الجمعة، 18 ديسمبر 2015

وفي رواية لـابن وهب  : أن أصحاب الرأي أعداء السنة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياكم .




قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع .




وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل .




وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قراؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم .




وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال : السنة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا حظ الرأي سنةً للأمة .




وخرج أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل .




وعن الشعبي  : إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس .




وعن الحسن  : إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا وأضلوا .




وعن دراج بن السهم بن أسمح قال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحماً ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضاً ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن .




وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار . فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفياً للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط . وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض ـ إلى أشياء يطول ذكرها ـ وهي مذكورة في كتب الكلام .




وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر . إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعاً دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج . وكأن القائل بالتخصيص ـ والله أعلم ـ لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الاية ، كالمثال المذكور فإنه موافق لما كان مشتهراً في ذلك الزمان ، فهو أولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتاً عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به . وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة . ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟ ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ـ إنما يحملون على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغةً . وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة . ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع .




وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياساً ، دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون ، بالرأي المضارع للظن ، قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياءً ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيراً من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل .




وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي ، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه . ألا ترى إلى قوله عله السلام :




"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة" ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز . وبحسب عظم المفسدة في الممنوع ، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته .




وما تقدم من الأدلة يبين ذلك عظم النفسدة في الابتداع فالحرم حول حماه يتسع جداً ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جارياً على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :




"لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا" وصح نهيه عليه الصلام عن كثرة السؤال . وقال :




"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وعفا أشياء رحمةً لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها" . وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء .




وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم ، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان . ثم أجاب .




وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها فناوله الصحيفة فخرقها .




وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب ، فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به .




وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك ، فأتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم .




ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيراً ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : "إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين" ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم م تعمق فيه ، فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام ، فحكي عنه في ذلك أشياء من أخفها قوله : الاستحسان تسعة أعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة .




والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد . فهذه كلها تشديدات في الرأي وإن كان جارياً على الأصول ، حذراً من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل .




ولابن عبد البر ـ هنا ـ كلام كثير كرهنا الإتيان به .




والحاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محموداً ، وذلك راجع إلى أصل شرعي ، فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم ، والثاني خارج عنه ولا يكون بدعةً أبداً .




فصل الوجه السادس من النقل[عدل]


يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة ، والمعاني المذمومة ، وأنواع الشؤم ، وهو كالشرح لما تقدم أولاً ، وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة ، فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال .




فاعملوا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاةولا صيام ولا صدقة ولا غير ها من القربات . ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه ، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام ، فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ، ويزداد من الله بعبادته بعداً ؟ ! وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء ، ومانعة من الشفاعة المحمدية ، ورافعة للسنن التي تقابلها ، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها ، وليس له من توبة ، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ، ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخاف عليه أن يكون معدوداً في الكفار الخارجين عن الملة ، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ، ويسود وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم ، وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .




فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل ، فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاةً ولا صياماً ولا صدقةً ولا جهاداً ولا حجاً ولا عمرةً ولا صرفاً ولا عدلاً .




وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب ، فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى ، ووقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع ، وإن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، ولا فريضةً ولا تطوعاً ، وكلما ازدادوا اجتهاداً ـ صوماً وصلاةً ـ ازدادوا من الله بعداً . فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم ، كما أبعدهم وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده .




وكان أيوب السخيتاني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .




وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاةً ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرةً ولا صدقةً ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً .




وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضياً أو رازقاً أو يملك لنفسه ضراً أو نفعاً أو موتاً أو حياةً أو نشوراً ، لقي الله فأدحض حجته ، وأخرس لسانه ، وجعل صلاته وصيامه هباءً منثوراً ، وقطع به الأسباب ، وكبه في النار على وجهه .




وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها . فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه .




أما أولاً : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد بن عمر :




إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم براء مني ، فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم .




ومثله حديث الخوارج وقوله فيه :




يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم" . الحديث .




وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع بخاف عليه مثل من ذكره .




وأما ثانياً : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل ، إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها ، وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه .




فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة .




الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت ، فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا . ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفاً ، ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة ، فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل ، وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا .من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة . وهذا شديد جداً على أهل الإحداث في الدين .




الثاني : أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال ، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق ، فإن عامة التكليف مبني عليه ، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله . وما تفرع منهما راجع إليهما . فإن كان وارداً من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد ، بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً ، وإن كان وارداً من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه ، فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء ، كما في الصحيح من قوله عليه السلام :




"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل ، فإن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى .




ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد ، فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه ، بناءً منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره .




وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :




"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه !" .




وفي رواية : " ألا! هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكىء على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) فما وجدنا فيه حلالاً حللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" حديث حسن .




وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم ككتاب الله ، فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه على كتاب الله ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .




ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف ، إذ للعملاء في تكفير أهل البدع قولان . وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، ونحو الظواهر المتقدمة .




الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفاً ، وذلك يبطل عليه جميع عمله . بيان ذلك أمثلة :




منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع ، وإنما يأتي الشرع كاشفاً لما اقتضاه العقل ، فما ليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكماً متبعاً ، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة ، فكل ما عمل هذا العامل مبنياً على ما اقتضاه عقله ، وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع ، فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع ، وكل بدعة ضلالة .




ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادةً أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد ، فلا يكون لقوله تعالى : "اليوم أكملت لكم دينكم" معنى يعتبر به عندهم ، ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها ، وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق ، وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام ، والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة . وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ، ولذلك تجد كثيراً من المعتزين بهم ، والمائلين إلى جهتهم ، يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ، ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم ، فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح ، وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم ، إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم ، وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي ، وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال ، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة ، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم ، فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل ، والعياذ بالله ! .




وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضاً ، وعليه يدل الحديث المتقدم : "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" والجميع من قوله : "كل بدعة ضلالة" أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم ، وهو معنى عدم القبول ، وفاق قول الله : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ، وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ، ولا على الصيام دون الزكاة ، ولا على الزكاة دون الحج ، ولا على الحج دون الجهاد ، إلى غير ذلك من الأعمال ، لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع ، وهو الهوى والجهل بشريعة الله ، كما سيأتي إن شاء الله .




وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ، ثم قال : قوم أرادوا وجهاً من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال : ليس في خلاف السنة رجاء ثواب .




وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ، ومعناه ظاهر جداً ، فإن الله تعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين حسبما أخبر في كتابه ، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً ، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً على غير كمال ، ولا من مصالحنا الأخروية قليلاً ولا كثيراً ، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ، ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه ، فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم ، حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم لزوال الريب والالتباس ، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس ، كما قال الله تعالى : "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين" إلى قوله : "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" وقوله : "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" ولم يكن حاكماً بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم ، وتجتمع به كلمتهم ، وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا ، وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ، ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق ، فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال ، من طرق يعرف مآخذها العلماء . وذلك ، القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وإقراراً ، ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم ، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة ، والعطايا الجزيلة ، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً ، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه ، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة . قال الله تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" بعد قوله : "اتقوا الله حق تقاته" فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً ، وأن ما سوى ذلك تفرقة ، لقوله : "ولا تفرقوا" والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة ، لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام .




روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة .




وعن قتادة : حبل الله المتين ، هذا القرآن وسنته ، وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير ، والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله ، إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : "واعتصموا بالله هو مولاكم" .




وأما أن الماشي إليه والموقر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله .




وروي أيضاً مرفوعاً :




"من أتى صاحب بدعة ليوقره ، فقد أعان على هدم الإسلام" .




وعن هشام بن عروة قال :




قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" .




ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام : "من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" الحديث .




فإن الإيواء يجامع التوقير ، ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته ، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو اشد من هذا ، كالضرب والقتل ، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام ، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه ، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه .




وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :




إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير ، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس ، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره ، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم .




والثانية : أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء .




وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن ، وهو هدم الإسلام بعينه .




وعلى ذلك دل حديث معاذ : فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع ، وإذا ماتت انهدم الإسلام .




وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار ، لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس ، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين .




وأيضاً فمن السنة الثابتة ترك البدع ، فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة .




فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما إلا قليلاً ، قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة . وله آخر قد تقدم .




وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله بها عنهم سنته .




وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة .




وعن بعض السلف يرفعه :




"لا يحدث رجل في الإسلام بدعةً إلا ترك من السنة ما هو خير منها" .




وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعةً وأماتوا فيه سنةً ، حتى تحيا البدع وتموت السنن .




وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة ، فلقوله عليه الصلاة والسلام :




"من أحدث حدثاً آو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" .




وعد من الأحاديث ، والاستنان بسنة سوء لم تكن .




وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه ، وقد شهد أن بعثه النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيها ، وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي ، وذلك قول الله تعالى : "كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق " إلى قوله : "أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" إلى آخرها .




واشترك أيضاً مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه . وذلك قوله تعالى : "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" إلى آخرها .




فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين ، وذلك مضادة الشارع فيما شرع ، لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع ، وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان ، فضادها الكافر بأن جحدها جحداً ، وضادها كاتمها بنفس الكتمان ، لأن الشارع يبين ويظهر ، وهذا يكتم ويخفي ، وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر ، لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات ، من أجل اتباع المتشابهات ، لأن الواضحات ، تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات ، فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح ، حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين .




قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ، وكان قد صلى خلف الإمام ، فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه . فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه ، وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :




"من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟" فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره .




وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفاً من تلك اللعنة . فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟




وتقدم حديث الطحاوي : ستة ألعنهم . لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة والسلام أخذاً بالبدعة .




وأما أنه يزداد من الله بعداً . فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهاداً ، صياماً وصلاةً ، إلا ازداد من الله بعداً .




وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .




فصل:الوجه السادس من النقل[عدل]


ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :




"يخرج من ضئضىء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" فبين أولاً اجتهادهم ثم بين آخراً بعدهم من الله تعالى .




وهو بين أيضاً من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم ، فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه ، والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة ، وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة .




وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع ، وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه ، وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها .




وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام , فلأنها تقتضي التفرق شيعاً .




وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وقوله : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ، وقوله : "ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون" ، وقوله : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى .




وقد بين عليه الصلاة والسلام :




"أن الفساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين" هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع .




وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح ، ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضاً ، حسبما بينه جميع أهل الأخبار .




ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها ، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم .




وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة .




وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة اهـ . بل قبح الله عمرو بن عبيد ، وسئل يوماً عم شيء فأجاب فيه .




قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا . قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ، ويونس ، وأبن عون ، والتميمي . قال أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء .




فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق . "ويأبى الله إلا أن يتم نوره" .




وأصل هذا الفساد من قبل الخوراج فهم أول من لعن السلف الصالح ، وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة ، ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء .




وأيضاً فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه ، وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم ، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء . لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً . كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟




وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما روي أنه عليه السلام قال :




"حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة" ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال :




" أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ، فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " الحديث ، وقد تقدم . ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما قال : "فأقول لهم سحقاً كما قال العبد الصالح" ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداء لم يكن ارتداد كفر لقوله : "وإنه سيؤتى برجال من أمتي" ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ،ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" ، ولو علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها ، لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة ، وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" .




ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : "فأقول فسحقاً فسحقاً" .




وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها ، فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام .




وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، فلقوله تعالى : "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :




"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" الحديث .




وإلى ذلك أشار الحديث الآخر :




"ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، لأنه أول من سن القتل" .




وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله ، إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سن القتل ، فدل على أن من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله ، إذ لم يتعلق الإثم بمن سن القتل لكونه قتلاً دون غيره ، بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقاً مسلوكة .




ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله :




"ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً" وغير ذلك من الأحاديث .




فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره ، يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ، ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ، ولا شعر أنه من عمله ، فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده ، إلا كتب عليه إثم ذلك العامل ، زيادةً إلى إثم ابتداعه أولاً ، ثم عمله ثانياً .




وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضياً ـ حسبما تقدم ـ واشتهاراً وانتشاراً ،فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها ، كما أن من سن سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وأيضاً . فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها ، كان على المبتدع إثم ذلك أيضاً ، فهو إثم زائد على إثم الابتداع ، وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها ، لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك .




واعتبروا ذلك ببدعة الخوراج فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرفنا بأنهم :




"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث إلى آخره . ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى . هل هو موجود فيهم أم لا ؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله ، وهو الذي دل عليه قوله : "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " ، وقوله : "يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم" فهذه بدع ثلاث ، إعاذة الله بفضله .




وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام :




"إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة" .




وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها .




ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه .




خرج هذه الآثار ابن وضاح .




وخرج ابن وهب ،عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع ، وصاحب هوى ، فإنهما لا ينزعان .




وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا ما هو شر منه . قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :




"يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه" .




وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول ، وأوله : "يمرقون من الدين" وآخره : "ثم لا يعودون" وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :




"سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة" .




فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار . وحاصلها أنه [ لا ] توبةً لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب ، أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد ، كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز .




ويدل على ذلك أيضاً حديث الفرق إذ قال فيه :




"وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العادي ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم . ولكن الغالب في الواقع الإصرار .




ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله .




وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جداً لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أ خرى ، وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة .




ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به . وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبداة مفتون . واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : "يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه" إلى آخر الحديث .




ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم .




فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات ، عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات ، والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم . قال الله : "وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية" وقال : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ،ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوباً عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقاً للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به ، والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البرهان مطلباً ؟ "كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" .




وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى : "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين" حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم . ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه ، لما سمعوا من خواره ، ولما ألقى إليهم السامري فيه ، فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم . قال الله تعالى : "وكذلك نجزي المفترين" فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم ، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" .




فإذاً كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء ، وأيضاً فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال . ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ، ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور ، وعمل بأعمالها على التقية .




وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده ، فقال : "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله" وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل ، هذا بالنسبة إلى الذلة ، وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلاً في حكم الغضب والله الواقي بفضله .




وأما البعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلحديث الموطأ :




"فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال .." الحديث . وفي البخاري ، عن أسماء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :




"أنا على حوضي أنتظر من يرد علي ، فيؤخذ بناس من دوني ،فأقول : أمتي ! فيقال : إنك لا تدري ، مشوا القهقرى" . وفي حديث عبد الله :




"أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ! أصحابي ، يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك" .




والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل ، لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض ، كان كفرهم أصلاً أو ارتداداً .




ولقوله : "قد بدلوا بعدك" ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك . وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة ، وهو واقع على أهل البدع . ومن قال : إنه النفاق . فذلك غير خارج عن مقصودنا ، لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً لا تعبداً ، فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع .




ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى ، لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي .




وأما الخوف عليه من أن يكون كافراً . فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ، ودل ذلك ظاهر قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" ، وقوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" . الآية . وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم ، لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت ، والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا ؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال : إن جماعةً من أهل العلم قالوا




بكفرك وأنت حلال الدم .




وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله . فلأن صاحبها مرتكب إثماً ، وعاص لله تعالى حتماً ، ولا تقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ، بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه ، والأصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة ، وإن كانت كبيرة فأعظم . ومن مات مصراً على المعصية فيخاف عليه ، فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه ، حتى يموت على التغيير والتبديل ، وخصوصاً حين كان مطيعاً له فيما تقدم من زمانه ، مع حب الدنيا المستولي عليه .




قال عبد الحق الإشبيلي  : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله ، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر ، وإقدام على العظائم ، أو لمن كان مستقيماً ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه ، وأخذ في طريق غير طريقه ، فيكون عمله ذلك سبباً لسوء خاتمته وسوء عاقبته ، والعياذ بالله . قال الله تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" .




فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية . فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم ، لأن المبتدع مع كونه مصراً على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله ، غير مسلم لها في تحصيل أمره ، معتقداً في المعصية أنها طاعة ، حيث حسن ما قبحه الشارع ، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره ، فهو قد قبح ما حسنه الشارع ، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله . وقد قال تعالى في جملة ذم : "أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" .




والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له ، وسوء الخاتمة من مكر الله ، إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به . اللهم إنا نسألك العفو العافية .




وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " . وفيها أيضاً الوعيد بالعذاب لقوله : "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" وقوله قبل ذلك : "وأولئك لهم عذاب عظيم " .




حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئاً ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس ، لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء ، وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم .




وأما البراءة منه ففي قوله : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " . وفي الحديث :




"أنا بريء منهم وهم براء مني" .




وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني .




وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك .




وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنةً لغيره ، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار ، وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به ، وإني واثق بنفسي . فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه .




وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر .




وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون .




وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم .




والآثار في ذلك كثيرة . ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال :




"المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل" . ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة ، إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة ، فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له ، أو يزيد له فيه قيداً من رأيه ، فيقبله قلبه ، فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلماً فإما أن يشعر به فيرده بالعلم ، أو لا يقدر على رده . وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك .




قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي ، وأما أنت فشاك ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ، ثم قرأ :




"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة " .




فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه .




ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى ؟ فقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة . وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل .




ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك ، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك .




ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئاً من بعض أهل القدر ، فعلق قلبه ، فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم ، فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت .




ثم حكى أيضاً عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه ، فتغلظ عليه ، لقوله : "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" فلا توادوهم .




وأما أنه يخشى عليه الفتنة ، فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله ، أخشى عليه الفتنة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة . أما سمعت قوله تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل من المواقيت .




وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد . فقال لا تفعل . قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة . فقال : واي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إني سمعت الله يقول : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" .




وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم ، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه وسلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم .




وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم ، وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم . ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم .




ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شان المنافقين حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، وهم الذين كانوا يتسللون لواذاً .




وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ، لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ، ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضاً من باب أحرى .




فهذه جملة يستدل بها على ما بقي ، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير ، وبسط معانيها طويل ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق .




فصل وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع[عدل]


وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم .




وهو أن البدع ضلالة ، وأن المبتدع ضال ومضل ، والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ، ويشير إليها في آيات الاختلاف والتفرق شيعاً وتفرق الطرق ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة . وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو ـ لا يسمى ضلالاً ، ولا يطلق على المخطىء اسم ضال ، كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي . وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها ، وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدي والهدى ، والعرب تطلق الهدى حقيقة في الظاهر المحسوس ، فتقول : هديته الطريق وهديته إلى الطريق . ومنه : نقل إلى طريق الخير والشر ، قال تعالى : "إنا هديناه السبيل" ، "وهديناه النجدين" ، "اهدنا الصراط المستقيم" ، والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد ، فهو حقيقة في الطريق المحسوس ، ومجاز في الطريق المعنوي ، وضده الضلال ، وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال ، والشاة الضالة . ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ؟ لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه ، وهو الدليل .




فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره ، فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم ، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة ، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه ، يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة ، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها . فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله . وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره ، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه ، وأخذ الأدلة بالتبع ، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر ، فكما تجد فيه نصاً لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالاً مرجوحاً حسبما قرره من تقدم في غير العلم ، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ، ويتأول على غير ما قصد فيه . فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة ، وعدم الاضطلاع بمقاصدها ، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع .




فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة ، وأمكن في ضلال البدعة ، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما اراد منها .




والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها . قال تعالى : "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " وقال : "كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" . لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح ، والقليل منها كالكثير ، وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق ، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل ، فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير ، والمتشابه إلى الواضح ، غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه ، من حيث يظن أنه على الطريق ، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه ، وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع ، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي بحث عنه ، فوجد الجادة ، وما شذ له عن ذلك ، فإما أن يرده إليه . وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله .




وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" إلى قوله : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فلا يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعاً ولا ضالاً ، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه .




أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقياً إليه حكمة الانقياد ، باسطاً يد الافتقار ،مؤخراً ، ومقدماً لأمر الله .




وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك ، وإليها لجأ ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ فلا حرج عليه ، بل يكون مأجوراً حسبما بينه الحديث الصحيح :




"إذ اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" وإن خرج متعمداً فليس على أن يجعل خروجه طريقاً مسلوكاً له أو لغيره ، وشرعاً يدان به .




على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استناناً فيعامل من سنه كما جاء في الحديث :




"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" الحديث ، وقوله عليه السلام :




"ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل" فسمي القتل سنةً بالنسبة إلى من عمل به عملاً يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعاً ولا يسمى ضلالاً لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له .




وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ، ويشهد له أيضاً أحوال من تقدم قبل الإسلام ، وفي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى قال : "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجاً فقالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحداً إلى أحد ، لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون ، فقص هواهم على هذا الأصل العظيم ، واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لهم : "إن أنتم إلا في ضلال مبين" .




وقال تعالى : "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم ، غير أنهم أرادوا أن يكون التحيكم على وفق أغراضهم زيغاً عن الحق وظناً منهم أن الجميع حكم ، وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وجهلوا أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم هو حكم الله الذي لا يرد ، وأن حكم غيره معه مردود ، إن لم يكن جارياً على حكم الله ، فلذلك قال تعالى : "ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله : "ألم تر إلى الذين يزعمون" كذا ـ إلى آخره . وجماعة من المفسرين قالوا : إنما نزلت في رجل من المنافقين ، أو في رجل من الأنصار .




وقال سبحانه : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" فهم شرعوا شرعة ، وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة ، توهماً أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق ، فنزلوا وافتروا على الله الكذب ، إذ زعموا أن هذا من ذلك ، وتاهوا في المشروع ، فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، وقال سبحانه : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" ، فهذه فذلكه لجملة بعد تفصيل تقديم ، وهو قوله تعالى : "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" الآية . فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ، ثم قال : "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم" وهو تشريع أيضاً بالرأي مثل الأول ، ثم قال : "وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم" إلى آخرها ، فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى : "قد ضلوا وما كانوا مهتدين" ثم قال تعالى بعد تعزيزهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله : "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين" ، وإلى قوله : "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وقوله : "عليه أرحام" يعني أنه يضله .




والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتى فيها بذكر الضلال لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم ، لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم ، فقالوا : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله ، إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صوراً لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد ، وهو الضلال المبين .




وقال تعالى : "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد" فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل ، بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير ، فتاهوا بالشبهة عن الحق ، لتركهم الواضحات ، وميلهم إلى المتشابهات ، كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران ، فلذلك قال تعالى : "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" وهم النصارى ، ضلوا في عيسى عليه السلام ، ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسى : "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال : "لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين" .




وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا ، وذلك لكونهم يدخلون معهم في احوال التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يخلصهم ، أو أنه يغني عنهم شيئاً وهم في الحيقية إنما يخادعون أنفسهم ، وهذا هو الضلال بعينه ، لأنه إذا كان يفعل شيئاً يظن أنه له ، فإذا هو عليه ، فليس على هدى من عمله ، ولا هو سالك على سبيله ، فلذلك قال : "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" إلى قوله : "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا" .




وقال تعالى حكايةً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : "أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون" ؟ معناه كيف أبعد من دون الله ما لا يغني شيئاً ، وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إلى غير طريق "إني إذا لفي ضلال مبين" .




والأمثلة في تقرير هذا الأصل كثيرة ، جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له ، أو تقليد من عرضت له الشبهة ، فيتخذ ذلك الزلل شرعاً وديناً يدين به ، مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب .




ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصراً على هذا الطريق بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عناداً أو ظلماً ، ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي أم القرآن فقال : "اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم " فهذه هي الحجة العظمى التي دعا الأنبياء عليهم السلام إليها . ثم قال : "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ألا ترى إلى قول الله فيهم : "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" .




"يعني اليهود ، والضالون هم النصارى" لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام ، وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .




ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلهاً غيره ، لأنه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك ، لأن لفظ القرآن في قوله : "ولا الضالين" يعمهم وغيرهم ، فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه .




ولا يبعد أن يقال : إن الضالين يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا ، إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله ، فقوله تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق ، أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية ، وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال ، وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم ، الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم .




وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ، ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق )))خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا






لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على عليّ وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله.




فقال علي: لا حكم إلا لله.




فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.




فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } الآية [النخل: 91] .




فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.




فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه.




فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.




فقال علي: تبا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح.




فقال: وددت أن قد كان ذلك.




فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم.




فخرجا من عنده يحكمان وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.




فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول: « ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » [الزمر: 65] .




فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم.




ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.




وقال أبو محنف، عن عبد الملك، عن أبي حرّة: أن عليا لما بعث أبا موسى لأنفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.




ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.




ثم قام حرقوص بن زهير فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128] .




فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها.




فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت.




واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ص: 26] .




وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] .




وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن سخبرة السلمي.




ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟




قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.




وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنا } [الكهف: 103-105] .




والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطأوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها - فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها.




فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم.




فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليه ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات.




ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات.




وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة.




وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان، وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة، وعندهم أنهم متقربون بذلك.




فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان.




وقال أبو مخنف، عن أبي روق، عن الشعبي: أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان، وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد.




فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:




بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد




ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما، وقال ما فيه حط عليهما، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشام، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه، وندب إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام.




وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام فهلموا حتى نجتمع على قتالهم.




فكتبوا إليه: أما بعد.




فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [الأنفال: 58] .




فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم، وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف - خمسة وستين ألفا - وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة.




ومع أبي الأسود الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس وقام علي أمير المؤمنين خطيبا: فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم على الشام، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا، وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم.




وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه وهي حامل، فقالوا: من أنت؟




قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكم قد روعتموني.




فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك.




فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي » فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم فشق جلده.




فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟




فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه.




فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟




فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله؟




فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها.




فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء.




ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا، فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرث بن مرة العبدي.




فقال: اخبر لي خبرهم، وأعلم لي أمرهم، واكتب إليّ به على الجلية.




فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه.




فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الش===مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج






لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج، نادى مناديه في الناس بالرحيل فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده.




ثم سلك على دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم على شاطئ الفرات، فلقيه هنالك منجم فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال فأظفره الله.




وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول جاهل، إنما ظفر لكونه وافقه.




وسلك عليُّ ناحية الأنبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود - وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي - في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي.




وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم، ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب - يعني أهل الشام - ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه.




فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم.




فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجع.




وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتوعدهم.




وقال: إنكم أنكرتم عليّ أمرا أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه فلم تقبلوا، وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله، فكيف بدماء المسلمين؟




فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة.




وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شُريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي.




ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه.




وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وكانوا في سبعمائة - قيس بن سعد بن عبادة.




وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون - وكانوا في أربعة آلاف - فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي.




فزحفوا إلى علي، فقدمّ علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصف الرجاله وراء الخيالة.




وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤكم.




وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدّمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل.




فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي، قبحهم الله.




قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار.




فقال: ستعلم أينا أولى بها صليا.




قالوا: ولم يقتل من أصحاب عليّ إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم.




فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟




قال: الشيطان وأنفسٍ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.




ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم.




وقال الهيثم بن عدي في كتاب (الخوارج): وحدثنا محمد بن قيس الأسدي، ومنصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة: أن عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله كله حتى كان آخر ذلك مرجل أُتي به فرده.




وقال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة: أن عليا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا.




قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعرات سود.




فإذا مدت امتدت حتى تحاذى يده الأخرى، ثم تنزل فتعود إلى منكبه كثدي المرأة.




فلما رآه علي قال: أما والله ما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل لأخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفا للحق.




وقال الهيثم بن عدي في كتابه في (الخوارج): وحدثني محمد بن ربيعة الأخنسي؛ عن نافع بن مسلمة الأخنسي، قال: كان ذو الثدية رجلا من عرنة من بجيلة، وكان أسود شديد السواد، له ريح منتنة معروف في العسكر، وكان يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله.




وحدثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريان بن صيرة الحنفي.




قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.




وحدثني سفيان الثوري، عن محمد بن قيس الهمداني، عن رجل من قومه يكنى أبا موسى: أن عليا لما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.




وحدثني يونس بن أبي إسحاق، حدثني إسماعيل، عن حبة العرني.




قال: لما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم.




فقال علي: وكلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا ألبوا أن يظهروا عليه.




قال: وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات.




وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليا يسميه إلا الجاحد.




وقال الهيثم بن عدي: ثنا إسماعيل، عن خالد، عن علقمة بن عامر، قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟




فقال: من الشرك فروا.




قيل: أفمنافقون؟




قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.




فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟




قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا.




فهذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا المقام===ال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة - وهو رجل من بني تميم - فقال: يا رسول الله إعدل.




فقال: « ويلك ومن يعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ».




فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه.




فقال: « دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضبه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلم يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس ».




قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته.




وهكذا رواه مسلم من حديث أبي سعيد.




ورواه البخاري أيضا من حديث الأوزاعي: عن الزهري، عن أبي سلمة والضحاك، عن أبي سعيد.




وأخرجه البخاري أيضا من حديث سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه.




ومسلم عن هناد، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن سعيد بن مسروق، عن عبد الرحمن بن يعمر، عن أبي سعيد الخدري به.




وقد روى مسلم في صحيحه من حديث داود ابن أبي هند، والقاسم بن الفضل.




وقتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تمرق مارقة عند فرقة المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق ».




ورواه أيضا من حديث أبي إسحاق الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد مرفوعا.




وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن ابن مسهر، عن الشيباني، عن يسير بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر هؤلاء الخوارج؟




فقال: سمعته وأشار بيده نحو المشرق، وفي رواية نحو العراق يخرج قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية محلقة رؤوسهم.




وروى مسلم من حديث حميد بن هلال عن عبد الله ابن الصامت عن أبي ذر نحوه، وقال: سيماهم التحليق شر الخلق والخليقة.




وكذلك رواه محمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعا وقال: سيماهم التحليق شر الخلق والخليقة.




وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم إلى يوم القيامة ».




وقد روى مسلم عن قتيبة عن حماد، عن أيوب، عن محمد بن عبيدة، عن علي في خبر مؤذن الليل وهو ذو الثدية، وأسنده من وجه آخر عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي وفيه أنه حلف عليا على ذلك فحلف له أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.




ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن زيد بن وهب، عن علي بالقصة مطولة، وفيه قصة ذي الثدية.




ورواه من حديث عبيد الله ابن أبي رافع عن علي.




ورواه أبو داود الطيالسي: عن حماد بن زيد عن حميد بن مرة، عن أبي الوضيء والسحيمي عن علي في قصة ذي الثدية.




ورواه الثوري عن محمد بن قيس، عن أبي موسى - رجل من قومه - عن علي بالقصة.




وقال يعقوب بن سفيان: ثنا الحميدي، ثنا سفيان، حدثني العلاء ابن أبي العباس أنه سمع أبا الطفيل يحدث عن بكر بن قرقاش، عن سعيد ابن أبي وقاص قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الثدية فقال: « شيطان الردهة كراعي الخيل يحذره رجل من بجيلة يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب، علامة في قوم ظلمة ».




قال سفيان: فأخبرني عمار الذهبي أنه جاء به رجل منهم يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب.




قال يعقوب بن سفيان: وحدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهمداني سمعت سعد بن مالك يقول: قتل علي ابن أبي طالب شيطان الردهة - يعني: المخدج يريد - والله أعلم قتلة أصحاب علي.




وقال علي بن عياش: عن حبيب، عن سلمة قال: لقد علمت عائشة أن جيش المروة وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.




قال ابن عياش: جيش المروة قتلة عثمان، رواه البيهقي.




ثم قال البيهقي: أنا الحاكم، أنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».




فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟




قال: « لا ».




فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟




قال: « لا ولكن خاصف النعل » - يعني: عليا -.




وقال يعقوب بن سفيان: عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن جرير، عن لاحق قال: كان الذين خرجوا على علي بالنهروان أربعة آلاف في الحديد فركبهم المسلمون فقتلوهم ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط وإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فإنه يشهد بذلك.




قلت: الأخبار بقتال الخوارج متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك من طرق تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن ووقوع ذلك في زمان علي معلوم ضرورة لأهل العلم قاطبة، وأما كيفية خروجهم وسببه ومناظرة ابن عباس لهم في ذلك ورجوع كثير منهم إليه فسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله  ==.ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب




وما ورد من الأحاديث النبوية من الأخبار بمقتله وكيفيته:


كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد تنغصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه.


واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا يمينا وشمالا، زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير.


وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أي ما ينتظر؟ ماله لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه ويشير إلى لحيته من هذه ويشير إلى هامته.


كما قال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الحراب الأحوص بن جواب، ثنا عمار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال:


قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه فما يحبس أشقاها؟


فقال عبد الله بن سبع: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلا فعل ذلك لأبدنا عترته.


فقال: أنشدكم بالله أن يقتل بي غير قاتلي.


فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف؟


فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملا؟.


أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.


طريق أخرى


قال أبو داود الطيالسي في (مسنده): ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة عن زيد بن وهب.


قال: جاءت الخوارج إلى علي فقالوا له: اتق الله فإنك ميت.


قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكن مقتول من ضربةٍ على هذه تخضب هذه - وأشار بيده إلى لحيته - عهد معهود وقضى مقضي، وقد خاب من افترى.


طريق أخرى عنه


قال الحافظ أبو يعلى: ثنا سويد بن سعيد، ثنا رشدين بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة، عن عثمان بن صهيب، عن أبيه قال:


قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أشقى الأولين؟ ».


قلت: عاقر الناقة.


قال: « صدقت فمن أشقى الآخرين؟ »


قلت: لا علم لي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قال: « الذي يضربك على هذه - وأشار بيده - على يافوخه فيخضب هذه من هذه » يعني لحيته من دم رأسه قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم.


طريق أخرى عن علي


قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا يقول: لتخضبن هذه من هذه فما ينتظر بي إلا شقي.


فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا نبد عترته.


قال: إذا تقتلون بي غير قاتلي.


قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟.


قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.


وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن سبعٍ قال: خطبنا علي فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه.


قال: فقال الناس: فأعلمنا من هو والله لنبيدنه أو لنبيدن عترته.


قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلي.


قالوا: إن كنت علمت ذلك فاستخلف.


قال: لا، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. تفرد به أحمد.


طريق أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه


قال الإمام أحمد: حدثنا هشم بن القاسم، ثنا محمد - يعني: ابن راشد - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري - وكان أبو فضالة من أهل بدر -، وقال:


خرجت مع أبي عائدا لعلي بن أبي طالب من مرض أصابه ثقل منه.


قال فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة؟ تحمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك.


فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن لا أموت حتى أؤمر ثم تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه - يعني هامته -.


قال: فقتل أبو فضالة يوم صفين، تفرد به أحمد أيضا.


وقد رواه البيهقي في (الدلائل) عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.


طريق أخرى عنه


قال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا كوفي يقال له: عبد الملك بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول:


قال لي عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلي في غرز الركاب لا تأتي العراق فإنك إن أتيتها أصابك بها ذباب السيف.


قال: وأيم الله لقد قالها ولقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم لي قبله.


قال أبو الأسود: فقلت: تالله ما رأيت رجلا محاربا يحدث بهذا قبلك غيرك.


ثم قال البزار: ولا نعلم رواه إلا علي بن أبي طالب بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه إلا عبد الملك بن أعين عن أبي حرب، ولا رواه عنه إلا ابن عيينة. هكذا قال.


قال: وقد رأيت من الطرق المتعددة خلاف ذلك.


وقال البيهقي بعد ذكره طرفا من هذه الطرق: وقد رويناه في كتاب (السنن) بإسناد صحيح عن زيد بن أسلم، عن أبي سنان الدؤلي، عن علي في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.


حديث آخر في ذلك


قال الخطيب البغدادي: أخبرني علي بن القاسم البصري، ثنا علي بن إسحاق المارداني، أنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا إسماعيل بن أبان الوراق، ثنا ناصح بن عبد الله المحلمي، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: « من أشقى الأولين؟ ».


قال: عاقر الناقة.


قال: « فمن أشقى الآخرين؟ ».


قال: الله ورسوله أعلم.


قال: « قاتلك ».


حديث آخر في معنى ذلك


وروى البيهقي من طريق فطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة الحماني قال: سمعت عليا على المنبر وهو يقول: والله إنه لعهد النبي الأمي إليّ إن الأمة ستغدر بك بعدي.


قال البخاري: ثعلبة بن زيد الحماني في حديثه هذا نظر.


قال البيهقي: وقد رويناه بإسناد آخر عن علي إن كان محفوظا.


أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو محمد بن شوذب الواسطي بها، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا عمرو بن عون، عن هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزدي، عن علي قال: إن مما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستغدر بك بعدي.


قال البيهقي: فإن صح فيحتمل أن يكون المراد به والله أعلم في خروج من خرج عليه ثم في قتله.


وقال الأعمش: عن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأرقم.


قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال: نبئت أن بسرا قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم، وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم.


قد بعثت فلانا فخان وغدر، وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث المال إلى معاوية لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته، اللهم سئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم.


قال: فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل رضي الله عنه وأرض

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق