الأربعاء، 18 مارس 2015

؟

مناقشة أدلة القطبية
في الإنكار العلني على الولاة

واعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ من وسائل التهييج عندهم: الإنكار العلني على الولاة، والإكثار من غمزهم ولمزهم، ونشر أخطائهم على الملأ والعامّة، ليوغروا بذلك صدور العامّة على الولاة، فيتمنّوا زوالهم إن لم يسعوا في ذلك بأيديهم وأرجلهم.

وقد استدلّ هؤلاء السياسيون ببعض الآثار، زاعمين أنّها تدلّ على ما يريدون من الإنكار العلني على الولاة، وسأبيِّن ـ بعون الله ـ ما وقعوا فيه من التدليس والتلبيس، فأقول:

قال سلمان العودة في شريطه <لماذا نخاف من النقد>: <من ذلك مثلاً: أنّ بعض الناس شكَّكوا في قسمة النبي r للمال ـ وهذا موجود في كلِّ زمان ـ، وأنَّها قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي r: <رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ>.

والثابت في الصحيح أنّ النبي r لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة وشكّك في القيادة العليا ـ قيادة النبي r ـ لم يأمر بالقبض عليه قطّ، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضرة للتحقيق معه، ولا حكم بسجن مؤبّد، ولا بغير مؤبّد، ولا شهّر به، ولا فضحه أبدًا، وإنّما تركه حرًّا طليقًا لم يتعرّض له بشيء، سوى أنَّه r قال: <رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ>، وهو r رسول الله، الصادق المصدوق، المبرء المُنَزَّه.. هذا المنهج التربوي النبوي العظيم ظلّ هو السنّة المتبعة للمسلمين قرونًا طويلة، من بعد النبي r، سواءً كانوا من الخلفاء والحكام، أو من العلماء والدعاة، أو من عامَّة الناس..>. اﻫ

ولي مع هذا الكلام وقفات:

الوقفة الأولى: يا سلمان: هل تقول إنَّ فعل الرجل وقوله كان جائزًا، أم لا ؟ فإن كان الجواب ﺑ «لا» ـ وهذا ظنِّي فيك ـ إذًا فلا حجّة لك فيه.

وإن قلت بالثانية فتلك مصيبة !!!

الوقفة الثانية: يقول العلماء: إنّ ذلك الرجل كان هو البذرة الأولى للخوارج، فهل تسوغ لك نفسك بأن يكون قائدك البذرة الأولى للخوارج ؟!!

الوقفة الثالثة: سلَّمت لك جدلاً أنّ هذا الحديث يدلّ على جواز الإنكار العلني على الولاة، لأنَّه إذا جاز ذلك في حقّ النبي r فما عداه من باب أولى.

لكن، الرجل هنا جاء إلى الرسول r وجهًا لوجه، ومن ثَمّ أنكر على المصطفى r، فأين هذا مِمّا تفعلون من الذهاب إلى المساجد، سواءً في خطب الجمع، أو إلقاء المحاضرات العامَّة في المناطق البعيدة، ومن ثَمّ طرح وإلقاء ما ترونه من المنكر الذي وقع فيه الولاة على مسامع الناس، لا على مسامع الولاة.

فأنتم في هذه الحال لم تنكروا على الولاة، بل ذكرتم ما عندهم للعامَّة، وفرق كبير بين الإنكار عليهم، وبين ذكر ما عندهم للغير.

فإن أردتم النصح لهم فاذهبوا إليهم مباشرة، أو بواسطة، ومن ثَمّ أسمعوهم ما تريدون، ونحن لا نخالفكم ـ والحال هذه ـ من النصح لهم.

لكن قد يقول ملقَّن ـ يهرف بما لا يعرف ـ: إنّ الكلام في المحاضرات العامَّة وخطب الجُمَع، والأشرطة المسجلة تبلغ هؤلاء، بل إنَّ كشف أخطائهم عند العامَّة يردعهم عن التمادي في باطلهم.

فأقول له: هل أنت مصلح تريد الإصلاح، أو لا ؟ فإن كنت مصلحًا فاسلك طريق الشرع، لأنَّه سبيل المصلحين، والشرع قد ورد فيه قول الرسول الكريم r: <سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ>.

وإن كنت مفسدًا، فلا كلام لي مع المفسدين.

وأزيدك شيئًا آخر لم تفطن له، وهو: ما يدريك من أنَّ نصحك الذي نصحت به في شريطك، أو محاضرتك، أو خطبتك، قد وصلت للولاة على وجهها الصحيح من غير تحريف فيها ولا تبديل، لا سيما وأنتم لكم أعداء يتربّصون بكم الدوائر ـ كما تزعمون ـ كالعلمانيين، والقوميين، والنفعيين، وغيرهم ؟!!

فلماذا لا تكون فطنًا نبيهًا مفوتًا على أولئك خططهم، لا سيما وأنت الفقيه بالواقع، العالم بسبل المجرمين وخططهم وأهدافهم ؟!!

إذا فهمت ذاك الجواب، فهمت الجواب عن كلّ ما استدلّوا به من الآثار الدالة على جواز الإنكار العلني على الولاة، كالذي ذكره سلمان في كتابه <من وسائل دفع الغربة> ص (149 ـ 151): <ومن ذلك أنّ مروان بن الحكم لَمّا أخرج المنبر يوم العيد، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، مخالفًا بذلك سنّة النبي r، قام إليه رجل، وقال له بصريح العبارة: يا مروان: خالفت السنّة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فأيّده على هذا الإنكار أبو سعيد الخدري t وقال: <أمَّا هذا فقد قضى ما عليه> أي: أنَّه قام بالواجب الذي يقتضيه حديث: <مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا...>.

وكان لأبي سعيد نفسه t موقف أقوى من موقف هذا الرجل، ولعلّه كان قبل هذه الحادثة.

فعن أبي سعيد الخدري t قال: كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثمّ ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا، قطعه، أو يأمر بشيء، أمر به، ثمّ ينصرف.

قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك، حتى خرجتُ مع مروان ـ وهو أمير المدينة ـ في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى، إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبت بثوبه، فجذني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيّرتم والله. فقال: أبا سعيد ! قد ذهب ما تعلم فقلت: ما أعلم ـ والله ـ خيرٌ مِمّا لا أعلم، فقال: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلناها قبل الصلاة>. اﻫ

اعلم ـ أخي الكريم ـ بأنَّ الاحتساب على الولاة كغيرهم من المسلمين، يسلك في ذلك الشرع بلا إفراط ولا تفريط، فمَن رأى من أميره منكرًا فليأمره بالمعروف الذي تركه، وينهاه عن المنكر الذي فعله، ولو كان بحضرة الأمير بعض الناس، كما في الآثار السابقة ـ إذا كان يحقّق مصلحة راجحة ـ.

أمّا أن تكون في مكان، والوالي في مكان آخر، لا يسمعك ولا يراك، أو قد يسمع صوتك المسجل، ولكن بتحريف وتغيير لكلامك، فليس هذا من الإنكار في شيء، بل هو عبث وسفه، لِمَا يترتّب على ذلك من المفاسد الكبيرة الكثيرة.

وعلى فرض التسليم بصحة ما ادَّعوه، فإنّي سأقول لهم: إذا جاز الإنكار على الولاة علنًا، فلأن يجوز الإنكار على أولئك الدعاة من باب أولى.

فإن قال قائل: هذا لا يصح، لأنّ الإنكار على الدعاة علنًا يسبب الفرقة ويعيق الدعوة، ويشتت الكلمة، ويورث الشحناء والبغضاء، ويشكّك فيما يحملون من الحقّ.

فسأقول: إنّ المفاسد المترتبة من الإنكار العلني على الولاة، أعظم وأعظم من المفاسد المترتبة على الإنكار العلني على الدعاة.

بل أقول له: لماذا يغضبون إذا أنكر بعض علمائنا على داعية من الدعاة، أو على جماعة من الجماعات في شريط له، أو كتاب وزع على الشباب والناس، ليحذَروا ما عند ذلك الداعية وتلك الجماعة من خطأ وباطل.

ـ وأيضًا ـ فإنّ العلّة التي أجازت لعلمائنا الإنكار، هي العلّة التي تعلّلون بها الإنكار على الحكام والولاة، وهي قولكم: <إنّ المنكر متفشٍّ منتشر، فلابدّ من إنكاره علنًا>. فلماذا تأخذون بهذا المبدأ حين يكون لكم، وتتركونه إذا كان ضدّكم ؟!!

بل الالتزام بهذا المنهج يسبب الفوضى، لأنّ الموظف سينكر على مديره علنًا، والطالب سينكر على شيخه علنًا، والجندي سينكر على قائده علنًا و... الخ.

الوقفة الرابعة: قوله: <وشكّك في القيادة العليا...>.

اعلم أخي القارئ بأنّ القيادة العليا في الإسلام هي القيادة الشرعية السياسية، ممثَّلة في الحاكم وولي الأمر، وتحت هذه القيادة قيادات أخرى من أولاها: القيادة العلمية الشرعية، ممثلة في أهل العلم ـ كهيئة كبار العلماء عندنا ـ.

وسلمان يقول: إذا جاز التشكيك في القيادة العليا، قيادة النبي r جاز التشكيك فيما دونها من القيادات من باب أولى.

فأقول لسلمان: أرأيت لو أنّك التزمت بذلك المبدأ لفسدت الدنيا، ولفسد الدين، لأنَّ الصوفية سيقومون ويشككون في تلك القيادة العليا وما دونها من القيادات، وكذا الرافضة، وكذا العلمانيون، وكذا كلّ المبطلين، فإذا حصل هذا، أليس هو الفساد والإفساد بعينه ؟!!

بل قد يقول قائل: إذا جاز ذلك، جاز التشكيك فيكم من باب أولى، فإن قبلتم ذلك كان فيه عليكم من المشقة ما الله به عليم، وإن منعتم ذلك، نقضتم أصلكم الذي أصّلتم.

الوقفة الخامسة: قوله: <لم يأمر بالقبض عليه قطّ، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا حكم عليه بسجن مؤبّد، ولا بغير مؤبّد، ولا شهّر به، ولا فضحه أبدًا، وإنّما تركه حرًّا طليقًا لم يتعرّض له بشيء...>.

قلت: عفا الله عنَّا وعنك يا سلمان، ألم تسمع قول النبي r عن هذا الرجل حينما أدبر: <..إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَأُونَ القُرآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ قَتَلْتُهُمْ قَتْلَ عَادٍ> سنن أبي داود (5/122).

وهذا النبي r يقول: <لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ قَتَلْتُهُمْ قَتْلَ عَادٍ>.

فهو عليه الصلاة والسلام يريد قتل ذرّيّة ذلك الرجل وفروعه، أفلا ترى بأنّه عليه الصلاة والسلام لو تمكّن وقدر على قتل الذي هو أساسهم وأصلهم لفعل، لكنَّ منعه من ذلك خشية أن يقول الناس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه.

فهل يصلح بعد ذلك أن تقول: لم يأمر بالقبض عليه..، ولا شهّر به، ولا فضحه.. ؟! بل قد شهّر به، وفضحه، بل شهّر ذريّته ـ أيضًا ـ وفضحهم، بل وأمر بقتلهم، وبيّن أنّهم شرُّ قتلى على وجه الأرض، فماذا بعد هذا من التشهير والفضيحة ؟!!

الوقفة السادسة: لو طبَّق هذا المنهج، لكانت حياتنا أشبه بالحياة الديمقراطية، فتدبّر وتنبّه !!!

ثالثًا: من الإرهاصات الدالة على خروجهم: طعنهم في العلماء والتهوين من شأنهم، ومنزلتهم عند العامّة والخاصّة.

وذلك بوصفهم بأنّهم علماء سلطان، وأنَّهم حاشية حكام، لا أنَّهم ﻛ <سلطان العلماء>: العزّ بن عبد السلام.

يوضّح ما قلت لك ما يأتي:

أ) قول سلمان في شريطه <وقفات مع إمام دار الهجرة>، حيث قال فيه: <... في بلاد العالم الإسلامي اليوم جهات كثيرة جدًّا، لم يبق لها من أمر الدين ـ وقد تكون مسئولة عن الفتيا ـ أحيانًا ـ أو عن الشؤون الدينية ـ لم يبق لها إلاّ أن تعلن عن دخول شهر رمضان أو خروجه>. اﻫ

فمَن هم المعنيون بقول سلمان: <جهات كثيرة...> ؟!

لا أراه يقصد بذلك إلاّ هيئة كبار العلماء في بلد التوحيد، ومَن كان على شاكلتهم من غيرهم في البلاد الأخرى.

وإليك البرهان:

ب) جاء في حوار مجلة: <الإصلاح> الإماراتية مع سلمان العودة، عدد (223)، ص (11)، قوله: <.. الأحداث التي حدثت في الخليج لم تزد على أنّها كشفت النقاب عن علل، وأدواء خفية كان المسلمون يعانون منها، وأكّدت على أنَّهم ليسوا على مستوى مواجهة مثل هذه الأحداث الكبيرة، وكشفت كذلك عن عدم وجود مرجعية علمية صحيحة وموثوقة للمسلمين، بحيث أنَّها تحصر نطاق الخلاف، وتستطيع أن تقدّم لهم حلاًّ جاهزًا صحيحًا، وتحليلاً ناضجًا...>. اﻫ

ج) قال عائض القرني في قصيدته: <دع الحواشي واخرج>، في كتابه <لحن الخلود> ص (46 ـ 47):

يا رياض الخير قد جئت وفي لا تحدثني عن العمران في أنا لا أرغب سكنى القصر ما صل ما شئت وصم فالدين لا أنت قسيس من الرهبان ماتترك الساحة للأوغاد ماأو دعيٍّ فاجر أوقع فيلا تخادعني بزي الشيخ ما أنت تأليفك للأموات ما كلّ يوم تشرح المتن علىوالحواشي السود أشغلت بها لا تقل شيخي كلاما وانتظر والسياسات حمى محذورة

 

جعبتي أبها بلقياك تسامى أرضكم يا صاح والأهل يتامى دام قلبي في حثى الذل مسامايعرف العابد مَن صلى وصاما
أنت من أحمد يكفيك الملاما
بين قزم مقرف يلوي
أنت من أحمد يكفيك الملاما بين قزم مقرف يلوي 
الزماما
أمتي جرحا أبى
أمتي جرحا أبى 
ذاك التآما
دامت الدنيا بلاءً وظلامًا
أنت إلا مدنف حب الكلاما
مذهب التقليد قد زدت قتاما
حينما خفت من الباغي حساما
عمر فتوى مثلكم خمسين عاما
لا تدانيها فتلقيك حطاما

دامت الدنيا بلاءً وظلامًاأنت إلا مدنف حب الكلاما مذهب التقليد قد زدت قتاما حينما خفت من الباغي حساما عمر فتوى مثلكم خمسين عاما لا تدانيها فتلقيك حطاما

د) دعواهم الفجة العريضة أنّ العلماء ـ كهيئة كبار العلماء هنا وإخوانهم من خارج هذه البلاد مِمَّن هم على شاكلتهم وعلى منهجهم ـ لا يفقهون الواقع، والعالم والمفتي الذي لا يفقه الواقع تكون فتواه غير صحيحة، وغير صائبة، بخلاف هؤلاء السياسيين، فإنَّهم أئمَّة فقه الواقع، وأئمَّة الفتوى في آن واحد، فكانوا هم الأولى بالاتباع والتقديم !! ومِمَّن رفع لواء دعوى فقه الواقع: ناصر العمر، في شريطه الذي أصبح فيما بعد كتابًا أسماه ﺑ <فقه الواقع>.

واعلم أُخَيّ ـ هديت للرشد ـ بأنِّي قد أخبرتك بأنّ هذا المبدأ هو الوسيلة الثانية لتحقيق غايتهم، وأخبرتك ـ أيضًا ـ بأنَّهم رفعوا هذا المبدأ ليرفعوا من شأن دعاتهم ـ أصحاب المجلات، والجرائد، والإذاعات، والقصص، والقصاصات ـ ويهوِّنوا من شأن أهل العلم ـ أصحاب الكتب الصفراء، وأصحاب الحواشي ـ لأنَّه إذا حصل لهم ذلك، سَهُل عليهم حينئذ قيادة وتوجيه الهمج، والرعاع، والببغاوات؛ إلى ما يريدون تحقيقه من أهداف وغايات، فجعلوهم أشبه بالآلات التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفهم ولا تعقل، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

ولهذا فإنِّي سأقوم هنا ـ إن شاء الله ـ بمناقشة هذا المبدأ وصاحبه مناقشة مختصرة ـ يسّر الله مناقشتها مفصلة ـ خشية الإطالة، بعد أن نتذكّر سويًّا كلمة سرّهم التي تقول: إنّ المبادئ والأفكار والأسس والغايات التي يريدون عرضها على الناس ـ مِمَّا يوجب الاختلاف ـ لابد من عرضها بقوالب وألفاظ مجملة ليتسنَّى لهم ما يريدون.

!!!

 


فصلمناقشة الوسيلة الثانية من وسائل القطبية في تحقيق أهدافها

وهي: فقه الواقع

اعلم ـ أخي الكريم ـ بأنّ غاية ما يمكن أن يقال عن علم فقه الواقع المنادى به اليوم ـ إن صحّت تسميته علمًا وفقهًا ـ أن يكون من فروض الكفايات إن لم يكن من المباحات.

إلاّ أنّ صاحب فقه الواقع أخرجه في صورة مبالغ فيها جدًّا، فاق بها فروض الأعيان.

قال العمر في <فقه الواقع><إحكام الفتوى وإتقانها: أشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى أهمِّية فقه الواقع للمفتي>.

وهو يشير بذلك إلى قول ابن القيم رحمه الله في كتابه <إعلام الموقعين> (1/87 ـ 88)، حيث قال ـ رحمه الله ـ: <...ولا يتمكّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقّ إلاّ بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثمّ يطبّق أحدهما على الآخر...>.

فكلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عامٌّ في كلّ مسألة، سواءً كانت في العقائد، أو في المعاملات، أو في العبادات، أو في السياسات الخاصَّة، أو العامَّة، الداخلية أو الخارجية، أو حتى الدنيوية... الخ. ﻓ <الحكم على الشيء فرع عن تصوّره>.

فما هو المراد بفقه الواقع عند هؤلاء الصحفيين الحركيين السياسيين يا ترى ؟!!!

المراد به: فقه السياسات الغربية، ومعرفة مخطّطاتها السرية تجاه الإسلام والمسلمين.

وهذا الفقه شيء محمود، لا ننكره ولا نحاربه، ولكنَّ الذي ننكره ولا نرضاه هو: جعلهم العالم الذي يُقْتَدَى به هو الفقيه بذلك الواقع لا غير.

ولهذا نجدهم يسمُّون ذلك الفقيه ـ أي: فقيه الواقع ـ ﺑ <المُنَظِّر>، وﺑ <المُوَجِّه>، وﺑ <المفكر>، وﺑ <الداعية>، وﺑ <الحركي>... الخ.

ولَمَّا كان نهج هؤلاء قائمًا على الألفاظ المجملة، أوهموا القارئ بأنَّهم موافقون لابن القيم في كلامه، وأنَّهم مقتفون لآثاره، قائلون بها، والفََطِن النبيه يعلم بأنَّهم مخصِّصون لكلامه، مقيّدون لإطلاقه، فشتَّان بين الفقهين، فذاك عامٌّ، وهذا خاصٌّ، وذاك مطلق، وهذا مقيّد، فأنّى يستويان([1]) !

يوضِّح ذلك تعريفهم لفقه الواقع حيث قالوا: هو <علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثّرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمَّة ورقيِّها في الحاضر والمستقبل>. [فقه الواقع للعمر ص (10)].

إذن فما هو الحامل لهم على ذلك ؟

الحامل لهم هو: ترويج ما يدعون إليه من مناهج وأفكار، إذ لو لم تكن لهم آثار سلفية لانكشفوا وانفضحوا لدى العامَّة والخاصَّة، فهم أشبه في ذلك المنهج والمسلك بالأشاعرة، حيث قالوا: بتنزيه الربِّ جلّ جلاله، وعنوا به تعطيله سبحانه وتعالى عن كثير من صفاته، إذ لو قالوا بالتعطيل ابتداءً لَمَا تَبِعَهم إلاّ قلَّة، فما أشبه الليلة بالبارحة !! <ولكلّ قوم وارث>.

واعلم أخيّ ـ وفَّقني الله وإيَّاك لكلّ خير ـ بأنّ صاحب فقه الواقع قد ذكر بعض الأدلة الشرعية مستدلاًّ بها على صحة دعواه، وهي في حقيقة الأمر ليس لها صلة بما قرّره من فقه الواقع بمعناه الخاصّ، وإليك ـ أخي الكريم ـ تفصيل ذلك:

قال العمر ص (14): <أمَّا السنَّة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد التي تدلّ على عناية المصطفى r بهذا الجانب ـ أي فقه الواقع ـ.

فها نحن نراه يوجّه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته بما يدور حوله وأحوال الأمم المعاصرة له.

فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس والروم أو غيرهم، ولماذا اختار الحبشة؟ يبيّن ذلك r بقوله: <إِنَّ فِيهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ>.اﻫ

قلت: سبحان الله !! هذا الحديث يدلّ على معرفة الأمور والأحوال الظاهرة، والتي يشترك فيها أكثر الناس، فأين دلالته على الاشتغال بتتبّع الجرائد، والمجلات، والأفلام، والتقارير الغربية... الخ، بزعم أنَّنا بهذا الطريق نعلم خطط وأهداف الغربيين السرِّية، والموجهة تجاه الإسلام والمسلمين ؟!!

ويقال هذا ـ أيضًا ـ فيما قاله في فقه الواقع ص (15 ـ 16) حيث قال: <.. ومن أقوى الأدلة على عناية الكتاب والسنّة بفقه الواقع قصة فارس والروم، وفيها يبرز اهتمام الصحابة ـ أيضًا ـ بهذا العلم، وإدراكهم لأهمِّيته، والقصّة كما وردت في سورة الروم: أنَّه قامت حرب بين فارس والروم فانتصر الفرس على الروم، وهنا حزن المسلمون لهذا الأمر، فقام أبو بكر t وراهن أحد المشركين على انتصار الروم على الفرس، وحدّد لذلك أجلاً قصيرًا، فأخبر أبو بكر t رسول الله r بذلك، فأقرّه وأمره بزيادة مدّة الأجل، إلى عشر سنين، ففعل أبو بكر..>.

قلت: نحن فرحنا بذلك، وفرحنا ـ أيضًا ـ بانتصار الإسلام والمسلمين في كثير من البقاع والأزمان، وإن لم نحضر أو نرهم، ونهتمّ ونفرح بانتصار الإسلام والمسلمين في هذا العصر وبعده، ولكن يا فقيه الواقع: أين الدلالة من هذه الحادثة على الاهتمام بالجرائد، والمجلات والتحليلات الغربية والشرقية... الخ ؟

لأنَّه لا يتمُّ فقه الواقع ـ كما تقول ـ إلاّ بهذا، بل كلّ ما ذكرته من الأدلة هو بهذه المثابة، حيث يستوي فيها كثير من الناس، العالم منهم والجاهل، والذكر والأنثى، الصغير والكبير.

وإلاّ فالعالَم علِم بسقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وتمزُّقه إلى دول، وعَلِم العالَم ـ أيضًا ـ بحرب العراق وإيران، وعلم العالم بحرب الخليج، والحرب اليمنية، بل علم العالم بالصلح مع إسرائيل، فهل هو فقه الواقع الذي تريده، والذي يستوي فيه أكثر الناس ؟!!

أم تزعم ـ يا فقيه الواقع ـ ومَن سار على دربك ـ أنَّكم قد أحطتم بأسرار تلك الوقائع، ومخطّطاتها، وأهدافها الدقيقة والجليلة، الظاهرة والخفية، القريبة والبعيدة ؟ فإن كان ذلك كذلك، فأظهره ونوِّر لنا دربنا ؟! وإن كانت الأخرى، فلا تلعبوا بعقولنا وبعقول شبيبتنا، و<رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه>.

ويمكن تقرير الجواب بوجه آخر، وهو: أنَّه مِمَّا علم واشتهر وانتشر أنّ أمريكا كانت تخطّط لعدوّها اللدود الدب الأحمر روسيا، وكانت روسيا تفعل مثل ما تفعل عدوّتها التقليدية أمريكا، وكانت بينهم حرب تسمَّى بحرب الجواسيس، كالحرب العسكرية، أو أشدّ، وكانوا يتبادلون الأسرى فيما بينهم، ولا يخفى على أحد ما لدى تلك القوتين من الإمكانات المادية الهائلة للتجسس، والمراقبة ـ لدرجة أنَّهم غزو الفضاء بها ـ ومع ذلك كلّه لم يكتشف كلٌّ منهم أسرار ومخطّطات خصمه السرية، فأنَّى لكم ذلك ؟!!! وأنتم لا تملكون شيئًا من ذلك، بل ولا معشار معشار ما يملكون من هذه الوسائل المادية، بل العجيب في ذلك كلِّه أنَّكم تعتمدون على ما يكتبون ويقولون من تقريرات، ونشرات، وتصريحات... الخ، كما هو واضح من تحليلاتكم السياسية لأزمة الخليج، والتي تصدّر لها سفر في كتابه <كشف الغُمَّة>، فسبحان الله ما لكم كيف تجمعون وتحللون، وتربطون، ومن ثَمَّ تحكمون وترشدون، وأنتم في ذلك كله معتمدون على أخبار الكفرة الفجرة الكذبة ؟!!

واعلموا أنَّكم قلتم:

إنّ من مقومات فقه الواقع التأصيل الشرعي، وأنّه لابدّ أن يكون لدى فقيه الواقع من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصّصه، مِمَّا لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.

ولا بد له من سعة الاطِّلاع وتجدُّده، ولتشعب هذا العلم وشموله فيحتاج المتخصِّص فيه إلى كثير من الفنون، سواءً العلوم الشرعية، كالعقيدة، والفقه، أو العلوم الاجتماعية، كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة، كالسياسية، والإعلامية، وهلمَّ جرا.

وإذا قصَّر في أيِّ علم من هذه العلوم أو غيرها، مِمَّا يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبًا على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها.

وهذا العلم يحتاج ـ أيضًا ـ إلى قدرة فائقة على المتابعة والبحث في كلّ جديد، لذا يلزم المتخصِّص أن يكون لديه دأب لا يكلُّ في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثّر في تحصيله وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها.

ومن مقوّماته: القدرة على الربط، والمقارنة، والتحليل، بعد جمع الأخبار والمعلومات، ولا بدّ ـ أيضًا ـ من تفاعل الفقيه الإيجابي مع الواقع، ولا بد أن يكون حسن الاختيار لمصادر ذلك الفقه، فمصادره متعدّدة متنوعة، متباينة، فمن مصادر إسلامية، إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين، إلى أخبار الكفار والملحدين، وهكذا دوالَيْكَ.

وقلتم ـ أيضًا ـ إنّ مصادر فقه الواقع كثيرة جدًّا، منها: القرآن الكريم وتفسيره، والسنّة النبوية وشروحها، وسير السلف الصالح، من القادة والعلماء والمصلحين، وكتب العقيدة والفقه، ودراسة المعاصرين والمتقدّمين من كتب تتعلّق بالجوانب السياسية، كمذكّرات السياسيّين، الذين قضوا سنوات طويلة في غمار السياسة ودهاليزها، والكتب التي تبحث في موضوعات سياسية كالعلاقات الدولية، وعلاقة السياسة بالاقتصاد، ومهمَّات السفراء، ونحو ذلك، والكتب التي تتحدّث عن خفايا السياسة وأساليبها، ودور المنظمات الدولية، ككتاب <لعبة الأمم>، و<الميكافيلية>، و<منظمة الأمم المتحدة>، و<عصبة الأمم>، وﻛ <مجلس الأمن>.

ومن مصادره: المصادر اليومية، كالصحف، والمجلات، والدوريات، ونشرات وكالات الأنباء العالمية، والإذاعات، والتلفزيون، والأشرطة والوثائق، إلى غير ذلك من الوسائل الإعلامية المعاصرة.

قلت: إذا عُلِم هذا، فليعلم بأنَّه لا يمكن لأحد من أهل العلم ـ ولو كان من سادات الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي y، أو أحد الأئمَّة الأربعة، أو حتى شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم، ومَن هو مثلهم ـ أن يقوم بعشر ما سبق ذكره، بل أنت ـ يا فقيه الواقع ـ هل تدَّعي أنّك قد ألممت بكلّ ما ذكرته وقام بك ؟! بل إنّه لا يمكن أن يقام بذلك العمل إلاّ بواسطة دولة متكاملة، قوية، غنية، لها من الإمكانات المادية والعلمية الشيء الكثير، فهل أنتم دولة ؟!

إنّ فقهاء الواقع يريدون حشر الشباب السذج، البسطاء، الأغرار في دهاليز السياسة وظلماتها المخيفة، ومكرها الدفين، ليكونوا على شاكلتهم متابعين لهم، فلا يفقهون علمًا، ولا يسمعون نصحًا، فاللهمّ رُحْماك رُحْماك.

فإن قال قائل: قد تتسرب بعض مخطّطات الأعداء من أيديهم على أيدي بعضهم مِمَّن أراد الشهرة والمال، وذلك بكتابة مذكّراته ومن ثَمَّ نشرها.

قلت: هذا ممكن وأنا لا أتكلّم عن الإمكان العقلي، بل أتكلّم عن الواقع يا أهل الواقع، وهب ـ أيضًا ـ بأنّ ذلك وقع، فكم يا ترى من كتاب، ونشرة، وتقرير، ينشر بضدّه، ليعمى على القارئ، ويشوِّش عليه، كما يفعله الكاهن حينما يقول الحقّ الذي استرقه الشيطان من السماء ثمّ يكذب معه مئة كذبة. بل الكثير مِمَّا يعلن وينشر تريد به تلك الدول التعتيم والتضليل، ولا يمثل حقيقة سياستها ونواياها المستقبلية، هذا إن أصدرته هي، فضلاً عن أن تكون مصادره مستقلة عنها.

بل إنَّ من هدي النبي r وشرعه أنَّه إذا أراد غزوة ورَّى بأخرى، فإذا كان هذا من ديننا، فكيف بِمَن لا دين لهم إلاّ الكذب ؟!!

إنّنا في هذا البلد الطيب ـ بلد التوحيد والسنّة ـ قد كُفِينَا مُؤْنَة ذلك كلّه، فحكامنا ـ هدانا الله وإيَّاهم ووفقنا الله وإياهم لكل خير ـ قد كفونا مُؤْنَة متابعة الأحوال السياسية الداخلية والخارجية، الإقليمية منها والعالمية.

وهيئة كبار العلماء ـ حفظنا الله وإيَّاهم ـ قد كفونا مُؤْنةَ الحكم على تلك السياسات والأحداث؛ فما علينا إلاّ أن نتفرّغ لطلب العلم النافع، والعمل الصالح الديني والدنيوي، والمناصحة الصادقة الهادفة للجميع، والدعاء لهم بالتوفيق في الدين والدنيا.

هذا هو سبيل المؤمنين في الإصلاح، إن كنتم مصلحين.

ولا يفوتني هنا قبل أن أنتقل إلى المسألة الآتية ـ أن أُذَكِّر ـ أخي القارئ الكريم بأنّ هذه المسألة لم تطرح للساحة إلاّ في أزمة الخليج، بعد مُضِيِّ شهرين منها في منطقة أَبْهَا، ومقدِّم المحاضرة هو عايض القرني، وعندي استشكال واستفسار هو: لماذا عرضت في ذلك الوقت وفي ذلك المكان ؟!! أَلأَنَّ هيئة كبار العلماء أصابت في فتواها أم لأنَّها... ؟!!

رابعًا: من إرهاصات خروجهم أنَّهم قالوا: إنّ الأحاديث الواردة في وجوب مبايعة إمام كقوله عليه الصلاة والسلام: <...مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً>. وكقوله عليه الصلاة والسلام: <تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضَربَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ>.

وكقوله: <عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأثرة عَلَيْكَ>([2]).

إنَّما المراد بها إمام العامّة، أو الخليفة الذي تخضع له البلدان عامّة، أمّا الأوضاع الحالية، فلا تصدق عليها هذه الأحاديث.

قالوا ذلك لكي يتجرّأ الشباب على الخروج على حكامهم، ولا سيما في هذه البلاد الطيبة.

وزعموا ـ أيضًا ـ بأنّ الإمامة الكبرى لا تكون إلاّ في قريش، وهؤلاء ليسوا من قريش، فلا ولاية لهم ولا بيعة.

ولا أدري أين ذهبوا عن قول المصطفى r<... مَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَن يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي>([3]) وقوله ـ أيضًا ـ في حديث أبي ذر حيث قال: <إنّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا مجدَّع الأطراف>([4]). وغيرها كثير.

ففي هذه الأحاديث لم يشترط الرسول r الإمامة الكبرى، ولا كونه من قريش، }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمًّا تَعْمَلُونَ{ [البقرة، آية: 85].

قال الشيخ الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في أضواء البيان (1/123 ـ 124): <فاشتراط كونه قريشيًّا هو الحقّ، ولكنَّ النصوص الشرعية دلّت على أنّ ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين، وإطاعتهم لله ورسوله، فإن خالفوا أمر الله فغيرهم مِمَّن يطيع الله ـ تعالى ـ وينفذ أوامره أولى منهم.

فمن الأدلة الدالة على ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن معاوية t ... فإنِّي سمعت رسول الله r يقول: <إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ؛ مَا أَقَامُوا الدِّينَ>.

ومحلّ الشاهد منه قوله r<ما أقاموا الدين> لأنّ لفظة: <ما> فيه مصدرية ظرفية، مقيِّدة لقوله: <إنّ هذا الأمر في قريش>؛ وتقرير المعنى: إنّ هذا الأمر في قريش مدّة إقامتهم الدين. ومفهومه: أنَّهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم. وهذا هو التحقيق الذي لا شكّ فيه في معنى الحديث>. اﻫ

وأقول لهؤلاء أيضًا: أتجهلون واقع المسلمين حينما سقطت الدولة الأموية في الشام، وقامت في الأندلس، وقامت الدولة العباسية في بغداد، فكانت آنذاك دولتان في آن واحد ـ بل كانت هناك دولة الأغالبة والأدارسة ـ الأموية في الأندلس، والعباسية في بغداد ؟

فهل سيقول هؤلاء السياسيون بأنّ ذلك الوقت خلا عن إمام مبايع له بالسمع والطاعة، وخلا عن الجهاد والغنيمة ؟

أم سيقولون لكلٍّ منهما بيعة وسمع وطاعة ـ كما هو القول الحقّ ـ فيتركون ما يطنطنون به ويزمِّرون ؟!!

اللهمَّ افتح بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خير الفاتحين.

بل الخلافة العثمانية التي تتباكون على سقوطها لم تكن خلافة عامَّة، ولم يكن الخليفة قرشيًّا. فهل سيقولون جاز لأولئك ولا يجوز لهؤلاء([5]) ؟!!

وكم في حياتهم وسياساتهم من الجهالات والخلل والتناقضات والاضطراب والمماحكات !!

خامسًا: من إرهاصاتهم للخروج، قولهم بجواز، بل بوجوب بيعة زعماء الجماعات الإسلامية، كما سبق ذكره عند الكلام على التنظيم والبيعة، وعند الكلام على تكفيرهم للحكام، فارجع إليه ـ وُفِّقت لكلّ خير ـ.

فلو كان هؤلاء يعتقدون وجوب البيعة لولاة هذا البلد الطيبـ بلد التوحيد ـ لَمَا أجازوا تلك البيعات المناقضة لها، فتنبّه!!!

ولا يخدعنّك قولهم: إنّ بيعة زعماء الجماعات الإسلامية وإمرتهم إنَّما هي مثل بيعة الأمير في السفر وإمرته، لأنّ تأمير الأمير في السفر لا يناقض البيعة العامَّة للحاكم أو الوالي، وإلاّ لم يجز. هذا أولاً.

وثانيًّا: هذه الإمرة مخصوصة بالسفر، فإذا انتهى السفر انتهت الإمرة بل إذا افترقوا في السفر لمصلحة عرضت لأحدهم، انتهت إمرة الآخر عليه، بخلاف البيعة للخليفة، أو الحاكم، أو الوالي، فلا تنقطع بفراقه لتجارة، أو دراسة، أو ما أشبه ذلك، فما أطول سفر القوم !!

بل إنَّ المقطري في <قواعد الاعتدال> ص (60)، صرَّح بعدم وجود السلطان المسلم الذي تجب له البيعة، حيث قال: <...والناظر اليوم إلى واقع المسلمين يرى أنَّه لا يوجد السلطان المسلم !!! الذي يُحكِّم شرع الله في كلّ نواحي الحياة، والذي تجب له البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، ويأثم كلّ مستطيع إن ترك مبايعته>.

سادسًا: من إرهاصاتهم للخروج: ذكرهم ودراستهم لحركات خرجت ـ بزعمهم ـ بعضها نجح، وبعضها فشل، آخذين منها العبر والفوائد، وذلك لمعرفة أسباب نجاحها، وأسباب فشلها، كما قاله العبدة في كتابه ـ المقدّس عندهم ـ <حركة النفس الزكية> ص (6)، حيث قال: <ولم أقصد دراستها من الناحية الشرعية، وأعني بذلك السؤال الذي يطرحه العلماء، هل يجوز الخروج على أئمَّة الجور أم لا ؟.. كما أنَّني لا أقصد الدراسة التاريخية البحتة ..وإنَّما قصدت دراستها كواقع حصل في التاريخ الإسلامي، وهل يمكن الاستفادة منها في حياتنا المعاصرة، عندما ندرس أسباب خروجها أو فشلها ؟>.

ومن ذلك قوله ص (10 ـ 11): <إنّ كثيرًا من علماء المسلمين لم يكونوا راضين عن القصور في دمشق وبغداد، وقد قدم بعضهم سندًا أَدَبيًّا لأمثال حركة النفس الزكية، لأنَّهم كانوا يريدون التطبيق الشامل للإسلام، ولكنَّ الأكثرية من العلماء كانوا يرون الخروج على الحكام فيه من المفاسد أكثر مِمَّا فيه من المصالح، لأنَّهم لا يملكون تكتُّلاً قويًّا لتغيير الحكم بدون فتن وإراقة دماء...>.

انظر وتمعن في قوله: <ولكنَّ الأكثرية من العلماء كانوا يرون الخروج على الحكام فيه من المفاسد أكثر مِمَّا فيه من المصالح... الخ>، هكذا يا عبدة تُوهِم القارئ بأنَّ القضية قضية ترجيح مصالح على مفاسد، وكأنَّه لا يوجد فيها نصوص قاطعة ثابتة صريحة، تدل على وجوب السمع والطاعة، وإن ظلم وجار، ما لم نر كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان، وتُحرِّم الخروج عليهم، وأنَّ الحكم فيمن أراد الخروج القتل كائنًا مَن كان، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: <إنَّه سيكون هنات هنات، فمَن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمَّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا مَن كان> مسلم (3/1479).

وقوله: <مَن أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقَّ عصاكم أو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه> مسلم (3/1480).

ونحن ـ ولله الحمد والمنَّة ـ مجتمعون في هذا البلد تحت راية سنِّية سلفية وحاكم مسلم؛ فلا نسمح لأحد كائنًا مَن كان أن يفرِّق جمعنا، ويشتِّت شملنا، ويذهب برايتنا وولاتنا، لأنّ في هذا إفساد ديننا ودنيانا، وإنَّما المطلوب الإصلاح بالمعروف.

وانظر ـ أخي الكريم ـ مقارنًا بين كلام العبدة حيث قال: <...لأنَّهم لا يملكون تكتُّلاً قويًّا لتغيير الحكم بدون فتن وإراقة دماء...>.

وبين كلام العودة حيث يقول في شريطه <الأمَّة الغائبة><إذًا من خلال هذه الأمثلة المتفرِّقة نستطيع أن نقول: كلُّ قضية نريد لها أن تنجح علينا أن نحشد لها جماهير الأمَّة بقلوبهم وعقولهم ومشاركتهم...>.

وبين ما نقله عبد العزيز بن ناصر الجليل عن أستاذه محمَّد قطب في كتابه: <وقفات تربوية> ص (162)، حيث يقول محمَّد قطب: <أمَّا الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل) ؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعدًا محدّدًا؛ فنقول لهم: عشر سنوات من الآن، أو عشرين سنة من الآن ! فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، وإنَّما نستطيع أن نقول لهم: نظلُّ نربِّي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول...>.

سابعًا: من إرهاصات خروجهم ـ أيضًا ـ عدم قناعتهم في أحقِّية هيئة كبار العلماء في هذا البلد حين اتخاذهم لأيِّ قرار تجاه هؤلاء السياسيين وذلك حينما رمى أولئك السياسيون تلك الهيئة العظيمة بأنَّهم لا يفقهون الواقع.

فمن تلك الأقوال التي قالوها في الهيئة وغيرهم: قول سلمان في شريطه <وقفات مع إمام دار الهجرة><..في بلاد العالم الإسلامي اليوم جهات كثيرة جدًّا لم يبق لها من أمر الدين ـ وقد تكون مسئولة عن الفتيا ـ أحيانًا ـ أو عن الشؤون الإسلامية ـ لم يبق لها إلاّ أن تعلن عن دخول شهر رمضان أو خروجه..>.

وفي الحوار الذي أجرته معه مجلَّة <الإصلاح> الإماراتية، عدد (223)، ص (11) قال: <... الأحداث التي حدثت في الخليج لم تزد على أنَّها كشفت النقاب عن علل وأدواء خفية، كان المسلمون يعانون منها، وأكَّدت على أنَّهم ليسوا على مستوى مواجهة مثل هذه الأحداث الكبيرة، وكشفت كذلك عن عدم وجود مرجعية علمية صحيحة، وموثوقة للمسلمين، بحيث أنَّها تحصر نطاق الخلاف، وتستطيع أن تقدِّم لهم حلاًّ جاهزًا صحيحًا، وتحليلاً ناضجًا...>.

وفي كتاب سفر الذي وجهه للهيئة، والذي أسماه ﺑ <كشف الغمة عن علماء الأمَّة>، وحينًا آخر ﺑ <حقائق حول أزمة الخليج>، وحينًا آخر ﺑ <وعد كيسنجر>، قال في ص (126، 127): <وبعد.. الآن وبعد أن استعرضنا القضية من بدايتها، وجذورها، وخططها، وإرهاصاتها، وإخراجها، أتظلُّ المسألة مسألة استعانة، كما فهم المشايخ والإخوان الأفاضل أصحاب الرأي الأول.. أمَّا من جهة الواقع فالمناط مختلف جدًّا ـ فالهيئة تقول استعانة، وهم يقولون احتلال ـ وعلينا معرفته ومدارسته، والخروج بما يبرئ الذمَّة، ويسقط المؤاخذة، ويدفع عذاب الله عنَّا..>.

وأريد بهذه المناسبة أن أتوجّه لسفر بسؤال هامٍّ جدًّا، وهو: هل نحن الآن ـ يا سفر ـ لا زلنا محتلِّين، أو لا ؟ وهل قوات التحالف لا زالت باقية في الطرقات والمطارات، والمدن، والقرى، والمناطق النفطية، أو أنَّها رحلت ؟

ـ وأيضًا ـ هل برئت ذمّة الهيئة الآن وسقطت عنهم المؤاخذة، أو لا ؟

إذا عُلِم ما سبق، فاعلم أخي أنَّه لَمَّا انغرس ذلك الشيء في نفوسهم ونفوس أتباعهم؛لم ينصاعوا للقرارات التي صدرت من الهيئة ولو كانت مجمعة على ذلك القرار، يوضّحه: أنَّه حينما أفتى أهل العلم بجواز الاستعانة، أفتى السياسيون بعدم جوازها، بل ادَّعوا أنّ هذه ليست استعانة، وإنَّما هي احتلال، هذا أولاً.

وثانيًا: حينما وجَّهوا نصيحتهم ـ المزعومة ـ للملك ـ حفظه الله ورعاه وسدّد لكلِّ خير خطاه ـ قاموا بنشره في الجرائد الخارجية، وأعلنوها على رؤوس الأشهاد، فخرجت عن كونها نصيحة إلى كونها فضيحة، فقامت الهيئة باستنكار ذلك الفعل وذلك العمل، فهل سكت أولئك القوم ؟ أم أنَّهم استنكروا استنكار الهيئة وتمادوا في غيِّهم ؟

وثالثًا: حينما أجمعت الهيئة على استدعائهم وتقريرهم بأخطائهم ـ من قبل ولاة الأمر ـ ومن ثَمَّ طلب منهم الكفّ عن تلك الممارسات، وتلك الأخطاء، فإن امتثلوا فبها ونعمت، وإلاّ مُنِعوا الخُطب، والمحاضرات، والدروس، والتدريس، حماية للمجتمع من أخطائهم، وذلك باتِّفاق الهيئة.

فهل امتثلوا ما قيل لهم، أو 

41).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق