الخميس، 19 مارس 2015

.       الرابعة: أنّ هذا القياس إمّا فاسد، أو لا يؤدّي إلى ما يريد.

توضيحه: أنّ الأصل في أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته: التشريع، لا ينتقل من هذا الأصل إلاّ بدليل ـ كما أوضحنا أدلّته ـ؛ فإذا كان ذلك كذلك، فقياس أيّ قائد جماعة على الرسول r يجعل الأصل فيه أنّه إذا تكلّم أو فعل أو قرّر يُحمَل على صفته الرسمية، لا ينتقل من ذلك الأصل إلى صفته الشخصية إلاّ ببيان.

وهذا القياس لا يؤدّي إلى ما يريد الزيد، لأنّه لم يلحق تلك الأقوال والأفعال ما ينقلها إلى الصفة الشخصية أي بيان، بخلاف قول المصطفى r<لو لم تفعلوا لصلح>، فإنّه لحقه البيان، وهو قوله: <أنتم أعلم بأمر دنياكم>.

فَإِنْ جعل الأصل في الأمير الصفة الشخصية، فسد عليه القياس؛ لاختلاف الأصلين، إذ الأصل في الرسول عليه الصلاة والسلام الصفة التشريعية الرسالية، والأصل في الأمير الصفة الشخصية عنده.

الوقفة الخامسة: هب أنَّا سلَّمنا لكم ذلك، فلماذا تتعلَّقون بشخص قال الباطل ودعا إليه وأمر به ؟ ولماذا لا نتَّحد وإيّاكم في ردعه ؟ ببيان فساد مقولته، والأخذ على يده وتحذير الناس من الاغترار به وبباطله، وذلك بتوجيههم إلى الحقّ وأهله، أمّا أن يسكت عنه، بل يعلِّق الشباب به، وذلك بتلميعه، وتمجيده، وتبرير أخطائه، فهذا موقف لا يحمده الشرع ولا العقل، لكونه غشًّا وخيانة.

الوقفة السادسة: أنّ هذا قياس مع الفارق، إذ الحادثة التي قال فيها الرسول r<لو لم تفعلوا لصلح>، حادثة دنيوية، لا دينية، بخلاف زعمائكم، فإنَّهم لا يتكلّمون في أمر الدنيا، بل في أمر الدين، فافترقا، فلم يصحّ القياس، فتنبَّه !!!

الوقفة السابعة: إذا قارن القارئ بين ما حكاه عن النووي ـ رحمه الله ـ في هذه الرسالة، وبين ما ذكره النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم (15/166)، يجد فرقًا بين الكلامين، لا يدلّ على ما ذكره الزيد، فليُرجَع إليه.

قال الزيد:<الضابط الثالث: لا تتعرض للنقد إلاّ إذا كان يحقّق مصلحة راجحة>. اﻫ

اعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ الخلاف بين الجماعات الإسلامية ليس من باب الخلاف السائغ، أو خلاف الفروع، إنَّما هو من خلاف التضاد والخلاف في الأصول.

إذن ليس الخلاف بيننا وبين الجماعات من باب نقل الشخص من المنزلة المفضولة إلى المنزلة الفاضلة، وكذا العكس، بل نحن نحاول نقله من الضلالة إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنّة، ومن الشرك والكفر إلى التوحيد والإيمان.

فهل بعد هذا يصح أن يقال: لا تتعرّض للنقد إلاّ إذا كان يحقّق مصلحة راجحة ؟ فأين المصلحة الراجحة إذا تعارضت الضلالة مع الهدى، والبدعة مع السنَّة، والشرك مع التوحيد ؟

لكن لَمَّا كان عرض أفكار هذه الجماعة بألفاظ مجملة، وجب التفصيل ليتضح الحقّ والصواب ـ بإذن الله تعالى ـ.

إذا اتَّضح ذلك، فاعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ ما نقله الزيد عن شيخ الإسلام لا يدلّ على ما يريد، إذا كان الخلاف من باب الخلاف في الأصول، لا الخلاف في الفروع، لكن لَمّا جعل الزيد كلامه مجملاً تسنّى له أن ينقل كلام شيخ الإسلام، لكنّك إذا أنزلته على واقع الجماعات الإسلامية اليوم، اتضح ما قلت لك سابقًا.

فكلام شيخ الإسلام مُنْصَبٌّ على مَن نقل شخصًا من طريقة مفضولة إلى طريقة فاضلة، يوضّح ذلك قوله رحمه الله: <...فإنّ بعض المتفقّهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم، وقد يكونون مخطئين، فلا سلك الأول، ولا الثاني، وبعض المتصوفة المريد يعتقد أنّ شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض، وطريقته أفضل الطرق وكلاهما انحراف، بل يؤمر كلّ رجل أن يأتي من طاعة الله ورسوله بما استطاعه، ولا ينقل (تنبّه) من طاعة الله ورسوله بطريقته، وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ، ولا يبيِّن (تنبّه) له نقصها، إلاّ إذا نقل إلى ما هو أفضل منهما، وإلاّ فقد ينفر قلبه عن الأولى (المفضولة وإن كانت حقًّا) بالكلّية، حتى يترك الحقّ الذي لا يجوز تركه، ولا يتمسّك بشيء آخر>. اﻫ [مجموع الفتاوى (14/433)].

واعلم ـ أيضًا ـ أنّ ما نقله عن العزّ بن عبد السلام لا يدلّ على ما يريد، لأنّ الخلاف بين الجماعات خلاف في الأصول، لا في الفروع، وما ذكره العزّ إنّما هو من باب المسائل الفرعية، حيث قال: <الكذب مفسدة محرّمة، إلاّ أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيجوز تارة ويجب أخرى، وله أمثلة:

أحدها: أن يكذب لزوجته لإصلاحها، وحسن عشرتها، فيجوز...

الثاني: أن يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده، فيسأله عنه، فيقول: ما رأيته: فهذا الكذب أفضل من الصدق...>.

واعلم أنّ ما نقله عن ابن القيم ـ رحمه الله ـ قد حذف منه كلامًا هامًّا، يخلّ حذفه بمعنى المنقول، لأنَّه لو ذكره لفسد عليه ما يريد إثباته، فتعال معي ـ أخي الكريم ـ لتقف على حقيقة الأمر بنفسك.

قال الزيد: <يقول ابن القيم الجوزية ـ يرحمه الله تعالى ـ إنّ النبي r شرع لأمّته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبُّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله: فإنّه لا يسوغ إنكاره، وإن كان يبغضه ويمقت أهله...>. إلى أن قال: <ومَن تأمّل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولّد منه ما هو أكبر منه...>. ثمّ قال: <فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضدّه.

الثانية: أن يَقِلَّ وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌّ منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرّمة.

فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك من عدم الفقه والبصيرة، إلاّ إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله، فهو المراد، وإلاّ كان تركهم فيه شاغلاً، خيرًا من أن تفرغهم لِمَا هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى>.

ولي معه في هذا النقل وقفتان:

الأولى: حذفه لكلام هام جدًّا من كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما أسلفت ـ حيث حذف بعد قوله: <فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنَّه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله> قوله: <وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنّه أساس كلّ شرّ وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله r في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: <لاَ، مَا أَقَامُوا الصَّلاَةَ> وقال: <وَمَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَصْبِرْ، وَلاَ يَنْزِعنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ>.

وحذف: ـ أيضًا ـ بعد قوله: <فطلب إزالته فتولّد منه ما هو أكبر منه>، قوله: <فقد كان رسول الله r يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لَمّا فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت، وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لِمَا يترتّب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء>.

والداعي في نظري ـ والله أعلم ـ لحذفه هذا الكلام المهمّ جدًّا هو أنّه لو نقله لفسدت عليه قاعدته التي ذكر، لأنّ مفسدة الإنكار على الجماعات الإسلامية، ليست كمفسدة الإنكار على الحكام والولاة، بل الأخيرة أعظم، لأنّ الإنكار على الجماعات الإسلامية يحقّق مصلحة لا مفسدة فيها، إذ ليس فيها إراقة دماء، ولا ذهاب مال وولد وبلد، وليس فيها فتنة في الدين والدنيا، بل فيها ردّ لهؤلاء من الضلالة إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنّة، ومن الشرك إلى التوحيد، فأيُّ مفسدة في ذلك ؟ بخلاف الإنكار على الولاة بالخروج عليهم، ففيه فساد وإفساد للدين والدنيا، وذهاب الأمن والأمان، وفيه انتشار الهرج والمرج، فكانت مفسدته أعظم من مصلحته؛ فلذا لم يشرعه الشارع.

وانظر في كلام ابن القيم حيث قال: <وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنّه أساس كلّ شرّ وفتنة إلى آخر الدهر>.

ومن أسباب حذفه لهذا الكلام ـ أيضًا ـ هو: أنّه لو نقله لرآه وقرأه الشباب، ومن ثَمَّ وقر في قلوبهم عدم الخروج على الولاة، فإثباته لا يتناسب مع منهج مَن يريد إيجاد جماعة المسلمين وإمامهم ودولتهم، فوجب حينئذ حذفه.

الوقفة الثانية: أنّ ما أثبته من كلام ابن القيم لا يؤدِّي إلى ما يريده، بل يؤدِّي إلى ضدّه.

انظر إلى قوله ـ رحمه الله ـ: <فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج...>. اﻫ، فهل ترى ـ أخي الكريم ـ الجماعات الإسلامية لاعبة بالشطرنج فقط، كالفسَّاق الذين ذكرهم الإمام ابن القيم ؟ أو أنَّهم واقعون في البدع والضلالة ـ لا سيّما كبراءهم ـ كالقول بالحلول، والاتحاد، والتصوف، والدعوة إلى بعض أنواع الشرك، والدعوة إلى وحدة الصف مع الرافضة، بل مع الأديان السماوية ـ هكذا يزعمون ـ وبعضهم يدعو لترك الجهاد، والجهاد عنده عبارة عن الخروج والسياحة في الأرض، وآخرون منهم يرون الخروج على كلّ حاكم مسلم، أو غير مسلم، وأغلب الجماعات الإسلامية معادية لأهل التوحيد في هذه البلاد وفي غيرها.

وما جرى لأهل كُنَر وأنصار السنَّة في السودان ليس منّا ببعيد بل ما جرى لنا في أزمة الخليج من وقوف الجماعات الإسلامية بأجمعها في الداخل والخارج مع طاغية العراق ـ أيضًا ـ ما هو منّا ببعيد.

واسمح لي ـ أخي العزيز ـ بهمسة صادقة في أذنك؛ لعلَّنا نفيق ممّا نحن فيه:

اعلم ـ أخي الكريم ـ بأنّ هذه الجماعات قد فشلت في تصحيح الأوضاع في بلادها التي انطلقت منها، فإذا كان ذلك كذلك، فليس لنا حاجة في تلك الدعوات الفاشلة، لا سيّما وقد أغنانا الله عنها بدعوة سلفية صحيحة، قامت على يد أئمّة صادقين، صالحين، مصلحين ـ ولا زالت ولله الحمد والمنَّة ـ تحميها دولة إسلامية، رافعة لراية التوحيد منذ وجدت إلى الآن، وبعده ـ إن شاء الله ـ؛ فما بالنا أُخَيَّ نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!

وإن أردت أَصْرَح من ذلك، فاعلم أنّه حينما قامت دولة التوحيد والدعوة السلفية التي سَمَّاها خصومنا في ذلك الوقت ﺑ <الدعوة النجدية> أو ﺑ <الدعوة الوهابية>، لينفِرُّوا عنها المسلمين، وحينما فشل التحذير العلني من تلك الدعوة، أنشأوا طرقًا وجماعات دعوية، ليسهل لهم نقل فسادهم المنهجي والعقدي إلى هذه الدعوة وأهلها، مطبِّقين المقولة الفارسية الخبيثة: <أشغلوا هذا الرجل في عقر داره>.

فجاءوا متسلِّلين، ومتسترين، متخفين، متمسّكنين، حتى إذا تمكّنوا، رفعوا عقيرتهم ورؤوسهم، عن طريق أبنائنا، وإخواننا، وآبائنا، الذين هم من بني جلدتنا، فدبَّ إلينا الخلاف، والشقاق، والفرقة، فأصبحنا جماعات وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كنّا أمّة واحدة، على منهج سواء، فيا لِهول المصيبة وعِظم الخطب، فالله المستعان، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

إذا علمت هذا فاعلم ـ أيضًا ـ بأنّ كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: <وإذا رأيت الفسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية...>. اﻫ، لا يدلّ على ما يريده الزيد ـ هدانا الله وإيَّاه ـ.

أمّا كلام ابن القيم: <وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى>. اﻫ. فهو مؤدّ لضدّ ما يريده الزيد، بل هذا الكلام صادق على موقفنا حينما ننكر على الجماعات الإسلامية، إذ نحن ننكر عليهم الاشتغال بالكتب البدعية، والشركية، والضالَّة، ونريد أن ننقلهم منها إلى كتب السنّة، والتوحيد، والهدى.

أمّا هم، فإنّهم ساعون في نقل فسَّاقنا ممّا هم عليه من المجون إلى البدع والضلالة، بل هم ناقلون صالحينا إلى ذلك.

فالواجب عليهم حينئذ تجاه فسَّاقنا وصالحينا؛ تركهم على ما هم عليه، لا نقلهم إلى كتب الشرك، والبدع، والضلالة، والشعوذة.

فتنبّه جيّدًا أخي الكريم، ولا تغرّنّك الشعارات البرَّاقة الجوفاء !!

قال الزيد: <الضابط الرابع: بيان الحقّ دون التعرض للمخطئ>. اﻫ

تذكَّر ـ أخي الكريم ـ بأنّ هذا المنهج قائم على الإجمال، حين إرادة عرض منهجه ووسائله وأساليبه.

إذا تذكّرت ذلك، فإنّه ينبغي أن تعلم بأنّ منهج السلف الصالح في الإنكار على المخالف له طريقتان:

الطريقة الأولى: التصريح باسم المخطئ.

الطريقة الثانية: التلميح.

فليس منهج السلف التصريح بإطلاق، ولا التلميح بإطلاق، بل بحسَب الحاجة، فأحيانًا يكفي التلميح، وأخرى لابدّ من التصريح، فمنهج السلف شامل للنوعين والطرقيتين، وهؤلاء القوم يأخذون ما يخدم منهجهم من طريق السلف، فيعمّمون أو يخصّصون على نحو ما يريدون.

وهذه الجماعة ـ كما أخبرتك ـ طرقها خفية جليّة، خفيّة على الجاهل، وصاحب النظرة السطحية ومحسن الظنّ، جلية على مَن عرف منهج السلف معرفة جيّدة، وعرف الطرق المخالفة له.

ولأنّ هذه الجماعة تدَّعي أنَّها هي <جماعة أهل السنّة والجماعة>، وفي الوقت نفسه تذكر بعض أقوال السلف وتتمسّك بها، فهي أشبه بالأشاعرة في خفائها على بعض الناس، وعدم التمييز بينها وبين أهل السنَّة والجماعة من جهة، وعدم بعدها عن الحقّ ـ في الظاهر ـ على خلاف الفرق الواضحة، فلذا التبس أمرهم على كثير من الشباب.

قال الزيد: <الضابط الخامس: العدل في النقد، بذكر الحسنات والسيئات...

فالعدل حينئذ يقتضي أن يذكر الحسنات والسيّئات معًا.

فليس من الإنصاف في شيء لِمَن ينصح جماعة من الجماعات الإسلامية، ومن ثمّ سائر الأمّة الإسلامية، أن يذكر الأخطاء والانحرافات والمساوئ فحسب، إنّ هذا كما هو مجاوز للعدل، فهو عرض مضلِّل لحقيقة الجماعة...>. اﻫ

وهذا الضابط ـ أخي الكريم ـ قلت لك من قبل: إنّهم نادوا به ورفعوه ليتسنَّى لهم الجمع بين الجماعات الإسلامية في جماعتهم المزعومة، قائلين للشباب الغر: <إنّ مبدأ الموازنة بين الحسنات والسيئات هو عين العدل والإنصاف، وهو منهج السلف الصالح> ـ هكذا زعموا ـ.

وقد انبرى العالِم الفاضل والشيخ المجاهد: ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ورعاه ـ لبيان فساد تلك الدعوى، رادًّا على قائليها بالحجَّة والبرهان، في كتابه: <منهج أهل السنَّة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف>، فكفاني وكفى غيري ـ جزاه الله عنّا خير الجزاء ـ الردَّ على هذا المبدأ وقائليه.

بل خصّص له ـ لخطورته ـ كتابًا مستقلاًّ أسماه: <المحجَّة البيضاء في حماية السنّة الغراء من زلات أهل الأخطاء وزيغ أهل الأهواء>.

فقول زيد: <العدل([1]) حينئذ يقتضي أن يذكر الحسنات والسيّئات معًا، فليس من الإنصاف في شيء لِمَن ينصح جماعة من الجماعات الإسلامية ومن ثَمَّ لسائر الأمّة الإسلامية؛ أن يذكر الأخطاء، والانحرافات والمساوئ فحسب، إنّ هذا كما هو مجاوز للعدل فهو عرض مضلِّل لحقيقة الجماعة...>. اﻫ

ولي معه في قوله هذا وقفات:

الأولى: أنّ قوله: <يقتضي>، يعني يلزم، يوضِّح ذلك قوله: <فليس من الإنصاف في شيء... الخ>.

وعلى هذا يكون مَن اقتصر على ذكر السيّئة ـ وهي سيّئة في نفس الأمر ـ لشخص أو جماعة أو شريط... الخ، لم يعدل، بل جار في حكمه، بل يلزم على هذا القول بأنَّ مَن اقتصر على ذكر الحسنة هو جائر ـ أيضًا ـ وهذه لوازم فاسدة، ولوازم القول إذا فسدت، دلّت على فساد القول نفسه، يوضّح ذلك قوله تعالى: }لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ...{ [المائدة، آية 73].

حيث ذكر سيّئتهم ولم يقرنها بأيِّ حسنة لهم، فهل هذا عدل، أم جور ؟! لكنَّ الجماعة حينما كان من منهجهم الإجمال، أجمل، ليَنْفُقَ ما يريد.

الثانية: أنّ أهل الحقّ خاضعون للحقّ منقادون له، يدورون مع الحقّ أينما دار، سواءً كان ذلك الحقّ كتابًا أو سنّة، أو آثارًا سلفية، بخلاف أهل الباطل، والزيغ والضلال، فإنّهم يعتقدون أوّلاً أشياء فاسدة ـ يزعمون أنّها الحقّ ـ ثمّ يبحثون بعدئذٍ عن أيّ شيء يؤيّد ما يقولون، من الكتاب أو السنّة أو أقوال السلف، فإذا عثروا عليه، تمسّكوا به، فإذا جاءهم ما يبيِّن فساد ما هم عليه، وقفوا في صدره بالردّ إن استطاعوا، وبالتأويل الفاسد إن لم يستطيعوا، فضلّوا وأضلّوا.

وسأوضّح ما قلت لك، بأمثلة تبيّن لك ما أريد، ثمّ أعود بعد ذلك لِمَا ذكره الزيد.

لَمَّا كان من عقيدة المعتزلة ومَن سار على منهجهم أنّ العقيدة وما شابهها لا تَثبُت إلاّ بقطع، نتج عن ذلك عدم قَبولهم لأخبار الآحاد في هذا الباب، فذهبوا ينقبون ويبحثون لعلّهم يجدون ما يؤيّد مذهبهم، قالوا: الله أكبر، النبي r هو إمامنا في ذلك، ألم يقل له ذو اليدين في شأن الصلاة: يا رسول أقصرت الصلاة أم نسيت ؟... فقال الرسول r<مَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ ؟> قالوا: صدق، لم تصلِّ إلاّ ركعتين... الحديث([2]).

قال المعتزلة: فها هو رسول الله r لم يقبل خبره فيما يجب فيه القطع، ونحن لأثره مقتفون متَّبِعون.

أرأيت ـ أخي الكريم ـ هذا الموقف، مع أنّ هذا الحديث عليهم وليس لهم، لأنّه r بعد أن سأل أبا بكر وعمر، فأقرَّا مقولة ذي اليدين، لم يخرجه ذلك عن كونه خبر آحاد، وعلى فرض خروجه فأين هم من قبول الرسول r شهادة ابن عمر برؤية هلال رمضان([3]) ؟ وأين هم من بعثه معاذ بن جبل إلى اليمن ليعلّمهم الدين أجمعه([4]) ؟ لكنَّهم قوم لا يعقلون، لأنَّهم اعتقدوا أوّلاً، ثمّ بحثوا ثانيًا، عن أيِّ شيء يؤيّد ما يعتقدونه، على قاعدة <أَسِّسْ ثمّ استدل>، ولو أنَّهم استسلموا وسلَّموا لله ورسوله r وداروا حيثما دار الحقّ، لأصابوا.

ولَمَّا اعتقد الخوارج أنّ مَن فعل كبيرة من الكبائر، ثمّ مات عليها قبل أن يتوب منها، فإنَّه كافر، خالد في نار جهنّم، ذهبوا يبحثون عن أيِّ شيء يؤيّد مقولتهم، فقالوا: قلنا بقول الله تعالى: }وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ...{ [النساء، آية: 93].

وغفلوا أو تغافلوا عن قوله سبحانه: }..فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيِْهِ بِإِحْسَانٍ..[البقرة، آية: 178]، فسمَّى الله تعالى القاتل والمقتول وأولياءهما إخوة. وعن قوله تعالى: }إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ..{ [النساء، آية: 48].

ولولا خشية الإطالة لتوسَّعت في هذه الأمثلة، مع مناقشة المخالفين فيها بتوسُّع، ولكنَّ المقام مقام إشارة، واللبيب بالإشارة يفهم.

ولهذا ـ أخي الكريم ـ قد يقع حدثٌ ما في زمان سابق أو لاحق، فتفسّره كلّ طائفة بحسَب ما تعتقده، لتؤيّد به معتقدها.

إذا فهمت ذلك فهمًا جيّدًا، فسأعود معك ـ بإذن الله ـ إلى ما ذكره الزيد وغيره ـ هدانا الله وإيَّاهم جميعًا ـ.

وذلك أنَّهم حينما وجدوا كتب الجرح والتعديل ذَكَرَتْ بعضًا من الرواة الذين اختُلِف في تعديلهم وتجريحهم، أو الرواة المبتدعة، وأنَّها قرنت بين تعديلهم وجرحهم، طاروا بذلك فرحًا معمّمين الحكم، قائلين: <إنّ منهج السلف يقتضي ذكر الحسنات والسيّئات>، ففسّروا ذلك الفعل بما يوافق هواهم، ويؤيّد مذهبهم.

والجواب عن هذا أتركه للشيخ الفاضل ربيع بن هادي ـ حفظه الله ـ حيث قال في كتابه «منهج أهل السنّة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف» ص (28 ـ 30): <خامسًا: الرواة والشهود إذا كانوا مجروحين، جاز جرحهم بإجماع المسلمين، بل هو واجب، قـال ذلك وحكاه النووي وابن تيمية ـ رحمهما الله ـ.

(أ) فإذا اتَّفق أئمّة الجرح والتعديل على جرح راوٍ بالكذب، أو فحش في الغلط، أو قالوا: متروك الحديث، واهي الحديث، وما شاكل ذلك، جاز لكلّ باحث وناقل أن ينقل ذلك ويرويه ولا يلزمه ـ من قريب ولا من بعيد ـ ذكر شيء من محاسنه، فضلاً عن البحث عن كلّ محاسنه ثمّ ذكرها.

(ب) وأمّا الرواة المختلف في تعديلهم وتجريحهم، أو الرواة المبتدعون.

فالنوع الأول يترتَّب على تقديم جرحه والأخذ به، دون التفات إلى قول مَن عدّله؛ إسقاط شيء من الدين، ومِمَّا ثبت عن سيّد المرسلين.

وهذا إفساد عظيم، وتضييع شيء من الدين يجب علينا حفظه، وهو أمانة في أعناق العلماء، فيجب حينئذ لمصلحة الدين وحفظه، ولأجل المصلحة العامَّة للمسلمين، أن نتحرَّى الحقيقة، ونوازن بين أقوال أئمّة الجرح والتعديل، ونأخذ بالراجح من الجرح أو التعديل كلُّ ذلك لأجل هذه المصلحة، لا من أجل وجوب الموازنة لذات ذلك الرجل المجروح، فإذا ثبت جرحه بعد الدراسة جاز حكاية جرحه دون موازنة، ولا يقول عالم بوجوبها.

وأمَّا المبتدع: فإذا كنّا في مقام التحذير من البدع، حذّرنا منه، ذاكرين بدعته فقط، ولا يجب علينا ذكر شيء من محاسنه، وإذا كنّا في باب الرواية فيجب ذكر عدالته وصدقه إذا كان عدلاً صادقًا، لأجل مصلحة الرواية وتحصيلها، والحفاظ عليها لا من أجل شيء آخر، كوجوب ذكر جوده، وعلمه، وشجاعته، وجهاده، وأخلاقه، وغير ذلك مِمّا لا علاقة له بالرواية.

ولقد كان من السلف مَن يجانب الرواية عن أهل البدع وعن أهل التهم، قال ابن عباس B<إنَّا كنَّا مرَّة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله r، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه آذاننا، فلمَّا ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف>.

وقال ابن سيرين: <لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فيُنظَر إلى أهل السنّة، فيؤخذ حديثهم، ويُنظَر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم>.

وكلام ابن عباس وابن سيرين يحتمل أنّ هذا كان مذهبًا عامًّا للسلف في عهد بقية الصحابة ومَن بعدهم من التابعين.

ولعلّ هذا كان منهم بسبب إدراكهم بأنّهم في غُنْيَةٍ عن الرواية عن المبتدعين، فوقفوا منهم هذا الموقف الحازم الحاسم، فلمّا اضطرّ من بعدهم إلى الرواية عن الصادقين من أهل البدع، أخذوها عنهم بشروط وتحفّظات، تضمن أخذ السوي منها، وردِّ معوجّها ومدسوسها.

قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ـ رحمه الله ـ: <ومنهم زائغ عن الحقّ صادق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، إذ كان مخذولاً في بدعته، مأمونًا في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلاّ أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرَف إذا لم يُقوِّ به بدعته>. انتهى

وبعد ذلك، اعلم ـ أخي القارئ ـ بأنّ الزيد ومَن وافقه ـ هدانا الله وإيَّاهم ـ قد استدلّوا ببعض الأحاديث، وببعض الآثار السلفية على صحّة دعواهم، من أنّ العدل يقتضي ذكر الحسنات والسيّئات، وسأذكر بعضًا من أدلّتهم، مع ذكر وجه الاستدلال الذي ذكروه، ومن ثَمَّ مناقشتهم فيما استدلّوا به، معرضًا عن بعض أدلّتهم الأخرى، لأنِّي قد اعتبرت ما ناقشتهم فيه أصلاً ومثالاً يُحتذَى به، في سائر ما تركت من أدلّتهم، وذلك خشية الإطالة، فإنّ الطريق ما زال طويلاً وعرًا، فالصبر الصبر.

قال الزيد: <ولقد علّمَنا القرآن الكريم، والسنّة النبوية هذا المنهج، ومن ذلك: قوله تعالى: }وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْك إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا{ [آل عمران، آية: 75].

فالذمُّ هنا مقرون، بل مسبوق بالمدح، وبيان حقيقة بعض أهل الكتاب واعتراف بوفاء بعضهم بالأمانة>. اﻫ

فالجواب عن وجه الاستدلال هنا، هو أن يقال:

على فرض التسليم لك بأنّ هذه الآية قد دلّت على ضرورة ذكر الحسنة والسيّئة معًا، فما قولك في قوله تعالى: }لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ{ [المائدة، آية: 78]. إذ لعنهم الله، وحكم بكفرهم، ولم يذكر لهم حسنة، فهل هذا عدل أو جور ؟!!

كيف وما ذكرته ـ يا زيد ـ هنا لا يدلّ على ما تريد، بل يدلّ على ضدّ ما أردت، فاستمع إلى بيان ذلك:

إنّ قوله تعالى: }وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ{، أي: بعض أهل الكتاب، وقوله تعالى: }وَمِنْهُمْ{، أي: بعضهم الآخر.

وإذا كان ذلك كذلك، فإنّ الله حينما ذكر البعض ـ أو الصنف الأول ـ ذكر حسنتهم، ولم يذكر سيّئة لهم، وحينما ذكر البعض الآخر ـ أو الصنف الثاني ـ ذكر سيّئتهم، ولم يذكر حسنةً واحدةً لهم.

فكيف حَمَّلْتَ كتاب الله ما لم يحتمل ؟ وقوَّلته ما لم يقل به ؟ أليس في ذلك ترك للكتاب نفسه، وترك لفهم السلف الصالح ؟إذ لو كنت تعتمد فهم السلف الصالح مطلقًا، لَمَا وقعت في هذا الخطأ، وسيأتي مثله بعد قليل.

قال الصويان: <وقال الله تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِماَ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا{ [البقرة، آية: 219].

فالله سبحانه وتعالى أثبت النفع في الخمر والميسر، ولكنَّه حرَّمهما لغلبة المفاسد على المحاسن>. اﻫ

فالجواب هو قولي:

أوّلاً: سبحان الله !

وثانيًا: مَن ذا الذي نازعك في أنّ في الخمر نفعًا وضرًّا، خيرًا وشرًّا، بل مَن نازعك في أنّه لا يوجد في الدنيا شيء إلاّ وفيه خير وشرّ، فإنّ الخير المحض لا يكون إلاّ في الجنّة، والشرّ المحض لا يكون إلاّ في النار، وأمّا دار الابتلاء ففيها الخير والشرّ ممتزجان، والحكم للغالب منهما.

ولكن أُخَيَّ: إنّما نازعتك في أنّ الخير الذي عند الجماعات الإسلامية ـ لا سيما ما كان في مناهجها أو عقائدها أو مؤلَّفاتها ـ أهو خير اختصَّت به دون منهج السلف الصالح، وأئمَّة الدعوة السلفية، القدامى منهم والمحدثين ؟ أم هو موروث عنهم ؟

فإن قلت بالأوّل، فتلك ضلالة وبدعة، إذ لو كان خيرًا، لكان السلف أسبق الناس إليه.

وإن قلت بالثانية ـ وهذا أملي فيك ـ فلا حاجة بنا إلى خير امتزج بشرٍّ كثير، فعندنا منهج مستقيم، وأئمّة مهتدون، وكتب صحيحة سليمة مصفاة، فلماذا لا ننهل من العذب الصافي، ونترك الكدر ؟!!

وهنا نقطة لابدّ من توضيحها، لأنّ أصحاب الإجمال والتلميع والتصنيع يسلكون فيها مسالك ملتوية، قد لا يفهمها كثير من الشباب؛ فوجب النصح لهم:

قال الزيد([5])<وأنّ مَن يعيب جماعة من الجماعات الإسلامية لخطأ بعض أفرادها، فمثله كمثل مَن يعيب الإسلام بخطأ بعض المسلمين...>. اﻫ

قلت: سبحان الله ! أرأيت ـ يا أخي ـ كيف ساوى بين مناهج الجماعات الإسلامية، والإسلام، إنّ هذا لشيء عجيب حقًّا !!

يريد الزيد أن يقول: <هناك فرق بين المنهج، والقائم على المنهج، كما أنّ هناك فرقًا بين الإسلام والمسلم، فخطأ المسلم لا يدلّ على فساد الإسلام كمنهج ربّاني، فكذا خطأ التبليغي ـ مثلاً ـ لا يدلّ على فساد المنهج التبليغي، وخطأ الفرد الإخواني لا يدلّ بالضرورة على فساد المنهج الإخواني، وخطأ الفرد الأشعري لا يدلّ بالضرورة على فساد المنهج الأشعري، وخطأ المعتزلي لا يدلّ على فساد المنهج المعتزلي... الخ>.

فهل يقول بذلك مَن يعلم حال الجماعات والفرق الإسلامية ؟!

فإن كان لا يعلم فتلك مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم.

اعلم ـ أُخَيَّ ـ بأنّ المنهج السلفي حقّ محض لا باطل فيه، إذ هو الإسلام، والشخص السلفي أو المسلم قد يحسن وقد يسيء، فإذا أحسن ولم يقع منه خلل ولا زلل، فحسنه واستقامته إنّما هي مستمدّة من منهجه السلفي، الذي هو الإسلام، بخلاف المناهج البدعية الأخرى، فإنَّها منحرفة، فيها حقّ، وفيها باطل، فإذا أخذ شخص من تلك المناهج أو أحدها، فإنّه بلا شكّ سينحرف بقدر ما في ذلك من انحراف؛ لأنّ تلك المناهج منحرفة من أصلها، و<فاقد الشيء لا يعطيه>، كما أنّهم لا ينازعون في فساد المنهج الأشعري، والجهمي، والمعتزلي ـ أيضًا إن شاء الله ـ لا ينازعون في أنّ مَن سلك أي منهج منها فإنّه سيضلّ بقدر سلوكه على ذلك المنهج؛ فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا يجرون ذلك على مناهج الجماعات الإسلامية ؟ هل لأنّها تَسَمَّتْ بالجماعات الإسلامية دون الفرق؟ أو لأنَّها قالت: نحن جماعات إسلامية ؟! فتلك فِرَق إسلامية ـ أيضًا ـ أو أنَّهم يقولون: إنَّها متَّفقة من حيث المنهج العام، كما هو حال الأئمَّة الأربعة، مختلفون في الفروع فقط ؟

فأقول لهم: ما قولكم ـ أيُّها الإخوة ـ في منهج جماعة كجماعة الإخوان المسلمين، والتي تضمّ تحت كنفها الفرق الإسلامية كلّها، فتجد فيهم الجهمي، والمعتزلي، والأشعري، والماتريدي، والصوفي، والقبوري، والرافضي... الخ ؟

أو ما قولكم في منهج جماعة كجماعة التبليغ، والتي تقول عن نفسها: نحن نبايع على أربع طرق صوفية، الجشتية، والنقشبندية، والقادرية، والسهروردية ؟

فإن كنتم لا تعلمون ذلك، فلستم بأهل لقيادة الأمّة إلى عليائها ورفعتها، لأنّ <فاقد الشيء لا يعطيه>، لا سيّما مع دعواكم العريضة بأنّكم فقهاء الواقع !!

وإن كنتم تعلمون ذلك، فتلك خيانة عظمى، وغِشٌّ كبير، لا يجوز لكم كتمه عن شباب الأمّة خاصّة، وعن الناس عامّة.

لكنَّكم ـ يا إخوتاه ـ إنَّما تدعون في الحقيقة شباب هذا البلد الطيب ـ ومَن كان على شاكلته في البلدان الأخرى ـ فتنقلونهم عمّا هم عليه، وفيه من المنهج السليم القويم، إلى مناهج وطرق تلك الجماعات المنحرفة، التي فشلت في إصلاح نفسها، وإصلاح مجتمعاتها التي انطلقت منها، فهلاَّ سعيتم يا إخوتاه في نقل أصحاب تلك الجماعات إلى المنهج السلفي، بدلاً من العكس ؟

سبحان الله ! ما أشبه هذا الفعل بعملية التقريب بين السنّة والشيعة، والتي تولَّى كِبْرَها جماعة <الإخوان المسلمون> !!

وبعد هذا التطواف الطويل الممتع، أعود وإيَّاك ـ أخي الكريم ـ إلى مناقشة ما ذكره الصويان. فأقول: ـ وبالله التوفيق ـ:

إنَّه حينما ذكر تلك الآية الكريمة، إنَّما أراد منها أن يقول: إذا أثبت الله النفع في الخمر والميسر مع وجود الضرِّ، فالدعاة والجماعات الإسلامية أطيب وأشرف من الخمر، فلماذا لا يثبت لهم الخير والشرّ ؟!

قلت: أنا أوافقك ـ أُخَيَّ ـ على أنّ الجماعات الإسلامية فيها خير وفيها شرّ، وأنت قد قست الجماعات الإسلامية ودعاتها على الخمر، وأنت تعلم أنَّ الفرع يأخذ حكم الأصل إذا اتَّحدا في العلة، وقد اتَّحدا هنا، فحكم الخمر التحريم، فكذا حكم الانتماء إلى الجماعات الإسلامية واتباع دعاتها التحريم؛ لأنّ هذا هو ما يؤدِّي إليه القياس.

فإن أبيت إلاّ التمادي، فسأقول لك: ألم تعلم بأنّ هذه الآية التي استدللت بها منسوخة ؟ فكيف تستدلّ بآية منسوخة الحكم، على إثباته بالآية الأخرى، وهي قوله تعالى: }إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ{ ؟ [المائدة، آية: 90].

فإذا كان الخمر رجسًا، وحكمه وجوب اجتنابه، فقياسك الجماعات ودعاتها عليه يقتضي أن تأخذ حكم الخمر الذي هو وجوب الاجتناب، فإذن وجب اجتناب تلك الجماعات ودعاتها كاجتناب الخمر، وهذا هو موقف السلف من المبتدعة.

وأظنّ أنّ هذه المناقشة كافية لِمَن ألقى السمع وهو شهيد، وإلاّ ففيه إلزامات أخرى تركتها خشية الإطالة.

قال الزيد: <إنّ النبي r قال لأبي هريرة t في حديث فضل آية الكرسي، في شأن الشيطان الذي جاءه يحثو من الصدقة، ويمسكه أبو هريرة ثمّ يطلقه، وفي الثالثة أطلقه بعد أن علّمه فضل آية الكرسي، قال الرسول t عنه: <أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ>. اﻫ

فقد ذكر الرسول r الحسنات ـ هكذا يا زيد !! ـ وأثبت له الصدق، وإن كانت صفة الكذب ملازمة له، ولم يمنعه r كثرة كذب الشيطان من ذكر صدقه في هذه المرَّة>.

قال الصويان: <فالنبي r أثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، فلم يمنع ذلك من تقبُّل الخير الذي دلّ عليه>. اﻫ

إخوتاه: أسألكم بالله مَن مِن الناس نازعكم في أنّ الكذّاب قد يصدق، كما صدق إبليس ؟

ومَن مِن الناس نازعكم في أنّ الجماعات الإسلامية فيها خير وفيها شرّ ؟

أم أنَّكم تريدون منَّا ومن الشباب العائد إلى الله أن يجثو على رُكَبِه بين يدي الكذَّابين، والشياطين، والدجَّالين، والمبتدعين، والضالِّين المضلِّين، لينهل من علمهم الكدر النكد ؟!

علمًا بأنّ رواية الشياطين والكفار والكذابين لا تُقبَل! فكيف تطالبوننا بأخذ الدين عنهم ؟!! بل كيف للغرّ أن يميِّز بين الحقّ والباطل، وبين الصحيح والسقيم ؟!! إنّ هذا لشيء عجاب.

وهل خلت الأرض من الصالحين والمصلحين، الثقات الأثبات، أهل السنّة والجماعة، أتباع السلف الصالح، حتى يطلب العلم عند المبتدعة، والمخرفين، والمنحرفين ؟!!! <سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك>.

يا إخوتاه: نحن في بلد طيّب، رايته سلفية، وعلماؤه سلفيون، أمثال الشيخ العامل العالم: عبد العزيز بن باز، والشيخ: محمّد بن عثيمين، والشيخ ابن غديان، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ: ابن غصون، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وغيرهم كثير من داخل البلاد وخارجها، أمدّ الله في أعمارهم، وبارك في أعمالهم، وجعلهم ذخرًا للعباد والبلاد، اللهمَّ آمين.

فلماذا يا إخوتاه نلتفت إلى النطيحة والمتردية، وما أكل السبع ؟!!

ولكن لحاجة في نفوس هؤلاء، والله المستعان على ما يصفون.

وبعد هذا، فلنعد ـ أخي الكريم ـ إلى ما كتبه الزيد والصويان لننظر معك فيما قالاه، أهو صواب أم خطأ ؟

قال الزيد: <فقد ذكر الرسول r الحسنات، وأثبت له الصدق، وإن كانت صفة الكذب ملازمة له...>. اﻫ

فقوله: <الحسنات>، خطأ، لأنّه لم يذكر له إلاّ حسنة واحدة، وهو صدقه في هذه المرّة.

وأمّا الصويان، فقد قال: <فالنبيُّ r أثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، فلم يمنع ذلك من تقبّل الخير الذي دلّ عليه>. اﻫ

فقوله: <أثبت الصدق للشيطان>، فهل <أل> التي في <الصدق>، لاستغراق الجنس، أو ماذا ؟

وقوله: <فلم يمنع ذلك من تقبُّل الخير الذي دلّ عليه>.

فأقول: أرأيت يا أخي لو أنّ أبا هريرة t لم يلق النبي r حتى قبض، فهل سيروي أبو هريرة تلك الحادثة على أنّها شرع يتقرب به إلى الله، ونتقرّب به إليه أو لا ؟!! لا شكّ أنّ الجواب هو الأخير، علمًا بأنّ أبا هريرة t لم يعلم بأنّه شيطان، إلاّ بعد إخبار الرسول r.

فإذا كان ذلك كذلك، امتنع قبول ذلك الخير المزعوم، لأنّه ليس بخير والحال هذه.

إذن، فمتى كان ذلك خيرًا ؟ كان ذلك خيرًا بعد قول الرسول r<صدقك وهو كذوب>، بل في قوله r<وهو كذوب> التحذير من قبول قوله.

وكما قلت لك، قد يصدق الكاذب والكافر، والدجال والمشعوذ، فهل إذا أخبرنا أحد من هؤلاء نقبل خبره ؟ أو أنّنا نتثبّت، ونمحّص، وندقّق تلك الأقوال المنقولة، وذلك بعرضها على الشرع، فإن خالَفَتْه رمينا بها ولا كرامة، وإن وافقَتْه، عملنا بها، لأنَّها من الشرع، لا على أنّ هؤلاء هم الذين أنشأوا ذلك وأتوا به من عند أنفسهم ؟

فتنبه لهذه النكتة، تسلم ـ بإذن الله ـ من كثير من الخلط والتلبيس.

إذن، فمعنى قول رسول الله r<صدقك>: أي وافق الحقّ، لا أنّه أنشأه.

يوضّح ذلك قول الرسول r عن الكاهن الذي يسترق السمع من السماء، قال: <تلك الكلمة الحقّ، يخطفها فيقذفها في أذن وليِّه، ويزيد فيها مئة كذبة> [مسلم 4/1750].

فهذا الكاهن أو الساحر قال تلك الكلمة الحقّ، فصدق في مقولته تلك، لأنّه موافق للحقّ، لا أنّه أنشأه.

كما لو قال لك رجل مشهور بالكذب: هذا الحديث رواه البخاري، فقلت له: أخرجه لي من صحيح البخاري، فقال لك: انظر هنا، فوجدته كما أخبرك، فإنّه في هذه الحال يكون صدقك وهو كذوب.

وإنِّي هنا ـ أُخَيَّ ـ بصدد مناقشة طويلة لهذا المبدأ؛ لأنِّي كما أخبرتك أنّ غايتهم من هذا المبدأ هو صهر الجماعات الإسلامية في بوتقة ما أَسْمَوه ﺑ <جماعة أهل السنّة والجماعة>، لإقامة الخلافة الراشدة ـ بزعمهم ـ واستئناف الحياة الإسلامية.

إنّ الوصول إلى هذا الهدف لا يمكن تحقيقه على يد جماعة واحدة، بل لابدّ من تجميع تلك الجماعات تحت راية واحدة، ومن خلالها تُوحَّد الصفوف والقُوى، وتُوجَّه إلى الهدف المنشود تحقيقه.

وهذا الأمر بالطبع لن يتمّ لهم بهذه السهولة، ولهذا قاموا بإبراز هذا المبدأ، <مبدأ العدل والإنصاف>، وعرضوه عرضًا مجملاً غير مفصّل، لأنّ بالإجمال يحصل التجميع ـ أي بين المحقّ والمبطل ـ وبالتفصيل يحصل التفريق ـ أي الفرقان بين الحقّ والباطل ـ.

ولهذا سَطَوْا على ما كان من باب الضرورة عند السلف، ألا وهو الجمع بين الجرح والتعديل في الرجل المختلَف فيه، والمبتدع، فعمّموه وجعلوه هو الأصل، وما كان هو الأصل عند السلف جعلوه بمثابة الضرورة، بل قالوا: ليس هذا من منهجهم.

فسبحان الله !ما أعظم جهلهم بمنهج السلف، وفِرْيَتِهم عليه في الوقت نفسه !!!

ولهذا قالوا: العدل: يقتضي أن تذكر الحسنات مع السيّئات.

فمَن لم يفعل فما عدل وأنصف، بل جار وخان !

والغريب أنّ هؤلاء قد اعتمدوا في تقرير مذهب السلف ـ بزعمهم ـ على <سير أعلام النبلاء> للذهبي، مستخلصين منه مبدأ الموازنات، مع العلم بأنّ <سير أعلام النبلاء> هو أشبه بكتب التاريخ، فهو أشبه بكتاب <البداية والنهاية> لابن كثير ـ رحمهما الله تعالى ـ غافلين أو متغافلين عن كتب الذهبي التي سارت على منهج المحدّثين، في عدم الموازنة بين الحسنات والسيّئات، ﻛ <ميزان الاعتدال>، و<المغني>، و<الكاشف>، ونحوها.

وعلى فرض التسليم الجدلي لهم بصحّة ما ذهبوا إليه، فإنّي أطالبهم بأن يذكروا لنا حسنات وسيّئات الجماعات الإسلامية، والكتب الفكرية، والأشرطة الإسلامية، والأعمال الدعوية الجماعية، والفردية، وكذا حسنات وسيّئات الدعاة إلى الله تعالى مفصّلة، لنكون على بصيرة، فنعرف ما نأخذ، ونعرف ما نذر.

والدليل ـ أيضًا ـ على ما أقول هو:

أنّه لا وجود للتفصيل عندهم، لا في كتبهم، ولا في رسائلهم، بل ولا في أشرطتهم، ولا في الأجوبة الصادرة عنهم، على بعض الأسئلة الموجّهة إليهم، بل نراهم يصرّحون بالضدّ.

وهنا ـ أخي الكريم ـ سأنقل لك كثيرًا من أقوالهم في الثناء على الجماعات الإسلامية المختلفة، وعلى قادتها، ومؤسِّسيها، وسأنقل ـ أيضًا ـ عنهم أنّهم يرون أنّ الخلاف بين الجماعات الإسلامية إنّما هو من باب خلاف التنوع لا خلاف التضاد.

وسأنقل ـ أيضًا، إن شاء الله ـ عنهم دعوة الجماعات الإسلامية إلى الانضمام إلى جماعتهم <جماعة الأمّ>، جماعة <أهل السنّة والجماعة>، أي: <القطبية>.. وإليك ذلك مفصّلاً:


فصل
في أقوال القطبية في الثناء على الجماعات الإسلامية المختلفة
ودعوة تلك الجماعات للانضمام إلى جماعتهم

قال المصري في <معالم الانطلاقة الكبرى> (ص 6): <.. إلى جميع المسلمين المخلصين.. أفردًا وجماعات، الذين يتطلّعون إلى ميلاد فجر صادق، وبدء مرحلة جديدة، وانطلاقة حقيقية تجاه الهدف الإسلامي المنشود، إلى جميع المسلمين الواعين.. أفرادًا.. وجماعات الذين يدركون أنّ إحياء الأمّة الإسلامية من سُباتِها العميق، والدفع بها إلى مكانها الطبيعي لتقود نفسها أوّلاً، وتقود البشرية جمعاء مرّة أخرى ـ بأمر الله ـ لن يتحقّق من خلال جهود أفراد مهما كثروا، أو تجمّعات صغيرة، أو كبيرة، مهما تعدّدت، طالما أنّ كلاًّ منها تغلق بابها، وتحيط نفسها بسياج من الأوهام، يمنعها من التعاون، والتشاور، وتبادل النصيحة مع الآخرين، وتحذر نفسها بدعوى مظنونة: أنّها هي وحدها على الحقّ، وهي وحدها الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وما عداها باطل، وأنّ نصر الله لها وحدها آت... إلى جميع المسلمين من أهل السنّة والجماعة.. أفرادًا.. وجماعات...>. اﻫ

وقال ـ أيضًا ـ في ص (187): <إنّ هذا يقودنا إلى موقف بعض الجماعات الإسلامية المنتشرة في البلاد، التي تنتسب إلى السنّة، ويدين أكثر أهلها على الجملة بعقائد أهل السنّة ـ وهي غالب الدول المنتشرة على طول العالم الإسلامي باستثناء إيران ـ. إنّ موقف هذه الجماعات لعجيب حقًّا، سواءً منها الجماعات التقليدية في الساحة، أو التجمعات الأخرى التي تنتشر في ميدان العمل الإسلامي. فالناظر في شعارات بعض هذه الجماعات تصدمه حقيقة أولية، وهي: عدم وجود أيَّة فوارق حقيقية بين شعارات بعض هذه الجماعات، تبرّر أن تهاجم كلّ منها الأخرى، وتُسفِّه أفكارها>. اﻫ

وقال ـ أيضًا ـ في ص (188 ـ 189): <فلماذا لا يترك كلٌّمنهم الآخر يسير في طريقه ويقف منه موقفًا محايدًا ـ على أقل تقدير ـ بدلاً من أن يهاجم، ويفاصل، ويتَّهم ـ دون دليل من شرع أو أثارة من علم أو عقل، وما الضرر على دين كلٍّ منهم إذا تعاون مع أخيه ـ كلٌّ بجماعته ـ فيما يستطيعون فيه أن يتعاونوا، مع استقلال كلٍّ منهم بأسلوبه، وأدواته، وجماعته ؟

إنّنا لا ننكر أنّ كلَّ جماعة ـ أو تجمّع ـ في الساحة الإسلامية لها اجتهادها الخاصّ في تقدير الواقع المحيط على الجملة، وفي تقدير الطرق والأساليب التي يمكن أن يبدأ منها الحلّ الإسلامي لمشكلات هذا الواقع، ـ وأيضًا ـ لا ننكر أنّ الاختلاف في هذه الاجتهادات الخاصّة لكلّ جماعة، تصبغ حركة الجماعة بصبغة حركية خاصّة ـ وليست فكرية أو سلوكية ـ بمعنى: أنّ الكلّ قد يكون متفقًا على الالتزام بفكر وسلوك <أهل السنّة والجماعة> ابتداءً، وأمام الاختلاف في تقدير مشكلات الواقع، وتقدير طريق المواجهة، يبدأ الاختلاف في أسلوب العمل:

فهذه الجماعة تركز على جانب العقائد، ونشرها بين المسلمين.

وهذه تركز على جانب التربية والإعداد.

وهذه تركز على العمل السياسي، ونشر الوعي الحركي.



([1]) عرَّف كثير مِمَّن كتب من هؤلاء عن العدل بنحو ما عرَّفه به الزيد. انظر مثلاً: <منهج أهل السنَّة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلَّفاتهم> للصويان ص (27)، و<منهج أهل السنّة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين> للصيني ص (27)، و<قواعد الاعتدال> للمقطري ص (33).

([2]) رواه مسلم (1/403).

([3]) صحيح سنن أبي داود (2/446).

([4]) صحيح مسلم (1/50).

([5]) وكذا قال عايض القرني في شريطه: <فِرَّ من الحزبية فرارك من الأسد>، حيث قال: <ومَن أوجب على أحد من الناس من العباد أن يكون إخوانيًّا أو سلفيًّا ـ انظر ـ أو تبليغيًّا أو سروريًّا يوجبه وجوبًا فإنَّه يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل... هذه الجماعات فيها خير ونصر بها الحقّ، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: الحقّ في هذه الجماعة كلّ الحقّ، وغيرها باطلة... الخ>. اﻫ)))))))))))))))))))))))))))))))))))وهذه تركز على الدعوة للسنّة، ومحاربة البدع، في السلوك والآداب.

وهذه تركز على نشر المفاهيم الإسلامية بين عامّة الناس، ودعوتهم للالتزام بتعاليم الدين.

وهذه تركز على جانب الإعداد العسكري والمواجهة مع الباطل..

إلى آخر هذه الاجتهادات التي ترى أنّ الساحة الإسلامية في حاجة لها جميعًا، بل إنّها تكمّل بعضها بعضًا، وتصبُّ في النهاية في مصبٍّ واحد، وهو إيقاظ الأمَّة المسلمة من سباتها العميق، وتحريك هذا الجسد النائم، ليفيق من غفوته، ويفرز قيادته الحقيقية، التي تقوده نحو ممارسة دوره المطلوب منه في هذه الحياة الدنيا بأمر الله>. اﻫ

وقال ـ أيضًا ـ في ص (190 ـ 191): <إنّ المرء قد يتساءل أمام هذه الحقائق إذا كان الأمر كذلك، فما هو المبرِّر الحقيقي لوجود مخاصمة بين كثير من هذه الجماعات، التي ترفع كلّها شعار <السنّة والجماعة> ؟...

إنّ الفكرة السائدة بين كثير من هذه الجماعات: وهي اعتقاد كلّ منها أنّها هي وحدها <جماعة أهل السنّة..>اﻫ

وقال ـ أيضًا ـ في ص (193): <إنّ العمل للإسلام من خلال هذه الجماعات أمر لا غبار عليه، لا شرعًا، ولا عقلاً...>. اﻫ

قلت: سبحان الله !! ما هذه التمويهات يا مصري حين جعلت الخلاف بين الجماعات الإسلامية خلاف تنوُّع لا خلاف تضادّ ؟! بل ليس بينهم اختلاف، إنّما الواقع بينهم إنّما هو اجتهاد !!

فإن كنت تعلم حال الجماعات الإسلامية وحال مؤسِّسيها، فقد خنت الله ورسوله والمؤمنين عامّة، والعلماء وطلبة العلم خاصّة، بترويجك لتلك الأفكار==================عدم الإنكار !! وإن كنت لا تعلم، فاعلم بأنّ جماعة التبليغ أسّسها أميرهم محمّد إلياس بن محمّد إسماعيل الحنفي، الديوبندي، الجشتي، الكاندهلوي، المولود سنة (1303ﻫ)، والمتوفى سنة (1363ﻫ)، ثمّ جاء من بعده ابنه محمّد يوسف بن محمّد إلياس، ثمّ جاء من بعده محمّد إنعام الحسن.

وهذه الجماعة قائمة على أصول ستّة، كما ذكرت لك من قبل ص (11)، ولهم كتب معتمدة عندهم، منها: كتاب <تبليغي نصاب> <فضائل الأعمال>، لمحمّد زكريا الكاندهلوي، المجاز إجازة عامّة من قِبل شيخه المرشد <خليل أحمد السهارنفوري>، بالمبايعة، والإرشاد، على أربع طرق صوفية، وهي: الجشتية، والنقشبندية، والسهروردية، والقادرية.

والكتاب السابق ذكره، قد ملأه مؤلفه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وحكايات ومنامات الصوفية، وإجلال مشائخها كابن عربي القائل بوحدة الوجود، وسأجعل في آخر البحث([1]) صورًا من هذا الكتاب باللغة الأُرْدِيَّة، وبجوارها ترجمتها باللغة العربية ليتَّضح للقارئ الكريم مدى ما فيه من الضلال، والله المستعان.

والكتاب الثاني <حياة الصحابة>، لمحمّد يوسف الكاندهلوي، وهو كسابقه. وإن كنت في شكّ ممّا قلت لك ـ أخي الكريم ـ فعليك بقراءة الكتابين السابقين، و<سوانح محمّد يوسف> لمحمّد ثاني حسني، و<وقفات مع جماعة التبليغ> للجربوع، و<جماعة التبليغ: مفاهيم يجب أن تصحَّح> لحسن جناحي، و<جماعة التبليغ> لمحمّد أسلم، و<السراج المنير> لمحمّد تقي الدين الهلالي، و<نظرة عابرة اعتبارية حول الجماعة التبليغية>، لسيف الرحمن الدهلوي، و<القول البليغ في التحذير جماعة التبليغ> للشيخ حمود التويجري رحمه الله، و<حقيقة الدعوة إلى الله> للشيخ سعد الحصيّن.



([1]) انظر ملحق الوثائق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق