ذلك مجتهدا ، حوكم عمله هذا واجتهاده برده إلى الله والرسول كما قال تعالى : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}( )  . 

فإن كان موافقا لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ، وإن كان مخالفا ، رد .

وإن كان غير مجتهد ومتبعا لهواه ؟ رد تصرفه ولا كرامة . 

وغالبا أن مثل هذا التصرف لا يحصل إلا من الجهل والهوى، فمن يفهم كتاب الله ويعلم معاملة رسول الله للمشركين وأهل الكتب ، فسيجد أن هذا المجتهد قد أخطأ دون شك ، لأن الله لم يفرض على أهل الكتاب إلا الجزية لإذلالهم وإصغارهم ، لأنهم أعداؤه ، وقد رفضوا دينه الحق ، وسيجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منهم إلا الجزية، ولم يخيرهم بينها وبين الخدمة العسكرية ، عملا بمقتضى الآية، وهو المبين لمراد الله تبارك وتعالى، والصحابة والخلفاء وأئمة الإسلام لم يذكروا إلا الجزية، وهي واحد من شروط كثيرة لإنزال أهل الذمة ووضعهم حيث وضعهم الله . 

وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال علماء الإسلام لم يرد فيها جميعا أن الجزية فرضت على أهل الكتاب في مقابل الخدمة العسكرية، فهذا لا يعرفه الإسلام ولا شرعه ، وإنما تشرعه الأنظمة العلمانية انطلاقا من قواعدها الديمقراطية والوطنية . 

ثانيا: بعد أن آمن سيد بأن الجزية إنما فرضت على القادرين من الذكور من أهل الذمة مقابل الخدمة العسكرية، آمن بجواز ضرب الجزية على المسلمين كما فرضت على المسيحيين وفرح بذلك وساقه مساق الإقرار به والتقرير له . 

ثالثا: من أعجب تفاعلاته مع كلام هذا النصراني قوله : (مما يثبت بصفة قاطعة صفة الجزية على النحو الذي قررناه )، أي من أنها في مقابل الخدمة العسكرية وأنه يستوي فيها أهل الذمة والمسلمون ! ! 

وقد علم من منهجه أنه لا يسلم بقطعية كثير من النصوص القرآنية ولا يقبل أخبار الآحاد الصحيحة ولو تلقتها الأمة بالقبول ودانت بها وبنت عليها عقائدها، بلى هو لا يبني عقائده على الأحاديث المتواترة .

وليس هذا بجديد من سيد ولا غريب ، فهو ينظر في كثير من المناسبات إلى مقررات وكلام الفلاسفة الغربيين بهذا المنظار ويتقبلها بثقة عمياء !! 

واقرأ له في "الظلال " ما يتعلق بالعلوم الكونية تجد صدق ما أقول .

سيد يرى أن الإسلام يدلل الأقليات غير الإسلامية : 

يقول : (إنني أحسب مجرد التخوف من حكم الإسلام على الأقليات القومية في بلاده نوعا من التجني الذي لا يليق ، فما من دين في العالم وما من حكم في الدنيا ضمن لهذه الأقليات حرياتها وكراماتها وحقوقها القومية كما صنع الإسلام في تاريخه الطويل . 

بل ما من حكم دلل الأقليات فيه كما دلل الإسلام من تقلهم أرضه من أقليات لا الأقليات القومية التي تشارك شعوبه في الجنس واللغة والوطن ، بل الأقليات الأجنبية عنه وعن قومه )( ) . 

نسي سيد قطب أن عداء اليهود والنصارى وسائر أصناف المشركين للإسلام عداء أصيل ، من أجل أنه الإسلام المتضمن للتوحيد والحق والهدى والنور، كسائر العداوات التي واجهت رسالات التوحيد من عهد نوح إلى خاتم الرسالات .

ولقد حاربوا محمدا صلى الله عليه وسلم منذ صدع بكلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله قبل قيام دولة الإسلام وقبل إعلان الجهاد وقبل أن ينتصر عليهم الإسلام ويفرض عليهم الجزية. 

ولقد نزل قول الله تعالى: {وَلنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} قبل أن تفرض عليهم الجزية وقبل أن يصطدم بالنصارى في المعارك .

نعم قد يرضون عمن يميع لهم الإسلام ويمدح لهم ديانتهم ويسميها بالرسالات السماوية رغم أنها قد أصبحت أرضية وثنية ويبادلهم ودا بود وحبا بحب .

الفصل العاشر 

عالمية الإسلام كيف يقررها سيد قطب 

ويقول : (المجتمع الإسلامي مجتمع عالمي ، بمعنى أنه مجتمع غير عنصري ولا قومي ولا قائم على الحدود الجغرافية، فهو مجتمع مفتوح لجميع بني الإنسان دون النظر إلى جنس أو لون أو لغة، بل دون نظر إلى دين أو عقيدة . . . ومن ثم تملك جميع الأجناس البشرية وجميع الألوان وجميع اللغات أن تجتمع في حمى الإسلام وفي ظل نظامه الاجتماعي ، وهي تحس آصرة واحدة تربط بينها جميعا آصرة الإنسانية التي لا تفرق بين أسود وأبيض ولا بين شمالي وجنوبي ، ولا بين شرقي وغربي ؟ لأنهم جميعا يلتقون عند الرابطة الإنسانية الكبرى) ( ) 

أقول : أولا: أن هذه هي الدعوة الماسونية العالمية، الدعوة في الظاهر إلى الإنسانية العالمية، وفي الباطن لتحقيق غايات صهيونية .

ثانيا: يحتج سيد لهذه الدعوة التي تقضي على مبدأ الولاء والبراء والبغض في الله والحب فيه الذي وردت فيه نصوص قرآنية ونبوية كثيرة، ويغرس في نفوس المسلمين الميوعة والسماجة السياسية المنافقة، فيصبح لا فرق عند المسلم الضائع بين اليهودي والنصراني والمجوسي وبين المسلم الموحد، يجمع الجميع آصرة الإنسانية، وتربط الجميع الرابطة الإنسانية الكبرى . 

وينسى سيد قطب قول الله تعالى : {يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وما جرى مجراها، وما أدري هل يعرف قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، لا تتراءى ناراهما( )  وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه جرير البجلي : أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين ، وتفارق المشركين "( ) ، وله شاهد من حديث كعب بن عمرو بلفظه ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله "( ) . 

إن كثيرا من قيادات الحركات القطبية والإخوانية لا يهنؤون بالعيش إلا في ظل الدول النصرانية وفي عواصم أوروبا ، زعما منهم أنهم يخدمون الإسلام ، مع الأسف ، وهم في حقيقة الأمر لا ترى آثارهم إلا في تمزيق صفوف السلفيين وبعثرتها وزحزحة الشباب السلفي عن العقيدة السلفية وعن منهج السلف وتشكيكهم في صلاحيتهما. 

وكل هذا لا يخدم إلا أعداء الإسلام ، لا سيما الأوروبيين والأمريكان ، الذين يتظاهرون بالحماس ضدهم ، وفي الحقيقة أنهم لا يعملون إلا لتحقيق غاياتهم ومصالحهم . 

لأن الأوروبيين لا يخافون إلا من الإسلام الخالص الذي لا يمثله إلا المنهج السلفي ، وتعرف ذلك جيدا بريطانيا التي حاربها أهل المنهج السلفي في الهند أكثر من مائة سنة، ولذلك كانت أيام الجهاد الأفغاني لا تحذر الخرافيين من الأفغان إلا من الوهابيين على حد قولها. هذه حقائق يجب أن يتنبه لها المخدوعون ويستيقظ لها النائمون .

ويؤكد سيد قطب أقواله ودعوته إلى ما سبق فيقول : (والإسلام لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم ، إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة، ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع ، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، راية ضمان الحرية لجميع المتدينين . . . وبذلك يحقق أنه نظام عالمي حر، يستطيع الجميع أن يعيشوا في ظله آمنين متمتعين بحرياتهم الدينية على قدم المساواة مع المسلمين وبحماية المسلمين )( )

أقول : أولا: إن الإسلام لا يكتفي بحرية العبادة للمسلمين ، فقد كان المسلمون في المجتمع المدني يعبدون الله في حرية ولهم قوة وشوكة، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى ملوك الدنيا يطلب منهم الدخول في الإسلام فقط كما في كتابه لقيصر ملك الروم : "أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن أبيت ، فإنما عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله "، وما كان يطالب هؤلاء الملوك بمنح الأقليات حرية التدين ، وقد كان النصارى من العرب والروم واليونان يمارسون عبادتهم بحرية ، ويلقى أكثرهم تشجيعا من الدولة، فما كان الإسلام مستريحا لهذه الحرية، وقد كانت بعض الكنائس تلقى اضطهادا ، وكذلك اليهود ، فلم يطالب لهم رسول الله بحرية العبادة. 

وقل مثل ذلك في سائر الممالك التي كاتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يطلب منهم إلا الدخول في الإسلام .

وقد قال تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ}( ). 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك ، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى"( ) .

فتلك هي غاية الإسلام فقط : أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. 

أما الجزية، فمع أن فيها صغارا وإذلالا لأعداء الله ، فإنها حالة استثنائية لا غاية . 

ثالثا: من التقول على الله وعلى الإسلام أن الإسلام يكلف المسلمين بالقتال من أجل حرية الأديان الباطلة، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، إن هذا القول قد بلغ الغاية في السوء والإساءة إلى الإسلام الذي شرع لأهله قتال أهل الأديان حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وحتى لا تكون في الأرض فتنة، كما نص على ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يشرع شيئا - والعياذ بالله - مما يدعيه سيد قطب . 

رابعا: إن مقتضى قول سيد: (فالإسلام لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع ). 

أنه إذا كان هناك دولة ديمقراطية تبث دعوة الماسونية في المساواة الإنسانية وفي حرية العبادة للجميع وطبقت هذا الأسلوب الماسوني فأعطت الحريات لجميع الديانات التي تعيش في ظلها، مقتضى ما يقوله سيد أنا لا ندعوها للإسلام فإنها قد حققت الغاية التي يريدها الإسلام ، وأن المسلمين لا يحق لهم إعلان الجهاد على مثل هذه الدولة، بل عليهم أن يتعايشوا معها في ظلال الأخوة الإنسانية الكبرى، وأن المسلمين إذا غزوا مثل هذه الدولة لإعلاء كلمة الله يكونون ظالمين وأهل عدوان واحتلال ، فإذا قهروهم ونفذوا فيهم الشروط العمرية يكونون ظالمين مستعبدين ، لأن المغلوبين لم يتمتعوا بحرياتهم ولم يقفوا مع المسلمين على قدم المساواة في ظل هذه الشروط ، ألا ما أضر أهل الأهواء - ولا سيما الأهواء السياسية - على الإسلام وما أخطرهم على دين المسلمين وعقائدهم . 

خامسا: على قول سيد قطب في وصف هذا المجتمع الذي اخترعه : (ولا قائم على الحدود الجغرافية فهو مفتوح لجميع الناس . . . إلخ ). لا يكون هناك دار إسلام ولا دار حرب ، ولا هناك ثغور يرابط فيها جند الله لحماية المسلمين ودارهم من مكائد الأعداء وغاراتهم ، بل لا يكون هناك جهاد على ما يقول سيد قطب .

يؤكد هذا قوله : (نحن ندعو إلى نظام إنساني يقيم علاقاته الدولية على أساس المسالمة والمودة بينه وبين كل من لا يحاربونه ولا يحادونه ولا يؤذون معتنقيه ولا يفسدون في الأرض ولا يظلمون الناس ، فهو لا يحارب إلا المعتدين المفسدين الظالمين ، نحن ندعو إلى هذا النظام ، فما الذي يخيف فردا أو طائفة أو دولة من أن يقوم مثل هذا النظام في أي بقعة من بقاع الأرض )( ) .

أقول : وهل هناك فساد أكبر من الشرك بالله والكفر به وتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغض دينه والطعن فيه وعداوة أهله ؟! وهل تجوز موادة من حاد الله ورسوله ؟! وهل كلامك هذا لا يعني إلغاء الجهاد وقتل مبدأ الولاء والبراء ومبدأ الحب في الله والبغض فيه وتمييع النفوس والعقول التي تقبل هذا الباطل ؟! 

إن هذا النظام الإنساني الذي تدعو إليه ليس هو الإسلام وإنما هو نظام المؤسسات الماسونية التي لعبت بعقول كثير من المنتسبين إلى الإسلام ، فأفسدت عقولهم ، ودفعتهم إلى تمييع الإسلام . 

سادسا: من هوس سيد وطمعه ظنه أنه بهذا الأسلوب المميع للإسلام ولعقول أتباعه أن الدول والشعوب والطوائف الكافرة التي تعيش في بلاد الإسلام سوف يتجاوبون معه ويفتحون له الطرق والأبواب لإقامة الدولة التي يتصورها ويصورها على هذه الشاكلة، ولن يكون ذلك ، بل الذي حصل ويحصل إنما هو تمييع الإسلام وتشويهه وفتنة من لا يفهم الإسلام ولا يعقل بهذا التمييع والتشويه .

وقد وجدنا كثيرا من الناس في غير هذا البلد لا يفرق بين المسلمين واليهود والنصارى، ويعتقد أن الجنة ليست حكرا على المسلمين ! ومن هذا الصنف من يدرس في الجامعات مع شديد الأسف .

فيا لله ويا للإسلام !

الجزية عند سيد قطب فرضت على أهل الذمة في مقابل الخدمة العسكرية تقليدا لسيرت وليست عنده للصغار كما يقول القرآن والمسلمون : 

ينقل سيد قطب عن النصراني سيرت وأرنولد قوله : (وقد فرضت الجزية كما ذكرنا على القادرين من الذكور في مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بأدائها لو كانوا مسلمين )( ) . 

ويفرح بهذا القول الضال ، وفي الوقت نفسه لا يأنف من ضرب الجزية على المسلمين ولا يستنكره ولا يرى في ذلك إهانة للمسلمين ولا ينكر ذلك على من يفعله من الحكام الجائرين . 

ينقل هذه المهزلة التشريعية عن نصراني أفاك ، ويطير بها فرحا، ليرد بها على المغرضين كما يدعي ، قال فيما نقله عن كتاب "الدعوة إلى الإسلام " تأليف سيرت وأرنولد : 

(ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم أنهم كانوا على الإسلام وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك كما فرضت على المسيحيين )( ) . 

فطار سيد قطب فرحا بهذا الإفك والتحريف المتعمد من هذا النصراني ، واتخذ منه برهانا قاطعا على أن صفة الجزية على النحو الذي يقرره .

وقال عقب الكلام السابق الذي نقله عن سيرت : 

(مما يثبت بصفة قاطعة صفة الجزية على النحو الذي قررناه من قبل ، ويبطل كافة الترهات الباطلة التي يثيرها المغرضون حول هذه المسألة، وحول علاقات الإسلام بمخالفيه في العقيدة ممن يعيشون في كنفه وتظللهم رايته ). 

والذي قرره سيد في هذا الكتاب وغيره أن الجزية لا تعني الصغار والذلة على قوم رفضوا الإسلام ، بل سياقاته تفيد أنها تدليل لهم .

قال : (إنني أحسب مجرد التخوف من حكم الإسلام على الأقليات القومية في بلاده نوعا من التجني الذي لا يليق ، فما من دين في العالم ، وما من حكم في الدنيا، ضمن لهذه الأقليات حرياتها وكراماتها وحقوقها كما صنع الإسلام في تأريخه الطويل ، بل ما من حكم دلل الأقليات فيه كما دلل الإسلام من تقلهم أرضه من أقليات ، لا الأقليات القومية التي تشارك شعوبه في الجنس واللغة والوطن ، بل الأقليات الأجنبية عنه ، وعن قومه )( ) . 

بل إن الإسلام - في زعمه - بلغ من تدليله لهم أنه يحرم على المسلمين أشياء قد أباحها لأهل ذمته كالخنزير والخمر ويوجب " على المسلمين تكاليف يعفى أهل الذمة منها كالجهاد والزكاة( ) .

وما يدري أن الإسلام يرى في هذا أو ذاك إكراما للمسلمين ورفعا لدرجاتهم بالواجبات وتنزيها عن المحرمات والقاذورات ، وأن أهل الذمة الكفار أقل وأحقر من أن يكلفوا بتلك الواجبات العظيمة الكريمة( ) ، وأقل وأحقر من أن ينزهوا عن تلك القاذورات التي نزه عنها المسلمون .

الباب الثاني 

طعون سيد قطب في العلماء

 

الفصل الأول 

تمهيد هو منطلق الدفاع عن العلماء

لسيد قطب طعون كثيرة شديدة في العلماء ، وسخرية بهم وبفتاواهم وعلمهم وكتبهم ، وذلك مما غرس كل احتقار وازدراء في نفوس من يسمى بشباب الصحوة لعلماء السنة، وجرأهم على رميهم بأسوأ التهم . 

حينما ألف سيد قطب كتابه هذا المتضمن لهذه الطعون( )  كانت السلفية في العالم الإسلامي في أوج قوتها وانتشارها، ففي الجزيرة العربية لها دولة قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا، وراية التوحيد والسنة مرفوعة، ومظاهر الشرك والبدع قد اختفت بل محيت ، يعلم ذلك الصديق والعدو حتى عوام المسلمين والمشركين ، فكيف يتجاهل ذلك سيد قطب . 

لو كان انتقاد سيد قطب لمن يسميهم (رجال الدين ) !! منصبا على أهل البدع وبدعهم من تعطيل صفات الله تبارك وتعالى وما عندهم من تصوف وغيره ، ومنصبا على بدع من يسميهم بالدراويش ، لتعلقهم بالقبور، وتقديمهم الذبائح والنذور لها، واعتقادهم في أهلها أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون . . . ولو كان نقده نصحا لهم وبيانا لضلالهم بالحجة والبرهان لا تهكما وسخرية ، لحمده الله وأهل الحق على ذلك . 

لكنها السخرية الشاملة لهذا النوع ولغيره من علماء السنة والتوحيد .

ولكنها السخرية التي هب بها على العلماء عامة، حتى حينما يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكرات الشنيعة والتحلل الأخلاقي ، والسخرية حينما يستفتون فيفتون . 

ولكنها الشماتة بهم حتى ولو اهتموا بالسنة النبوية والفقه الإسلامي . 

ولكنها السخرية بهم وإن أقاموا الصلوات في مساجد الله وذكروا الله فيها كثيرا . 

ولو كان للدراويش أذكار بدعية فيجب أن يبين ما فيها من ضلال بالأدلة والبراهين لا بالسخرية والاستهزاء، كما يجب أن يبين لهم الأدعية الشرعية، وذلك هو طريق الدعاة المصلحين دعاة الحق ، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه ، لا سيما وسيد قطب يشارك المبتدعين في كثير من بدعهم الضالة، وإنكاره عليهم وسخريته بهم إنما هما من منطلق اشتراكي وسياسي يرضي بتلك السخريات من يسميهم بالرفاق والمثقفين العلمانيين . 

لو كان سيد قطب مصلحا حقا لوضع يده في أيدي أنصار السنة المحمدية التي كانت في عهده في أوجها من القوة في الدعوة إلى توحيد الله وإلى هدم الشرك والبدع وتطهير الأرض منها في الوقت الذي ما كانت دعوتهم تغفل الدعوة إلى تحكيم شريعة الله والتطبيق الشامل الكامل للإسلام . 

وكان على رأس دعاة أنصار السنة أعلام أفذاذ لهم المؤلفات النافعة والمقالات القوية والخطب المجلجلة والتحقيقات النافعة لكتب السنة والتفسير وكتب أئمة التوحيد والسنة إلى جانب مجلتهم (الهدي النبوي ) التي نفع الله بها لا في مصر وحدها، بل في سائر أنحاء الدنيا.

ومن هؤلاء الأفذاذ : العلامة محب الدين الخطيب ، والعلامة محمد حامد الفقي رئيس أنصار السنة، والشيخ أحمد محمد شاكر، والعلامة مصطفى درويش ، والشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ عبد الرزاق عفيفي ، والشيخ أبو السمح إمام الحرم المكي ، والشيخ محمد خليل هراس ، والشيخ عبد الرحمن الوكيل ، وغيرهم في بلد سيد قطب مصر، وما كان أكثر أهل السنة في الهند وباكستان والشام والسودان وشرق آسيا . 

فكيف يتجاهل سيد كل ذلك ويصور لأعداء الإسلام علماء الإسلام في هذه الصور المزرية ؟! 

فإذا كنا نأخذ على سيد قطب سخريته برجال الدين واستهزاءه بهم ، فإنما ننطلق من الدفاع عن هؤلاء وعن دعوتهم الإسلامية الصحيحة الحقة، ومن منطلق الدفاع عن كتب السنة والفقه الإسلامي والفتاوى الإسلامية التي سخر منها سيد كما سترى نماذج من ذلك فيما سيأتي . 

وإذا كان يدخل فيمن يسميهم رجال الدين رجال مبتدعون ، فنحن نستنكر اعتراضه على ما يقومون به من عبادات في مساجد الله وعلى ما يقومون به من جوانب إسلامية من مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مقاومة الشيوعية والاشتراكية ودعائهما ونستنكر سكوته عن بدعهم وضلالهم ، بل نرى أن هذا السكوت عن تلك البدع والضلالات إنما كان لأحد أمرين واقعين . 

أحدهما: كونه شريكا قويا في كثير منها . 

وثانيهما: عدم مبالاته بما يفرض أنه لم يقع فيه . 

فليعرف هدفنا الإسلامي الأصيل الصادق إن شاء الله من هذا الدفاع .

وأخيرا : فإن سخرية سيد بمن يسميهم رجال الدين ما كانت إلا من منطلق اشتراكي وانتصارا للاشتراكيين الذين قاومهم العلماء وقاوموا الاشتراكية والشيوعية، فطعنه فيهم من أجل أنهم قالوا كلمة الحق في المنهج الاشتراكي والشيوعي . 

والشيوعيون والاشتراكيون إنما كانوا يهاجمون الإسلام ويهاجمون العلماء، فالسخرية بمن يسميهم (رجال الدين )إ!

ويصفهم بالأوصاف الشنيعة التي لم يصف بها الشيوعيين إنما كانت انتصارا لهؤلاء الملاحدة شاء أم أبى . 

فلا بد من محاسبة سيد، ولا بد من نقده ؟ نصرا للحق ونصرا للمظلومين من أهل السنة ومن شاركهم وأيدهم في الدفاع عن الإسلام .

الفصل الثاني 

حكم المشايخ والدراويش 

قال سيد قطب : 

(حكم المشايخ والدراويش .

هناك آخرون يتصورون أن حكم الإسلام معناه حكم المشايخ والدراويش ! 

من أين جاءوا بهذا التصور؟ من الثقافة السطحية الناقصة، ومن ملابسات الواقع في هذا الجيل . . . فأما الإسلام الحقيقي الصحيح ، فلا يعرف هذا الوضع لا في أصوله النظرية، ولا في واقعه التأريخي حتى تلك الأزياء الخاصة للمشايخ والدراويش . . . إنها ليست شيئا في الدين ، فليس هناك زي إسلامي وزي غير إسلامي ، والإسلام لم يعين للناس لباسا، فاللباس مسألة إقليمية ومجرد عادة تأريخية 000 )( ) .

أقول : 

أولا: هذه سخرية متعالية على علماء المسلمين تغري أذناب الإفرنج باحتقارهم واحتقار الإسلام نفسه . 

وقد اعتاد سيد أنه لا يذكر العلماء في كثير من الأحيان في هذا الكتاب إلا ويقرنهم بالدراويش ؟ كما لا يذكر العبادات الإسلامية في هذا الكتاب في عدد من المناسبات إلا ويقرنها بالدروشة والبدع . . . لماذا؟ 

ثانيا: أما قوله : (أما الإسلام الحقيقي الصحيح فلا يعرف هذا الوضع لا في أصوله النظرية ولا في واقعه التأريخي . . . ) . 

أسأل سيدا وغيره : هل الإسلام الحقيقي الصحيح يطارد العلماء من تسيير دفة الحكم ويسلمها للجهلة والمتفرنجين ؟ 

لقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري وغيره من علماء الصحابة، وكذلك خلفاؤه الراشدون لا يولون إلا الأكفاء . 

وأول ميزاتهم العلم والوعي . 

وواقع الإسلام التأريخي لا يعتمد على الجهلة في تولية مناصب الدولة، وإنما يعتمد على العلماء، وقد يحصل قصور وشذوذ ولكن هذه هي القاعدة. 

ثالثا: لعل الإسلام الحقيقي الصحيح عند سيد هو ذلك المزيج من المسيحية والشيوعية( ) 

ولعله لو قامت دولته لاشترك في تسييرها المسيحيون والشيوعيون والمتفرنجون من أدعياء الإسلام التقدميين . 

ولما أقوله شواهد وأدلة واقعية في السودان وأفغانستان ، ومؤشرات في غيرهما ، فليفقه أولو العقول والأبصار والأذهان . 

رابعا : أن سيدا كان يحلق لحيته ويلبس بدلة إفرنجية وكرفتة ويعتز بذلك ويتعالى عن التشبه في لباسه بمن يسميهم هو (رجال الدين ) فيقول ساخرا من كل شيء يتصل بهم ، من ثقافتهم (أي علمهم ) وصورهم وهيئاتهم ولباسهم : 

(وبعض هذه الشبهات ناشىء عن التباس فكرة الدين ذاته بمن يسمون في هذا العصر رجال الدين وهو التباس مؤذ للإسلام ولصورته في نفوس الناس ، فهؤلاء - الرجال الدين( )  أبعد خلق الله عن أن يمثلوا فكرته ، ويرسموا صورته ، لا بثقافتهم ، ولا بسلوكهم ، ولا حتى بزيهم وهيئتهم ، ولكن الجهل بحقيقة هذا الدين والثقافة المدرسية الباقية من عهد الاحتلال ، والتي ما يزال يشرف عليها الرجال الذين صنعهم الاحتلال والأدوات التنفيذية التي صاغها بيده لتسد مسده بعد رحيله ، هذا الجهل الناشيء عن تلك الثقافة لا يدع للناس صورة عن الإسلام يرونها إلا في هؤلاء الذين يعرفونهم (رجال الدين )، وهي أسوأ صورة ممكنة للإسلام ولأي دين من الأديان)( ) .

فأي تحقير وأي تشذيب للعلماء أشد من هذا التشذيب والتحقير؟ !

ومن هنا لا ترى لأتباع سيد أي تقدير وأي احترام للعلماء وإن بالغوا في التستر فإن هذا هو واقعهم . 

خامسا: الإسلام لم يغفل عن توجيه المسلمين في قضايا الزي واللباس ، فلقد حبب إليهم النظافة والتجمل والتطيب ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ، ونهى الرجال عن لباس الذهب والحرير، ونهى عن إسبال الإزار وجره خيلاء، وتوعد على ذلك وعيدا شديدا، ونهى عن حلق اللحى وعن التشبه بالكفار، وأمر بقص الشوارب . 

وقد خصص المؤلفون كتبا في اللباس في ثنايا مؤلفاتهم ، ولم يكل الناس في كثير منه إلى عادتهم ، بل تدخل في ذلك لينقلهم إلى الأفضل والأكمل .


الفصل الثالث 

العبادة ليست وظيفة حياة عند سيد قطب


ويقول سيد: (والإسلام عدو التبطل باسم العبادة والتدين ، فالعبادة ليست وظيفة حياة، وليس لها إلا وقتها المعلوم ، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ). 

وتمضية الوقت في التراتيل والدعوات بلا عمل منتج ينمي الحياة أمر لا يعرفه الإسلام ، ولا يقر عليه الألوف المؤلفة في مصر التي لا عمل لها إلا إقامة الصلوات في المساجد أو تلاوة الأدعية والأذكار في الموالد)( ) . 

أقول : 

أولا: العبادة هي وظيفة الحياة . 

قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}( ) . 

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}( ).

وقال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ( ).

وقال تعالى : {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} ( ). 

وقال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون وبالأسحارِ يستغفرون * وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} ( ) . 

ففي هذه الآيات بيان أن العبادة هي وظيفة الحياة ، وثناء عاطر على من يذكرون الله قياما وقعودا وفي جميع أحوالهم وعلى العباد الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ولا يهجعون من الليل إلا قليلا لتعلق قلوبهم الطاهرة بالله . 

فهم عباد أتقياء وفي الوقت نفسه أغنياء أسخياء يؤدون الحقوق في أموالهم وسماهم محسنين لا متبطلين ولم يحرض الدولة على أخذ أموالهم ولا على سوقهم بالعصي إلى المعامل والعمل المنتج .

والإسلام يحث على الرباط في المساجد وعلى انتظار الصلاة بعد الصلاة، وسيد يزهد في ذلك ، لا سيما في هذا العصر الذي يندر فيه المتعبدون ، لا سيما في وقته. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات " . قالوا بلى يا رسول الله ، قال : "إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط " . 

قال الإمام مسلم : وليس في حديث شعبة ذكر الرباط " وفي حديث مالك ثنتين : "فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ( ) .

والآيات والأحاديث في الحث على كثرة الصلاة والذكر كثيرة جدا، وهذا يعرفه ويعتني به علماء المسلمين من مفسرين ومحدثين وفقهاء، ويعرفه حتى عوام المسلمين، وهناك أحاديث صحيحة كثيرة تحث على الصيام وتبين فضل المتقربين إلى الله بهذه العبادة العظيمة ، ومنها : " أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى)( ) . 

ولم يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم معالجة من يتشدد في العبادة إلى درجة الإرهاق للنفس ويضيع الحقوق . 

ومع ذلك فقد ركز على الترغيب فيها والحث عليها قولا وعملا، لأن النفس البشرية في الغالب ميالة إلى حب الدنيا والانشغال بها أكثر من إقبالها على العبادة، وميالة إلى الراحة والكسل ، قال تعالى : {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} ، وقال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}( ) 

ولم يقل مثل هذا فيمن يشغلهم ذكر الله وعبادته عن الدنيا، ولا مجال للإطالة في هذا، وكتب السنة والزهد والفقه مليئة به . 

ثانيا: انظر إلى هذا التخبط والخلط من سيد قطب حيث لا يفرق بين المشروع الذي رغب فيه الإسلام وحث عليه وبين المبتدع الممنوع . 

لا يفرق بين إقامة الصلوات في المساجد وعبادة الله وذكره فيها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} النور : 36 - 37 ، وبين البدع والموالد حول الأضرحة والمشاهد.

إن تمضية الكثير والكثير من الوقت لذكر الله والصلاة في المساجد أمر مشروع مرغب فيه يعرفه الإسلام ولا ينكره ، وصرف لحظة واحدة في البدع من موالد وغيرها سواء كانت في المساجد أو في المشاهد أمر لا يعرفه الإسلام وينكره ويحاربه حربا لا هوادة فيها ، فكيف يقرن سيد بين المشروع والممنوع؟ 

ثم إنه لا يحارب الممنوع من الجهة التي حاربه منها الإسلام ، وهي كونه ابتداعا في الدين ، وإنما أنكره من الجهة التي ينكره منها الاشتراكيون ، لأنهم يرون أن على الناس جميعا إلا حزبهم أن يكونوا عمالا كادحين وعبيدا مسخرين . 

ويقول سيد: (ولو كان الأمر للإسلام لجند الجميع للعمل فإن لم يجدوا فالدولة حاضرة، وحق العمل كحق الطعام ، فالعمل زكاة للأرواح والأجسام وعبادة من عبادات الإسلام )( )  

أقول : إن الإسلام قد حث على العمل وعلى الكسب الحلال وترك للناس حرياتهم ولم يجبر الجميع على العمل ، ولم يخرجهم من المساجد إلى الحقول والمناجم كرها، فهذا إنما هو أسلوب لينين وستالين ، وانظر إلى سيد كيف يرفع من شأن العمل من أنه زكاة للأرواح والأجسام . . . إلخ ؟ مع أنه لم يقل مثل هذا في الصلاة والزكاة والصيام والحج والذكر التي امتلأ الكتاب والسنة بمدحها ومدح أهلها وترتيب الجزاء العظيم في الدنيا والآخرة عليها( ).

فإذا كان دافعه إلى ذلك تقصير الناس في العمل الذي يغلو فيه ، فلماذا لا يدفعه الفساد العقائدي من تعطيل صفات الله وعبادة القبور واعتقاد أن أهلها يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون والفساد العملي بما في ذلك ترك الصلاة والصيام وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والاستخفاف بالدين وغير ذلك من الأمور المتفشية في عهده والتي يقع فيها أناس أضعاف المقبلين على العبادة والعقائد الصحيحة وأضعاف المتعطلين عن العمل المنتج الذي يتحمس له ويرفع من شأنه فوق العبادات التي خلق الله الجن والإنس من أجلها .

الفصل الرابع 

سخريته بالعلماء بما في ذلك قراء كتب 

السنة والفقه تزلفا للعلمانيين


ويقول : (والذين يخشون - لو حكم الإسلام - أن يبصروا فيروا على رأس الجيش مثلا في المعركة أو في مصلحة الكيمياء أو الطب الشرعي أو في وزارة الأشغال أو المالية شيخا مطمطما أو درويشا معمما لمجرد أنه قرأ كتب الفقه أو السنة أو حفظ المتون أو الحواشي والشروح أو التراتيل الدينية ودلائل الخيرات ، أولئك فليطمئنوا فواقع الإسلام التأريخي كأصوله النظرية لا يعترف إلا بالكفاية الخاصة في العمل الخاص، ولكل وجهة هو موليها)( ). 

أقول : إذا كان واقع الإسلام التأريخي كأصوله النظرية لا يعترف إلا بالكفاية الخاصة في العمل الخاص فما الداعي للسخرية بمن يقرأ كتب الفقه أو السنة أو حفظ المتون والحواشي إن كان هذا مبتدعا ضالا فيناقش في بدعته ويدعى إلى السنة والحق ، وإن كان من أهل السنة والحق فلماذا تجعله سخرية أمام الملاحدة والزنادقة ؟؟ 

ويقال للملاحدة والعلمانيين : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}( ) ولا يشاركون في الاستهزاء بعلماء المسلمين لا سيما حملة السنة ودعاتها.

والإسلام يحترم الكفاءات حقا .

وقد نفذ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن بعدهم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أشراط الساعة، قال : "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها قال : ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))( ) . 

وإن العلماء بالكتاب والسنة لهم  الأكفاء في الإمرة والقضاء والإفتاء والرئاسات العلمية، وهم مع الأمراء ولاة الأمر وأهل الحل والعقد، وأنت تريد أن يكونوا في طليعة الطرداء الى الأعمال المنتجة. 

أليس من ينظر إلى العلماء هذه النظرة المزرية وينوي مطاردتهم إلى ميادين العمل المنتج أشد الناس خطرا وأخلق بتضييع الأمانة الذي هو من علامات الساعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق