الجمعة، 18 ديسمبر 2015

وفي رواية أخرى عنه : إنما هما اثنتان ـ الهدى والكلام ـ فأفضل الكلام ـ أو أصدق الكلام ـ كلام الله ، وأحسن الهدى هدى الله بل محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسوا قلوبكم ، ولا يلهينكم الأمل ، فإن كل ما هو آت قريب ، ألا إن بعيداً ما ليس آتياً .


وفي رواية أخرى عنه : أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها ، و " إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " .

وروى ابن ماجة مرفوعاً عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة" والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود .

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" .

وفي الصحيح أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :

"من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره . ومثل أجور من أتبعه غير منقوص من أجورهم شيء ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيء" خرجه الترمذي .

وروى الترمذي أيضاً وصححه ، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال :

"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب . فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبداً حبشياً . فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل ضلالة " وروى على وجوه من طرق .

وفي الصحيح "عن حذيفة أنه قال :يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي قال فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال : نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا . قال نعم هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك" وخرجه البخاري على نحو آخر .

وفي حديث الصحيفة :

" المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع . والبدع من أقبح الحدث . وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله . وهو وإن كان مختصاً بالمدينة فغيرها أيضاً يدخل في المعنى .

وفي الموطأ من حديث أبي هريرة :

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة : فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" الحديث ـ إلى أن قال فيه "فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ! ألا هلم ! فيقال : أنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقاً ! فسحقاً! فسحقاً " حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع ، وحمله آخرون على المرتدين عن الاسلام . والذي يدل على الأول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال : سألت أنس بن مالك فقلت : إن ها هنا قوماً يشهدون علينا بالكفر والشرك ، ويكذبون بالحوض والشفاعة ، فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

"بين العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلاة ، فإذا تركها فقد أشرك . وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال : كعدد نجوم السماء ـ له ميزابان من الجنة ، كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة . من كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذ" فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة . فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج ، والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم . مع ما في حديث الموطأ من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا هلم" لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ، وإلا فلو لم يكونوا من الأمة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة .

وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال :

"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموعظة فقال : إنكم محشورون إلى الله حفاةً عراةً غرلا "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين" قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ وإنه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول كما قال العبد الصالح : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" .

ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع كحديث الموطأ ، ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" حسن صحيح .

وفي الحديث روايات أخرى سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله . ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال :

"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره .

وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :

" من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله عز وجل شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وأنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم " الحديث .

فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة ! وفي رواية :

"لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لكفرتم" وهو أشد في التحذير .

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

"إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ـ وفي رواية فيه الهدى ـ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى . ومن أخطأه ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة" .

ومما جاء في هذا الباب أيضاً ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" سيكون في أمتي دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم ، فإياكم إياهم لا يفتنونكم" .

وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال :

"من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن يتقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً" حديث حسن .

ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها :

" من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الاسلام " .

وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك" .

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :

"من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني" .

وخرج الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

"ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله" .

وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : "ستة لعنهم الله ولعنتهم" وفيه : "والراغب عن سنتي إلى بدع" .

وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"إن لكل عابد شرةً ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ـ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" .

وفي معجم البغوي عن مجاهد قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

لكني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، فمن اقتدى بي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني ، إن لكل عامل شرةً ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى" .

وعن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

"إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي ، وإمام ضلالة وممثل من المسلمين" .

وفي منتقى حديث خثيمة ، عن سليمان ، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة ، قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله" .

وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقة دخل الجنة فقال رجل : يا رسول الله إن هذا اليوم في الناس لكثير ، قال :وسيكون في قرون بعدي" حديث غريب .

وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"كيف بكم وبزمان ـ أو قال : يوشك أن يأتي زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم" .

وخرج ابن وهب مرسلاً "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :إياكم والشعاب قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال الأهواء" .

وخرج أيضاً :

"إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها" . وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"إذا حدث في أمتي البدع وشتم أصحابي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" .

قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟ قال : إظهار السنة . والأحاديث كثيرة .

وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنما أتى بها عملاً بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب . وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح ، فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله .

فصل الوجه الثالث من النقل[عدل]
ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير .

فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : أيها الناس ! قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً . وصفق بإحدى يديه على الأخرى . ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ـ أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله . فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ـ إلى آخر الحديث .

وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً يعيداً ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً .

وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول : يا معشر القراء ، اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقاً بعيداً ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً . وفي رواية ابن المبارك : فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً . الحديث .

وعنه أيضاً : أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون وأن يضلوا وهم لا يشعرون . قال سفيان : وهو صاحب البدعة .

وعنه أيضاً : أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً . قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة .

وعنه أنه قال : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإسلام عروةً عروةً وليطئن نساءكم وهن حيض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء بكم ، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل" لا تصلون إلا ثلاثاً .

وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ، ما فيها كافر ولا منافق . حق على الله أن يحشرهما مع الدجال .

وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة .

فلذلك يقول القائل : لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره .

وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح .

وخرج أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم .

وخرج عنه ابن وهب أيضاً انه قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه بذهاب أهله . عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده . وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق .

وعنه أيضاً : ليس عام إلا والذي بعده شر منه . لا أقول : عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم .

وقال أيضاً : كيف أنتم إذا ألبستم فتنةً يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يحدثونها سنة . وإذا غيرت ، قيل : هذا منكر .

وقال أيضاً : أيها الناس ! لا تبتدعوا ولا تنطوا ولا تعمقوا ، وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون .

وعنه أيضاً : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة .

وقد روي معناه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم :

"عمل قليل في سنة ، خير من عمل كثير في بدعة" .

وعنه أيضاً خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ، ومصور ، ورجل قتل نبياً أو قتله نبي ".

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.

خرج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب : أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام ، فقال عمر لمولى له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ، فأعلمني . فلما حضر عشاؤه أعلمه ، فأتاه عمر فسلم عليه ، فاستأذن فأذن له فدخل ، فقرب عشاؤه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ، ثم قرب شواء فبسط يزيد يده ، وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم .

وعن ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر .

وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل القرآن ، فقال : اللهم أمكني منه ، قال : فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين "والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا" فقال عمر : أنت ، هو ؟ فقام غليه محسراً عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل : إن صبيغاً طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه .

وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب أنه قال : عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبداً . وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصاداً في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة ، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً واقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم .

وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن .

وعنه أنه قال : عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع .

وخرج ابن وهب عنه أيضاً قال : من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل .

وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يوماً : إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ، ويفتح فيه القرآن ، حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل ، والمرأة ، والصغير، والكبير ، والعبد ، والحر، فيوشك قائل أن يقول ، ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة ، وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .

قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً .

وفي رواية مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة ؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس : ما هذه ؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله .

ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهاداً ، صياماً وصلاةً ، إلا ازداد من الله بعداً .

وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال : لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها ، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها .

وعن الفضيل بن عياض  : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين .

وعن الحسن  : لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ، أو تخالفه فيمرض قلبك .

وعنه أيضاً في قول الله تعالى : "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" قال : كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم ، فأما اليهود فرفضوه ، وأما النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشراً وآخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة ، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث قال : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة .

وعن أبي قلابة  : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ، قال أيوب  : وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب .

وعنه أيضاً : أنه كان يقول : إن أهل الأهواء أهل ضلالة ، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار .

وعن الحسن  : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك .

وعن أيوب السخياني أنه كان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .

وعن أبي قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف .

وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الإسم واجتمعوا على السيف .

وخرج ابن وهب عن سفيان قال : كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلاً واحداً .

وخرج عنه أنه كان يقول : لا يستقيم قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا موافقاً للسنة .

وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء .

وعن إبراهيم : ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم .

وعن هشام بن حسان قال : لا يقبل الله من صاحب بدعة صياماً ولا صلاةً ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرةً ولا صدقةً ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل ، فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق .

وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق ، فخذ في طريق آخر .

وعن بعض السلف : من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه .

وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لابنه : يا عيسى ، أصلح قلبك وأقلل مالك ، وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات .

قال ابن وضاح  : يعني أهل البدع .

وقال رجال لـ أبي بكر بن عياش  : يا أبا بكر ، من السني ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها .

وقال يونس بن عبيد  : إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب ، وأغرب منه صاحبها .

وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال يأبى لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها .

وعن أبي العالية  : تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه ، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا يميناً ولا شمالاً وعليكم بسنة نبيكم ، وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا . قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، وإياكم وهذه الأهواء ، التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء . فحدث الحسن بذلك فقال : رحمه الله ، صدق ونصح .

خرجه ابن وضاح وغيره .

وكان مالك كثيراً ما ينشد :

وخي رأمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

وعن مقاتل بن حيان قال : أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أنهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك ، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ، ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق ! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء ، فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غوراً وأشد اضطراباً ، وأكثر صواعق وأبعد مذهباً من البحر وما فيه ، ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة .

وعن ابن المبارك قال : أعلم أي أخي ! إن الموت كرامةً لكل مسلم لقي الله على السنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان ، وقلة الأعوان ، وظهور البدع . وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع .

وكان إبراهيم التيمي يقول : اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ، ومن اتباع الهوى ، ومن سبل الضلالة ، ومن شبهات الأمور ، ومن الزيغ والخصومات .

وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة .

ولما بايعه الناس صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد كتابكم كتاب ، ولا بعد سنتكم سنة ، ولا بعد أمتكم أمة ، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة . ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ، ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملاً . ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ثم نزل .

وفيه : قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :

وأحييت في الإسلام علماً وسنةً ولم تبتدع حكماً من الحكم أسحما

ففي كل يوم كنت تهدم بدعةً وتبني لنا من سنة ما تهدما

ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكاً جداً ، وهو أن قال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوةً على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه . من عمل بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، واصلاه جهنم وساءت مصيراً.

وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها ، قطع لمادة الابتداع جملة . وقوله : من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" . ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو سنة لا بدعة فيه البتة ، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نص عليه على الخصوص . فقد جاء ما يدل عليه في الجملة ، وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه : "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور" فقرن عليه السلام ـ كما ترى ـ سنة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم ، وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء . لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها ، وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه وسلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله ، لا زائد على ذلك . وسيأتي بيانه بحول الله .

على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو على تلك السنة ، وأنه لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه ، فلا زائد إذاً على ما ثبت في السنة النبوية . إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى ، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده، لعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون له ناسخ ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من أمره . وعلى هذا المعنى ، بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ، ورجوعه إليه عند تعارض السنن .

ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لقوله : الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله. وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع ، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولاً حسنة وفوائد مهمة .

ومما يعزى لـأبي إلياس الألباني  : ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة ، اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، ومن ورع لا يتسع . ولآثار هنا كثيرة .

فصل الوجه الرابع من النقل[عدل]
ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس . وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية ، لأن كثيراً من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ،وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم ، ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفراداً به عن أهل البدع ، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد . قال : ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهاداً وعباداً فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف . هذا معنى كلامه ، فقد عد هذا اللقب مخصوصاً باتباع السنة ومباينة البدعة . وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم .

وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم نموذجاً يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ، حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم . وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقاً للتعبد صحيحاً ، وطربقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله .

فقد قال الفضيل بن عياض  : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة .

وقيل لـإبراهيم بن أدهم  : إن الله يقول في كتابه "ادعوني أستجب لكم" . ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه . والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به ، والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته . والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه . والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية .

وقال ذو النون المصري  : من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته .

وقال : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء ، الأول : ضعف النية بعمل الآخرة . والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم . والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل . والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله . والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم .

وقال لرجل أوصاه : ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبداً ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينغبي، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة ، تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم . ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالاً تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته ، وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، وتهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل .

وقال بشر الحافي  : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي : يا بشر  ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟قلت : لا يا رسول الله ، قال : لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار.

وقال يحيى بن معاذ الرازي  : اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول ، فلكل واحد منها ضد ، فمن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك ، والسنة وضدها البدعة ، والطاعة وضدها المعصية .

وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : كنت ماراً في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة ، فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر .

وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني  : من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه ، وموافقة السنة في أفعاله ، وصحبته لأهل الصلاح ، وحسن أخلاقه مع الإخوان ، وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ، ومراعاته لأوقاته .

وسئل كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة ، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع قولاً وفعلاً وعزماً وعقداً ونيةً ، لأن الله يقول : "وإن تطيعوه تهتدوا" فقيل له : كيف الطريق إلى السنة ؟ فقال : مجانية البدع ، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ، ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم" .

وقال أبو بكر الترمذي  : لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة ، وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانية البدعة ، فإن محمد صلى الله عليه وسلم كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى .

وقال أبو الحسن الوراق  : لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في شرائعه . ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال : الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع . وقال : علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم .

ومثله عن إبراهيم القمار قال : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه .

وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي  : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صواباً ، ومن صوابها إلا ما كان خالصاً ، ومن خالصها إلا ما وافق السنة .

وإبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص ، وكان شديداً على أهل البدع متمسكاً بالكتاب والسنة ، لازماً لطريق المشايخ والأئمة ، حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات .

وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات .

وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما : كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم إلى الشريعة والاتباع ، فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه .

وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ، ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة .

وقال أبو عثمان المغربي التونسي : هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى : "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" .

وقال أبو يزيد البسطامي : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد من العلم ومتابعته ، ولولا اختلاف العلماء لشقيت . واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ، ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها

وروي عنه أنه قال : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ كان رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهد ـ قال الرواي : فمضينا ، فلما خرج من نبيه ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة ، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه ، وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه ؟ .

وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه الله للقوم : وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلاً منه ، فما ظنك به إذا كان عاملاً بالبدعة كفاحاً ؟ .

وقال : هممت أن أسأل الله أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا ؟ ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أسأله ؟ ثم إن الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط .

وقال : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداب الشريعة .

وقال سهل التستري  : كل فعل يفعله العبد بالاقتداء : طاعةً كان أو معصية ، فهو عيش النفس ـ يعني باتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ واتباع الهوى هو المذموم ، ومقصود القوم تركه البتة .

وقال : أصولنا سبعة أشياء ، التمسك بكتاب الله ، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق . وقال : قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ، ومتابعة السنة ، وترك أذى الخلق . وسئل عن الفتوة فقال : اتباع السنة .

وقال أبو سليمان الداراني : ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين ـ الكتاب والسنة .

وقال أحمد بن أبي الحواري  : من عمل عملاً بلا اتباع سنة فباطل عمله .

وقال أبو حفص الحداد : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال . وسئل عن البدعة فقال : التعدي في الأحكام ، والتهاون في السنن ، واتباع الآراء والأهواء ، وترك الاتباع والاقتداء قال : وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح .

وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال : إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله ، أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها .

وقال : من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال .

وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنة .

وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها . قال : ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا أن يحال بي دونها .

وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة .

وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال : هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال أبو عثمان الجبري : الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ، ولزوم ظاهر العلم ، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة . إلى آخر ما قال .

ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه ، ففتح أبو عثمان عينيه وقال ، خلاف السنة يا بني في

الظاهر ، علامة رياء في الباطن .

وقال : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة ، قال الله تعالى : "وإن تطيعوه تهتدوا" .

قال أبو الحسين النوري  : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه .

وقال محمد بن الفضل البلخي  : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ، ويعملون بما لا يعلمون ، ولا يتعلمون ، ويمنعون الناس من التعلم .

هذا ما قال ، وهو وصف صوفيتنا اليوم ، عياذاً بالله .

وقال : أعرفهم بالله أشدهم مجاهدةً في أوامره ، وأتبعهم لسنة نبيه .

وقال شاة الكرماني : من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشبهات ، وعمر باطنه بدوام المراقبة ، وظاهره باتباع السنة ، وعود نفسه أكل الحلال ، لم تخطىء له فراسه .

وقال أبو سعيد الحراز  : كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل .

وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه .

وقال أيضاً : أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز وجل وغفلته عن أوامره ، وغفلته عن آداب معاملته .

وقال إبراهيم الخواص : ليس العالم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم .

وسئل عن العافية فقال : العافية أربعة أشياء ، دين بلا بدعة ، وعمل بلا آفة ، وقلب بلا شغل ، ونفس بلا شهوة .

وقال : الصبر ، الثبات على أحكام الكتاب والسنة .

وقال بنان الحمال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال ، : الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ، ومراعاة السر ، والتخلي من الكونين .

وقال أبو حمزة البغدادي  : من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأفعاله وأقواله .

وقال أبو إسحاق الرقاشي  : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ . ودليله قوله تعالى : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" .

وقال ممشاذ الدينوري  : آداب المريد في التزام حرمات المشايخ ، وحرمة الإخوان ، والخروج عن الأسباب ، وحفظ آداب الشرع على نفسه .

وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال ، لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال . فقال : نعم قد وصل ولكن إلى سقر .

وقال أبو محمد عبد الله بن منازل  : لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ، ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع .

وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال ما قارن العلم .

وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه .

وقال بندار بن الحسين  : صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق .

وقال أبو بكر الطمستاني  : الطريق واضح ، والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا ، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم ، فمن صحب منا الكتاب والسنة ، وتغرب عن نفسه والخلق ، وهاجر بقلبه إلى الله ،

فهو الصادق المصيب .

وقال أبو القاسم النصراباذي : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والأهواء ، وتعظيم حرمات المشايخ ، ورؤية أعذار الخلق . والمداومة على الأوراد ، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات .

وكلامهم في هذا الباب يطول . وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخاً ، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال ـ والسلوك عليه تيه ، واستعماله رمي في عماية ، وأنه مناف لطلب النجاة ، وصاحبه غير محفوظ ، وموكول إلى نفسه ، ومطرود عن نيل الحكمة . وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجموعون على تعظيم الشريعة ، مقيمون على متابعة السنة ، غير مخلين بشيء من آدابها ، أبعد الناس عن البدع وأهلها . ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ، ولا من يميل إلى خلاف السنة . وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولاً وفروعاً ومن لم يكن كذلك ، فلا بد من أن يكون فقهياً في دينه بمقدار كفايته .

وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية . فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم ، بل يأتي ببدع محدثات ، وأهواء متبعات ، وينسبها إليهم ، تأويلاً عليهم . من قول محتمل ، أو فعل من قضايا الأحوال ، أو استمساكاً بمصلحة شهد الشرع بإلغائها ، أو ما أشبه ذلك . فكثيراً ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم ، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعاً ، ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال ، إن صحت لم يكن فيها حجة ، لوجوه عدة ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح ، والاتباع الصحيح ، شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها .

ولما كان أهل التصرف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم ، أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلاً لنا من جهتهم ، على أهل البدع عموماً ، وعلى المدعين في طريقهم خصوصاً ، وبالله التوفيق .

فصل الوجه الخامس من النقل[عدل]
ما جاء منه في ذم الرأي المذموم ، وهو المبني على غير أسس ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة ، لكنه وجه تشريعي فصار نوعاً من الابتداع ، بل هو الجنس فيها ، فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال . ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

"إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعاً . ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" .

فإذا كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة .

وخرج ابن المبارك وغيره ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم" .

قال ابن عبد البر  : هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : يحلون الحرام ويحرمون الحلال ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه . فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغيرعلم ، وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه .

وخرج ابن المبارك حديثاً ، قال : إن من أشراط الساعة ثلاثاً ، وإحداهن : أن يلتمس العلم عند الأصاغر ، قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : الذين يقولون برأيهم . فأما صغير يروي عن كبير ، فليس بصغير .

وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم . قال سحنون : يعني البدع .

وفي رواية : إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا .

اه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق