الخميس، 19 يناير 2017



التخبط العقدي عند تلاميذ محمد قطب
التخبط العقدي عند تلاميذ محمد قطب :
( ) انظر مثلا كتاب » لا إله إلا الله عقيدةً ومنهجا ً... « ص (174) لترى كيف يغمز مؤلفُه محمدُ قطب من قناة علماء الكتاب والسنة، ويستهجن عمل من يقوم بتحقيق المخطوطات! ويستنكف أن يسمِّيهم علماء!! مع ذلك فهو عند قوم: " من الإخوان المعتدلين! "، لكنه ـ عندهم ـ سلفيُّ المعتقد، عصريُّ المواجهة!!! لأنه لا يُضيِّع وقته في مواجهة الفرق العقدية القديمة بزعم اندراسها! وهي ـ كما يقال ـ:
( شنشنة أعرفها من أخزم )؛ وإلا فلماذا إصراره على الردّ على المرجئة ـ وهي فِرقة قديمة ـ لولا أنه وجماعته يريدون تنفير الشباب السلفي من علمائهم بسبب أن هؤلاء يُفَصِّلون في قضية الحكم بغير ما أنزل الله ولا يُكفِّرون مطلقًا؛ بل لا أدري هل تنبّه القاريء إلى أن هذا الرجل ضاعف حديثه عن الإرجاء في كتبه الأخيرة بعد أن استوطن السعودية!! فانظر مثلاً كتبه:» الصحوة الإسلامية « و» التفسير الإسلامي للتاريخ « و» واقعنا المعاصر « ... مع أنك لا تكاد تعثر على هذه الكلمة ـ الإرجاء ـ في كتبه القديمة، مما يدلك على أنه استلّها من قاموس السلفيين بعد أن سكن ديارهم ليحاربهم بها، ولعله لم يَسمع بها من قبل! وقد كان نائب علي بن حاج في الجبهة الجزائرية المسمَّى الهاشمي سحنوني يُلقِّب كلَّ مَن لا يُكفِّر الحكام بهذا اللقب: ( مرجيء! ) فلما سألتُه عن مصدره قال: محمد قطب وعبد الرحمن عبد الخالق!!
ولم يقف محمد قطب عند هذا حتى أغرى أحدَ أبناء الجزيرة العربية ليكتب في ذلك، كل ذلك توكيداً منه للاهتمام بمعالجة داء الإرجاء المسيطر على علمائها في زعمه!! ولا تكاد تجد كتاباً أُلِّف اليوم في الإرجاء إلا وعليه بصماته؛ من تقديم أو استشهاد مؤلِّفه بأقواله؛ فانظر مقدّمته الحافلة لكتاب تلميذه الحميم سفر الحوالي » ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي «، ثم هي حُذِفَت الآن في طبعته الرسمية!! بل تجد هذا الأخير في كتابه
» العلمانية « يأتي بآية الحكم بغير ما أنزل الله من غير تعريج على تفسير السلف لها، وعلى رأسهم التفسير المشهور والصحيح الإسناد عن حبر الأمة عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما وغيره! فهل يعني هذا أنه غير راضٍ بالتفصيل السلفي المأثور في المسألة؟ انظر ص (685) وما بعدها لترى كيف يُنَزِّل الحكمَ من ظاهر الآية السابقة على عموم حكام المسلمين حتى يُخَيَّل إلى القاريء أن لا تأويل للآية عند السلف إلا ذلك التعميم! وتأمّل في كتابه هذا عدد النقولات الهائلة عن شيخه إلى جنب نقولاته الهزيلة عن السلف تفهم ما قلتُه! وقد وجدتُ عند الشيخ الألباني كلاما رصينا في المسألة، فقد سئل عما يأتي:
" فضيلة الشيخ! لا يخفى عليكم ما احتوته الساحة الأفغانية ( في ذلك الوقت ) من الجماعات والفرق الضالة التي كثرت في ذلك الحين في صفوفها، والتي استطاعت
ـ وللأسف ـ أن تبثّ أفكارها الخارجة عن منهج السلف الصالح في شبابنا السلفي الذي كان يجاهد في أفغانستان، ومن هذه الأفكار: تكفير الحكام وإحياء السنن المهجورة كالاغتيالات كما يدَّعون، والآن وبعد رجوع الشباب السلفي إلى بلادهم ( بعد الجهاد ) قام بعضهم ببثّ هذه الآراء والشبه بين الشباب في مجتمعاتهم ... ".
فأجاب بعد أن بيَّن خطورة تنكّب تفسير السلف للوحيين: " فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول الله  ومنهج السلف الصالح، ومن هؤلاء: الخوارج قديما وحديثا؛ فإن أصل التكفير الذي ذكرناه في هذا الزمان: الآية التي يُدَندِنون حولها؛ ألا وهي قوله تعالى:{ومَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} .. فمن جهل الذين يحتجون بهذه الآية .. أنهم لم يُلِمُّوا على الأقل ببعض النصوص التي جاء فيها ذكر لفظة الكفر؛ فأخذوها على أنها تعني الخروج من الدين، وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى ... ويُسلِّطون هذا الفهم الخاطيء على كثيرين وهم بريئون منه ... ".
ثم تحدّث عن تفسير ابن عباس الذي يحاول محمد قطب وأتباعه جعله وصفاً خاصاً بخلفاء بني أمية، فقال: " وكأنه ـ أي ابن عباس ـ طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما، أن هناك أناسا يفهمون الآية على ظاهرها دون تفصيل، فقال  : ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، هو كفر دون كفر ... إلى أن قال : " فابن تيمية
ـ يرحمه الله ـ وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي؛ وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا ...". ثم ذكر بعض ما جرى بينه وبين بعض المخالفين أنه قال لهم: " فأنتم أولا لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم بالقوانين الغربية الكافرة أو بكثير منها أنه لو سئل لأجاب بأن الحكم بهذه القوانين هو الحق والصالح في هذا العصر، وأنه لا يجوز الحكم بالإسلام، لو سئلوا لا تستطيعون أن تقولوا بأنهم يجيبون بأن الحكم بما أنزل الله اليوم لا يليق؛ وإلا لصاروا كفارا دون شك ولا ريب، فإذا نزلنا إلى المحكومين وفيهم العلماء، وفيهم الصالحون
والخ .. فكيف تحكمون عليهم بالكفر بمجرد أن تروهم يعيشون تحت حكم يشملهم كما يشملكم أنتم تماما، لكنكم تعلنون أن هؤلاء كفار بمعنى مرتدين ... ". ثم تكلم عن الحاكم بغير ما أنزل الله فقال: " فلا تستطيع أن تقول بكفره حتى يعرب عما في قلبه؛ بأنه لا يرى الحكم بما أنزل الله  ، وحينئذ فقط تستطيع أن تقول إنه كافر كفر ردّة ... ثم كنت ولا أزال أقول لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين: هبُوا أن الحكام كفار كفر ردّة، ماذا يمكن أن تعملوه؟ هؤلاء الكفار احتلوا من بلاد الإسلام، ونحن هنا مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين، فماذا نستطيع نحن وأنتم أن نعمل مع هؤلاء حتى تستطيعوا أنتم مع الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار؟ هلا تركتم هذه الناحية جانبا وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة؟ وذلك باتباع سنة رسول الله  التي ربَّى أصحابه عليها .. وذلك ما نعبِّر عنه في كثير من مثل هذه المناسبة بأنه لا بدّ لكل جماعة مسلمة تعمل بحق لإعادة حكم الإسلام، ليس فقط على أرض الإسلام، بل على الأرض كلها، تحقيقا لقوله تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن هذه الآية ستتحقق فيما بعد؛ فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني: هل يكون الطريق بإعلان الثورة على هؤلاء الحكام الذين يظنون أن كفرهم كفر ردّة، ثم مع ظنهم هذا ـ وهو ظنٌّ خاطيء ـ لا يستطيعون أن يعملوا شيئا! ما هو المنهج؟ ما هو الطريق؟ لاشك أن الطريق هو ما كان رسول الله  يدندن حوله ويذكِّر أصحابه به في كل خطبة: (( وخير الهدى هدى محمد  ))؛ فعلى المسلمين كافة وخاصة منهم من يهتمّ بإعادة الحكم الإسلامي أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله : وهو ما نكني نحن عنه بكلمتين خفيفتين: ( التصفية والتربية )؛ ذلك لأننا نحن نعلم حقيقة يغفل عنها أو يتغافل عنها في الأصح أولئك الغلاة الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام، ثم لا شيء؛ وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ثم لا يصدر منهم إلا الفتن؛ والواقع في هذه السنوات الأخيرة التي يعلمونها بدْءاً من فتنة الحرم المكي إلى فتنة مصر وقتل السادات وذهاب دماء كثير من المسلمين الأبرياء، بسبب هذه الفتنة، ثم أخيرا في سورية، ثم الآن في مصر والجزائر مع الأسف .. الخ. كل هذا بسبب أنهم خالفوا كثيرا من نصوص الكتاب والسنة، وأهمها:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} ... بماذا بدأ رسول الله ؟ تعلمون أنه بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبّل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية إلى آخر ما هنالك، حتى وطَّد الله  الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هنالك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة، ثم اليهود من جهة أخرى، وهكذا. إذاً لا بدّ أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن نحن الآن لا نقتصر على التعليم؛ لأنه دخل الإسلام ما ليس منه ولا يمُتّ إليه بصلة ... فلذلك كان من الواجب على الدعاة أن يبدأوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه، والشيء الثاني: أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشيء على هذا الإسلام المصفَّى، ونحن إذا درسنا الجماعات الإسلامية القائمة الآن منذ نحو قرابة قرن من الزمان، لوجدنا كثيرا منهم لم يستفيدوا شيئا، برغم صياحهم وبرغم ضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية، وسفكوا دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة دون أن يستفيدوا من ذلك شيئا؛ فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة، والأعمال المنافية للكتاب والسنة ... " ( من جريدة » المسلمون « 5/5/1416هـ ـ عدد:556، ص7)، و(( مجلة البحوث الإسلامية )) (49/373 ـ 377).
قال العلامة عبد العزيز بن باز معلّقا على هذا المقال: " فقد اطَّلعتُ على الجواب المفيد القيِّم الذي تفضَّل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ وفّقه الله ـ المنشور في صحيفة » المسلمون « الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل، فألفيتُها كلمة قيِّمة قد أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح ـ وفّقه الله ـ أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفِّر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يَعْلم أنه استحلَّ ذلك بقلبه، واحتجّ بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من سلف الأمة .. " ( » المسلمون « 12/5/1416هـ ـ عدد:557، ص 7).
وعودا على بدء أقول: إن هذا الانحراف العقدي الذي عند قطب قد انتقلت عدواه إلى أتباعه؛ ومن تتبَّع نشراتهم يجدهم في تخبُّط ذريع في بعض مسائل العقيدة، خاصة منها أصل التوحيد؛ وهو مباحث الإيمان وما يقابله من الكفر وما يتبعه من حكم بالتكفير، ولست الآن بصددها، مع أنه قد جاء أشراطها! فانظر مثلاً كتاب » المسك والعنبر في خطب
المنبر « لعائض القرني، فقد أتى فيه بخرافات المتصوفة؛ كدعوته إلى الاحتفال بيوم الهجرة النبوية ـ وهو احتفال مبتدَع شبيهٌ باحتفال المبتدعة بالمولد النبوي ـ مضاهاة للكافرين كما نصَّ عليه في (1/189ـ191)، وتهييجه في (1/74ـ75) على شدّ الرحال إلى قبر النبيّ  ؛ عازياً هذا الفعل إلى بلال  في قصة مشهورة هي عمدة الخرافيين، وقد استنكرها الذهبيّ في » السير « (1/358)، وابن عبد الهادي في » الصارم المنكي «
ص (314ـ320)، وقال فيها ابن حجر في » لسان الميزان« (1/108): " وهي قصة بيِّنة الوضع "، ولسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ ردّ وافر عليها في » شفاء الصدور في الردّ على الجواب المشكور « ص (13ـ 21)، وكذا الشيخ الألباني في » دفاع عن الحديث النبوي والسيرة « ص (94ـ102) وقال: " فهذه الرواية باطلة موضوعة؛ ولوائح الوضع عليها ظاهرة من وجوه عديدة ... "، إلى أن قال:
" قوله:) ويُمرِّغ وجهه عليه )، قلت: وهذا دليل آخر على وضع هذه القصة وجهل واضعها؛ فإنه يصوِّر لنا أن بلالاً  من أولئك الجهلة الذين لا يقفون عند حدود الشرع إذا رأوا القبور، فيفعلون عندها ما لا يجوز من الشركيات و الوثنيات، كتلمس القبر والتمسح به وتقبيله..." ص (96).
قلت: وتقبيل القبر الذي جعله الشيخ الألباني من دين القبوريين ـ كما ترى ـ هو عين ما أمر به القرني المسلمين؛ حيث قال في ص (57) من كتابه » لحن الخلود « بصراحة:
فـحيِّ القـبـورَ المـاثـلات تـحيّة ***** وضَعْ قُبْلةً يا صاحِ منك على اللحد
على خير من مسَّ الثرى بعبيره ***** أكـرم ميـت في الـورى لُـفَّ في بـُرد
وجعل رجاءه الشفاعة من الرسول  مباشرة سائلاً ذلك منه ـ لا من الله ـ؛ فقال فيها أيضا:
وأرجو بحبِّي من رسولي شفاعة إذا ***** طاشت الأحلامُ في موقف مردي
عساه بقرب الحب يذكرني به ***** وراحته السـمحـاء تـأبـى عـن الـرد
قلت: قال الله تعالى:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ}، وقال:{قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}.
وجعل النجاة من فزع الصراط بيد النبي  فقال فيها أيضا:
أريد بمدحي أن يُبَلِّغني النجا مرور صراط مفزع مصلت الحدِّ
قلت: يا هذا! أقصر عن هذا الغلوّ المهلك؛ فقد قال الله لنبيّه  :{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أحَدٌ وَلَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}.
والذي تشيب له رؤوس أهل التوحيد وَصفه النبيّ  بأنه: " إنسان عين الكون " في كتابه » المسك والعنبر « (1/190)؛ وهذا عين قول غلاة الصوفية أصحاب وحدة الوجود؛ فقد قال الجزولي في » دلائل الخيرات « ص (71): " وهو.. ـ يعني النبيّ  ـ إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود..." ( نقلاً عن كتاب » فضل الصلاة على النبيّ  « لفضيلة الشيخ عبد المحسن العبّاد ـ حفظه الله ـ ص 22).
وفي ص (335) من » المسك والعنبر « ترى القرني يكفِّر بالكبيرة؛ حيث يقول: " وهي ـ أي المسكرات والمخدِّرات ـ أعظم ما عُصِيَ الله تعالى به في أرضه!! ".
قلتُ: هذا نتنُ مذهب الخوارج الصريح! فهل ترى قد شابهُ مسك وعنبر؟ أم هل ينفع أن يقال: سبقُ لسانٍ من خطيب منبر؟ فلماذا إذاً يطبعه في ذاك الدفتر؟! وهل يُقبل من صاحبه أن يَدَّعي أن كلام الخوارج مفتر؟! وهو يخاطب علماءَ المسلمين بقوله في ص (47) من
» لحن الخلود «:
صَلِّ مـا شـئـتَ وصُمْ فالـدِّين ***** لا يَعرِف العابد مَن صلى وصامـا
واجعل السبـحـة متريـن وخـذ ***** عـمّـة بيضاء واصبغـهـا رخـامـــا
واتـرك العـالم في غــوغائـه ***** يتلـظَّـى في ليـالـيـه اضـطـرامــــا
أنــت قـسّيس مـن الرهبان ما ***** أنــت مِـن أحمد يـكفيك الملامـــا
لا تـخـادعني بزيّ الشيـخ ما ***** دامـت الـدنـيــا بـلاءً وظـلامـــا
أنـت تـأليــفـك للأمـوات مـا ***** أنت إلا مـدنــف حــبّ الكلامـا
كل يوم تشـرح الـمـتن عـلـى ***** مذهـب التقلـيد قد زدت قــتاما
والحواشي السود أشغلت بهـا ***** حـينـما خِفتَ من الباغي حُساما
لا تقل شيخي كلاما وانتـظـر ***** عمر فتوى مثلكم خمسون عـامـا
والسـياسـات حِمـى مـذورة ***** لا تـدانيـهـا فــتـلـقـيك حـطـاما
قلت: إذاً لا تنفع عنده عبادةُ السلفي ولا تسبيحُ الصوفي ما داما عازفين عن الفقه الحركي المبتدع، وبسببه خرج كلٌّ منهما: ليس مِن دائرة العلم فقط، بل ومن دائرة الإسلام؛ لأنه صرَّح بلا تشبيه ولا تأويل أنهما صارا من النصارى، بل من قساوستهم؛ وذلك قوله:
" أنت قسيس من الرهبان!!"، وأكَّده حين أخرجه من ملّة أحمد  في قوله: " ما أنت من أحمد!! "، وهذا ـ والله! ـ جُرم عظيم في حق إخوانه المسلمين! فكيف وهو حُكْم على علماء المسلمين!!! فهل تجرؤ ـ أيها القاريء ـ على تسمية أحد من المسلمين ـ فضلا عن علمائهم ـ باليهودي أو النصراني؛ لأنه لم يلتفت إلى ( فقه الواقع )؟! أعاذك الله.
هذا تكفيره بالكبيرة وبالوهم أيضا نثراً وشعراً! وذاك تخريفه نثراً وشعراً! فبأيّ حديث بعده يؤمنون؟! وتسمية قصيدته بـ( لحن الخلود ) مأخوذ من اسم غِناء امرأة مشهورة في هذا العصر!
ومثله أو أفظع منه في التكفير بالكبيرة قولُ سلمان العودة في شريط» جلسة على الرصيف « في مُغَنٍّ يجاهر بفسقه: " هذا لا يَغفر الله له! إلا أن يتوب؛ لأن النبيّ  حكم بأنه لا يُعافَى » كلّ أمتي معافى « ...! لأنهم مرتَدُّون بفعلهم هذا!!... هذه رِدَّة عن الإسلام!! هذا مخَلَّد ـ والعياذ بالله ـ في نار جهنم إلا أن يتوب!! لماذا؟ لأنه لا يؤمن بقول الله : {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}؛ بالله عليكم! الذي يَعرف أنّ الزنى حرام وفاحشة ويُسخط الله، هل يفتخر أمام الناس؟! أمام الملايين أو فئات الألوف من الناس؟! ... لا يَفعل هذا مؤمن أبدا! ...".
قلتُ: في قوله: " لا يغفر الله له!" جرأة عظيمة على الله! أولم يقرأ ما رواه جندب أن رسول الله  حدَّث » أن رجلا قال: والله! لا يغفر الله لفلان! وإنّ الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتَأَلَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرتُ لفلان وأَحبطتُ عملك « أو كما قال، رواه مسلم، قال ابن أبي زمنين في » أصول السنة « ص (257): " ومَن مات مِن المؤمنين مُصِرًّا على ذنبه فهو في مشيئته وخياره، وليس لأحدٍ أن يَتسَوَّر على الله في علم غَيْبه وبجحود قضائه؛ فيقول: أَبَى ربُّك أن يَغْفِر للمُصرِّين، كما أَبَى أن يُعَذِّب التائبين! {مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}!" اهـ.
كنتُ أتمنى أن يكون هذا الكلام سبق لسان قد تاب منه صاحبه، ولزم بيته واشتغل بنفسه فعلّمها ما ينفعها، إلا أني وجدتُه مدوَّناً في كتاب له بعنوان الشريط نفسه! بل وأصرَّ عليه في شريط آخر بعد هذا عنوانه: » الشباب: أسئلة ومشكلات « بتاريخ: (21/5/1411هـ) فالله المستعان.
هذا، وقد كنتُ ـ من زمن بعيد ـ ألاحظ على أتباع هؤلاء الاشتراك في التكفير بكبيرة الربا لشبهات تَوهَّموها قرائن دالة على استحلالها! فعرفتُ أنه ليس ثَمَّ دخان بلا نار! ثم رأيتُ ناصر العمر يلمِّح له في كتابه » التوحيد أوّلاً « ص (66ـ67) تحت عنوان: معاصٍ أم كفر؟ وصرّح به سفر الحوالي في ص (138) من » وعد كيسنجر « فقال:
" ... واستبحنا الربا!! "، ثم أخذ هذا المذهبُ يُربي الريش حتى كان منه ما ذكرته آنفا!
وشبيه بهذا قول سفر الحوالي أيضا في نهاية الوجه الأول وبداية الثاني من شريط » دروس الطحاوية « (2/272): " .. هذا المترو بوليتان عبارة عن فندق في دولة خليجية: دبي .. فيها هذا الفندق، بكل صراحة يقول: إنَّ فيه مشروبات؛ اللي يسمونها المشروبات الروحية، يعني أنه يقدِّم الخمور بالإضافة إلى ما فيه من الشليهات أو ـ أيضا ـ الفيديوات إلى آخره، فهذه دعوة صريحة إلى الخمر، ومملوءة الدعوة ـ أيضا ـ مرفق بذلك: الصور اللي تثبت أنهم ـ والعياذ بالله ـ رقص مختلط وتعرِّي مع شرب للخمر، نعوذ بالله من هذا الكفر؛ لأنَّ استحلال ما حرَّم الله تبارك وتعالى هو بلا ريب كفر صريح !!!".
قلت: تأمل! فقد قدَّم صورة مجاهرات بالمعاصي، وسمى الدعاية لها استحلالا، ثم رتّب على ذلك الحكمَ بالتكفير الذي لم يترك لنا مجالا لتأويله بـ ( كفر دون كفر ) حين قال: " كفر صريح "، وهذا التخبّط الذي عند القوم في مسألة الاستحلال هو الذي جعلهم يرتعون في مذهب الخوارج؛ وإلا فما الفرق بين هذه المعاصي وغيرها؟! وهل يُمتنَع أن ثمّ عاصيا في الدنيا لم يَدْعُ صاحبا له إلى مشاركته في إثمه؟! وإنه ليؤسفنا أن يكون هذا هو الشرح للعقيدة الطحاوية!
وقد سُئل الشيخ الألباني عن كتاب: (( ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي )) لسفر الحوالي، وفيه التكفير ببعض الكبائر! فقال:
" كان مني ـ أنا ـ رأيٌ، صدر مني يوماً ما، منذ نحو من ثلاثين سنة حينما كنت في الجامعة (يقصد الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية)، وسُئلتُ في مجلس حافلٍ عن رأيي في جماعة التبليغ، فقلتُ يومئذ: صوفية عصرية، فالآن خطر في بالي أن أقول بالنسبة لهؤلاء الجماعة الذين خرجوا في العصر الحاضر وخالفوا السلف، أقول هنا تجاوباً مع كلمة الحافظ الذهبي: خالفوا السلف في كثير من مناهجمهم، بدا لي أن أسمِّيهم: خارجية عصرية، فهذا يشبه الخروج الآن فيما ـ يعني ـ نقرأ من كلامهم؛ لأنهم ـ في الواقع ـ كلامهم ينحو منحى الخوارج في تكفير مرتكب الكبائر، لكنهم ـ ولعل هذا ما أدري؟ أن أقول: غفلة منهم أو مكر منهم!! وهذا أقوله أيضا من باب {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَن لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ـ ما أدري لا يصرّحون بأنّ كل كبيرة هي مكفِّرة! لكنهم يُدندنون حول بعض الكبائر ويسكتون أو يمرّون على الكبائر الأخرى! ولذلك فأنا لا أرى أن نُطلق القول ونقول فيهم: إنهم خوارج إلا من بعض الجوانب، وهذا من العدل الذي أُمرنا
به ... ".
ثم أبدى الشيخُ استغرابَه من بعض ما في حواشي الكتاب؛ مثل رَمْي مَن لا يُكَفِّر تاركَ الصلاة بالإرجاء!! واستغرب أن يكون هذا من سفر الحوالي؛ معلِّلا إيّاه بقوله: " لأن سفرا ـ أقلّ ما أقول ـ يُظهر الإجلال للألباني! ... ".
من شريط (( السرورية خارجية عصرية )) نهاية الوجه الأول، تسجيلات القدس بالأردن.
فهؤلاء أربعة من أبناء الجزيرة السلفية صاروا ضحايا فكر محمد قطب؛ انحرفوا في شيء من عقيدتهم، بل في أصل العقيدة ـ كما سبق ـ فانحرفت دعوتهم، كما ستقرؤون ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. ثم كيف رضي هؤلاء لأنفسهم التتلمذ على يدي رجل عَزَّ عليه التجرّد من غزو لباس الفرنجة إلى يوم الناس هذا، فأنَّى له التجرّد من نظامهم؟! ثمّ هم أعلم منه بشرع الله؟! والأمر لله.
هذا وقد وجدتُ في كلام أحد متبوعي هؤلاء الشباب المذكورين التكفيرَ الصريح بكبيرة اللواط؛ فقد قال محمد سرور زين العابدين في كتابه (( منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله )) (1/158): " فليس مِن المستغرَب أن تكون مشكلة إتيان الذكران مِن العالمين أهمَّ قضية في دعوة قوم لوط عليه السلام؛ لأن قومه لو استجابوا له في دعوته إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به لما كان لاستجابتهم له أيُّ معنى إذا لم يُقلِعوا عن عاداتهم الخبيثة التي اجتمعوا عليها، ولم يَتستَّروا في فعلها!!!".
قلت: فهل بعد هذا التصريح أدنى شكّ في التزامه مذهبَ الخوارج؟! ثم لابدّ أن يُلاحَظ تقييدُ المسألة عنده بالتستّر من عدمه، وإدارته الحكمَ بالتكفير عليه ليُربَط بكلام سلمان العودة السابق في تكفيره المجاهر بالفسق؛ فقد بلغني من أكثر من مصدر أن هذا الأخير كان ـ وهو صغير ـ كثير التردّد على محمد سرور! وقد قال عمرو بن قيس الملائي: " إذا رأيتَ الشَابَّ أوَّلَ ما يَنشأُ مع أهل السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيتَه مع أهل البدع فايْئَسْ منه؛ فإنّ الشّابَّ على أَوّل نُشُوئه "، رواه ابن بطة في (( الإبانة )) (44) وهو صحيح.
بل لم يكتفِ محمد سرور بهذا حتى بيّن ـ بلا مواراة ـ أنه قال هذا من أجل إسقاط منهج السلف في ادِّعائهم أن الشرك هو أخطر ما عُصِيَ اللهُ به! فقد قال في ص (159) وهو يتحدّث دائماً عن اللواط: " ثمة أمر لابدّ من التنويه إليه، وهو أن كلّ نبيّ بعثه اللهُ لهداية قومه وإصلاح ما فسد من أخلاقهم وعاداتهم، وهذا يقتضي أن يتصدَّى النبيّ لعلاج ومواجهة أخطر المشكلات مهما كلّفه ذلك من تضحيات!! وهذا يخالف سلوك بعض الدعاة في عصرنا؛ الذين يعالجون قضايا عفا عليها الزمن ...!!!".
قلتُ: فهذا يدلّ على أنه يرى كبيرةَ اللواط أخطر من الشرك بالله!! فهل وصل الخوارج الأوّلون والآخِرون إلى هذا الضلال قبله؟! وقد أحسن الردّ عليه فضيلة الشيخ صالح الفوزان في شريط (( أهمية التوحيد )) .
وأعود إلى قضية الاستحلال هذه لأنقل كلام الشيخ الألباني من كتابه » العقيدة الطحاوية: شرح وتعليق « ص (40ـ41) بعد ردّه على المتخبِّطين في التكفير بالاستحلال، فقال: " وقد نبتت نابتةٌ جديدة اتَّبَعوا هؤلاء ـ أي الخوارج والمعتزلة ـ في تكفيرهم جماهير المسلمين رؤوساً ومرؤوسين، اجتمعتُ بطوائف منهم ...، ولهم شبهات كشبهات الخوارج؛ مثل النصوص التي فيها ( مَن فعل كذا فقد كفر )، وقد ساق الشارح ـ رحمه الله تعالى ـ طائفة منها هنا، ونقل عن أهل السنة ـ القائلين بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ـ أن الذنب أيّ ذنب كان؛ هو كفر عملي لا اعتقادي، وأن الكفر عندهم على مراتب: كفر دون كفر؛ كالإيمان عندهم، ثم ضرب على ذلك مثالا هاما طالما غفلَتْ عن فهمه النابتةُ المشار إليها، فقال ـ رحمه الله تعالى ـ ص (363): " وهنا أمر ينبغي أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملّة، وقد يكون معصية: كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كفرا: إما مجازيا وإما كفرا أصغر، على القولين المذكورين؛ وذلك بحسب حال الحاكم ...".
قلت: للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ تفصيل طيِّب لمسألة الاستحلال في شريطين من شرحه لـ » كتاب التوحيد « للمجدِّد محمد بن عبد الوهاب في " باب طاعة العلماء والأمراء " من » تسجيلات طيبة « بالمدينة الطيّبة، فاطلبها.
وأقول أخيراً: إن بداية افتتان هؤلاء الشباب بهذه الأفكار، كان سببه وفادتها عليهم من قِبَل ( الإخوان المسلمين ) بعد أن أثاروا زوابع القلاقل في أمصارهم، سواء أكانت هذه الإخوانيةُ مصريةً قطبيةً تكفيريةً، أم كانت سوريةً صوفيةً!! فلما شُرِّد هؤلاء وضُرب عليهم جميعاً بيد من حديد، فرّوا ولجأوا إلى البلاد التي يُكِنّون لها العداء الأكبر؛ ألا وهي الدولة الوهابية ـ كما يُسمّونها! ـ واستغلوا في ذلك كون هذه الدولة هي الوحيدة في العالم الإسلامي التي تدعم قضايا المسلمين رسميا، كما استغلوا حسن ظنّ أهلها بهم ومحبتهم للمسلمين، وبدلاً من أن يأخذوا التوحيد الفطري من عجائز نجد، فضلاً عن أن يتعلّموه على أيدي علمائها، وبدلاً من أن يحمدوا الله الذي آواهم ثم يشكروا لصاحب الدار إكرامه لهم، جعلوا ينشرون أفكارهم المنحرفة بألسنة سحّارة، وبسطوا نفوذهم حتى تصدَّروا المجالس وتسلَّموا الإدارات بشهادات غرّارة، فما زالوا بأبناء جزيرة التوحيد حتى رَبَّوا منهم أشكالا غريبة! منهم أولئك الذين بيَّنا حيرتهم العقدية آنفا في أصل التوحيد! فماذا بعد العقيدة يا قوم
 ==محمد قطب إبراهيم حسين شاذلي، كاتب إسلامي مصري له عدة مؤلفات وهو شقيق سيد قطب، يقيم قبل ==. يعتبر الأستاذ محمد قطب علامة فكرية وحركية بارزة بالنسبة للحركة الإسلامية المعاصرة فهو صاحب مؤلفات هامة تؤسس للفكر الإسلامي المعاصر من منطلق معرفي إسلامي مخالف لنظرية المعرفة الغربية، وهو يربط بين الفكر والواقع عبر العديد من مؤلفاته التي حاولت تفسير الواقع أيضاً من منظور إسلامي.
محتويات [أخف]
14 وصلات خارجية
رؤيته[عدل]
قام محمد قطب بتأسيس مدرسة إسلامية ذات طابع حركي = عبر إشرافه على العديد من الرسائل الجامعية. ينبه محمد قطب في كتبه إلى خطر الصدام مع الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي قبل القدرة عليه، وقبل أن يفهم الناس ـ المحكومون بهذه الأنظمة ـ معني كلمة التوحيد وضرورة الحكم بما أنزل الله، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين). واستطرد محمد قطب قائلاً: إن قيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقد إلى الوعي والخبرة التي تمكنها من إدراك خطر التورط في مواجهة مع النظام السياسي. يرى محمد قطب أن موقف الغرب من الإسلام هو موقف صليبي واضح، وما يقول عنه الغرب: "إنه تسامح مع الإسلام"، إنما هو في الحقيقة مجرد شعارات فارغة. وتوقع أن تكون أوضاع الأقليات الإسلامية في الغرب ـ وأمريكا خاصة ـ في منتهى الصعوبة والخطورة ونبه المسلمين هناك للاستعداد للأخطر والأسوء.
النشأة[عدل]
الأسرة[عدل]
هو محمد قطب إبراهيم، ولد في 26 إبريل 1919 في بلدة موشا ـ من محافظة أسيوط بمصر وكان والده قطب إبراهيم من المزارعين في تلك الناحية، لم يتجاوز في دراسته المرحلة لكنه لم يقف عند حدود التحصيل المدرسي إذ كان محباً للمطالعة مقبلاً عليها فهو يعتبر من مثقفي قريته المهتمين بالأمور العامة، وبذلك كان موضع الاحترام والتقدير من أهلها إذ يعدونه من أصحاب الرأي فيهم، بالإضافة إلى مكانة أسرته بينهم.
أما والدته فهي السيدة فاطمة عثمان تنتمي إلى أسرة عربية محبة للعلم، وقد تلقى إخوتها دراستهم في الأزهر وبرز منهم أحمد حسين الموشي الذي امتاز بمواهبه الأدبية والقلمية إذ كان شاعراً أديباً وقد اشتغل بالصحافة والسياسة فأحرز شهرة في كلا الميدانين. من هنا كان تأثر السيدة فاطمة فنشأت محبة للعلم والثقافة وقررت أن تبعث بولديها سيد ومحمد إلى القاهرة ليتلقيا تعليمهما هناك. ففي القاهرة بدأ الفتى محمد دراسته من أولها فأتم المرحلتين الابتدائية والثانوية ثم التحق بجامعة القاهرة حيث درس اللغة الإنجليزية وآدابها، وكان تخرجه فيها عام 1940م ومن ثم تابع في معهد التربية العالي للمعلمين فحصل على دبلومها في التربية وعلم النفس.
رعاية سيد[عدل]
يحدثنا عن أعمق الرجال تأثيراً في توجيهه وتفكيره فيؤكد أن أعظم الناس تأثيراً في حياته كلها هو أخوه سيد الذي كان يتقدمه بأكثر من إثنتي عشر عاماً في الميلاد، فهو الذي أشرف على تعليمه وتوجيهه وتثقيفه وكان بالنسبة إليه بمثابة الوالد والأخ والصديق. يقول محمد قطب:
«لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات ولذلك امتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجاً كبيراً بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب.»
ويقول الأستاذ: لقد كانت صلة سيد بي من حيث التربية يتمثل فيها العطف والحسم في آن واحد فلا هو اللين المفسد ولا الشديد المنفر كما أنه كان يشجعني على القراءة في مختلف المجالات وكان هو نفسه نهماً إلى القراءة فساعدني هذا التوجيه على حب المطالعة منذ عهد الطفولة.
خاله الأديب[عدل]
عن تأثير خاله يحدثنا الأستاذ قائلاً: كان لوجودنا مع خالي ذي النشاط السياسي والأدبي والصحافي أثره الملموس في توجيهنا - أنا وأخي - نحو الأدب والشعر وتغذية ميلنا إلى القراءة والإطلاع، وإذ كان خالي على صلة وثيقة بالعقاد فقد اجتذبنا إلى التأثر به فكرياً وأدبياً إلا أن تأثيره في أخي كان أكبر لطول مصاحبته ومعايشته، ولاشتراكهما في النشاط الأدبي والنقد الأدبي بخاصة.
أما أثره بالنسبة إلي فقد بدأ منذ بدأ الاتصال بكتبه وكتب المازني وطه حسين وأنا في التاسعة من سني إذ كنت أجدها بجانبي في البيت فأحاول أن أفهم منها ما يتيحه لي وعيي وتجربتي ويمكنني القول بأن أثر العقاد بي فكرياً إنما يتمثل في الصبر على معالجة الأفكار بشيء من العمق وعدم تناولها من سطوحها، وأسلوبياً يتمثل في التركيز على الدقة في التعبير وطبيعي أن شيئاً من ذلك لم يظهر إلا بعد أن بدأت أمارس الكتابة بالفعل، وفيما عدا هؤلاء الثلاثة لا أحسب أحداً ترك في نفسي أو فكري طابعاً ملحوظاً اللهم إلا بعض اللمسات الهامشية التي لا تعد في المؤثرات الهامة.
مأساة آل قطب[عدل]
قال: بدأت طلائع تلك الأحداث منذ عودة أخيه سيد من أمريكا بعد قضائه فيها العامين 1949م - 1950 فقد شرع قلمه في معركة صحفية سياسية هائلة كانت تعرضه باستمرار لخطر الاعتقال على ذمة التحقيق.
وكانت هذه التجربة جديدة في حياة الأسرة من ناحيتين أولاهما مواجهة الباطل وجهاً لوجه في ميدان الواقع بعد أن اقتصر صراعهم إياه على ميدان الفكر وحده والثانية هي تعرض حرية سيد للمصادرة بين الحين والآخر وهو رب الأسرة التي يستغرقها الشعور بأنه معتمدها الوحيد في سائر شئونها الحيوية. على الرغم من أن التجربة قد مرت دون أخطار حقيقية فقد كانت أشبه بالإرهاص لما بعدها.
لقد انفجرت الثورة العسكرية بعد ذلك وقامت بينها وبين سيد علاقة مرضية أول الأمر إلا أن مسيرتها سرعان ما شرعت في الاضطراب وجعلت تتخذ وجهة أخرى مما أنذر بوشك تصادم بينها وبين أصحاب الاتجاه الإسلامي. وهكذا استمر الخطر يقترب ويتفاقم حتى كانت مسرحية الإسكندرية الشهيرة في أكتوبر عام 1954م التي أعقبت اعتقال سيد والموكب الأول من شهداء الدعوة ثم جاء دور أخيه محمد بعد أيام وأتيح لهما أن يشهدا من فنون التعذيب ما لا يخطر على بال إنسان. وقد ألحق كل من الأخوين بمكان من السجن الحربي بعيد عن الآخر وحيل بينهما حتى لا يعرف أحدهما عن الآخر شيئاً. ثم أفرج عن محمد بعد فترة غير طويلة وبقي سيد في قبضة الجلادين طوال عشر سنوات.
يقول محمد قطب: كانت فتنة السجن الحربي بالغة الأثر في نفسي إذ كانت أول تجربة من نوعها وكانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييراً كاملاً من بعض الجوانب على الأقل. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة أعاني حيرة عميقة صورتها في الأبيات التالية من قصيدة جعلت عنوانها ضلال:
ثم مرت بي دورات الليالي وانطوى السحر الذي غشى خيالي فإذا بالحق في الكون بدا لي وإذا الناس جميعاً في ضلال
ما الذي يرجون في دنيا الزوال أنا والوهم الذي يشغل بالي في غد نذهب في طيات هاتيك الرمال ثم يمضي الكون في التيه المعمى لا يبالي
كانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفس محمد قطب استغرقت من حياته عدة سنوات غير أن الدقائق الأولى منذ دخوله ذلك السجن والهول الذي يلقاه نزيله بدل ذلك كل التبديل لقد أحس إذ ذاك أنه موجود وأن له وجوداً حقيقياً وأن الذي في نفسه حقيقة لا وهم. وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله والعمل من أجل دعوته وأن السائر في هذا الطريق ليس ضائعاً بل هو المهتدي وأنه حين يذهب في طيات هاتيك الرمال باللحظة المقدورة له لا يذهب بدداً وإنما يذهب إلى الله وهناك يجد وجوده كله. لقد كانت هاتيك اللحظات مفترق طريق وانتهت الحيرة الضالة ووجد نفسه على الجادة.
وخرج يوم أفرج عنه ليحمل عبء الأسرة التي كانت من مسئوليات أخيه وحده كما عودهم ومضى يخوض تجارب الحياة العملية خلال أكداس من العسر على مدى عشر السنوات، حتى أفرج عن سيد وتلقى ذلك الإفراج بكثير من القلق، إذ كان يحس في قرارة نفسه أنهم لم يخلوا سبيله إلا وهم يدبرون له أمراً أشد سوءاً من السجن، وقد كان ما توقعه فما إن انقضى على مغادرته السجن الحربي عام واحد حتى اضطربت الأمور كرة أخرى، وتيقنوا أن المؤامرة تحدق بهم من كل جانب فلما شرعوا في اعتقالات عام 1965م أعيد سيد وأعيد محمد كذلك إلى السجن.
وكان نصيبه أن يقضي فيه ست سنوات متصلة من 30 يوليو إلى 17 أكتوبر عام 1971م. وكان نصيب أخيه الإعدام بعد محاكمة صورية مع ثلة من كرام الشهداء وقتل في هذه المجزرة واحد من أبناء أخته أثناء التعذيب دون إعلان واعتقلت شقيقاتهم الثلاث ومنهن الكبرى أم ذلك الشهيد وعذبت الشقيقة الصغرى ثم حكم عليها بالسجن عشر سنوات وتعرضوا جميعاً لحملة ضارية من التنكيل الذي لا يخطر على بال إنسان. وكان ذلك كله جزءاً من الحرب المسلطة على الإسلام يقودها نيابة عن الصليبية العالمية والصهيونية الدولية مخلوقون يحملون أسماء مسلمين. لكن هذه السنوات الست بكل أحداثها ووقائعها هي في النهاية زاد على الطريق.
مساومات لم تنجح[عدل]
شاع أن طغمة المتسلطين قد حاولت احتواء سيد قطب بإسناد وزارة المعارف إليه، فكان رفضه إياها من الأسباب المباشرة لتلك المحنة وهي حقيقة واحدة من الحقائق الكثيرة المتعلقة بذلك الصراع العنيف الطويل بين العساكر والإسلاميين، إلا أنها لم تكن السبب الأساسي في المحنة، وإنما كان السبب هو اختلاف الطريق، ذلك الاختلاف الذي ظن العساكر أنهم يستطيعون تجاوزه فيما يتعلق بسيد قطب، فلما تبين لهم إصراره على الحق وصلابته في دين الله واستحالة احتوائه أتموا خطتهم المقدرة وكان ما كان. بل إن محاولة الاحتواء قد استمرت حتى آخر لحظة فبعد إصدار حكم الإعدام سنة 1966م عرضوا عليه أن يعتذر للرئيس المصري في وقتها جمال عبد الناصر ويعلن أن الإخوان كانوا مخطئين ومقابل ذلك لن يلغي أحكام الإعدام عن كل المحكومين فحسب بل سيفرج عن المعتقلين جميعاً وبذلك تنتهي القضية كلها. فلما رفض سيد العرض مضوا إلى آخر الشوط بتنفيذ الإعدام.
في أفكار الشهيد[عدل]
نشر في بعض الصحف الإسلامية عن أفكار سيد قطب وما نسب إليه من القول بوحدة الوجود في بعض تفسيره، فقد ورد في كتابه في ظلال القرآن عبارات يمكن لمن يفصلها عن القرائن أن يوجه إليها مثل هذا الظن، غير أن الباحث المدقق فضلاً عن الباحث المنصف إذ وجد في الظلال عبارات متواترة تبين بصورة قاطعة أن المؤلف يقول إن الله متفرد بكل صفاته وأن مخلوقاته عارية عن هذه الصفات فلا بد لهذا الباحث أن يؤول تلك العبارات الموهمة بما يتناسب مع ما تقطع به العبارات الأخرى الكثيرة المتواترة، من إفراد الله وحده بالألوهية والربوبية، ونفي أي اشتراك بينه وبين خلقه في شيء من صفاته التي تفرد بها.
لنأخذ مثلاً على ذلك قول الحواريين لعيسى :[هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء] فلو إنساناً أخذ هذه العبارة وحدها فنسب إليها عقيدة الحواريين وقال إنهم يشكون في قدرة الله. فهل يكون فهمه سليماً. كلا بالطبع والداعي إلى تنزيههم عن ذلك هو القطع بأنهم كانوا مؤمنين، والمؤمن منزه عن الارتياب في قدرة الله، ومن أجل ذلك أجمع المفسرون على تأويل هذه العبارة بما يصرفها عن شبهة الشك في قدرة الله.
مع حفظ المقامات لأصحابها نقول: إذا ثبت في أكثر من مائة موضع في الظلال اعتقاد المؤلف الجازم بأن الله متفرد في صفاته لا يشاركه أحد في شيء منها، فقد وجب أن تحمل تلك العبارات على أنها محاولة من المؤلف للتعبير عن استشعاره لعظمة الله، وأن كل المخلوقات إنما تستمد وجودها من وجوده. محمد قطب: وأنا لا أقول هذا دفاعاً عن أخي فهو بين يدي مولاه، وإنما أقوله لأني عايشته السنين الطوال وأعلم بما لا يدع مجالاً للشك أنه لم يقع في عقيدته شيء من الزيغ الذي توهمه تلك العبارات.
في رحاب الأدب[عدل]
مثل الأستاذ محمد قطب لا يستكمل الحديث عن خصائصه إذا أغفل منها جانب الأدب، الذي يمكن القول بأنه مفتاح شخصيته، فهو أديب في مشاعره، وأديب في تفكيره، وأديب في فلسفته، وأديب في طريقة تناوله لكل ما ينشئ. هذا إلى كونه شديد التركيز على أهمية الأدب في مخاطبة القراء والمستمعين، حتى لتشعر وهو يطالعك بأفكاره في هذه الشئون أنه يعتبر الكلمة الجميلة والعبارة البليغة والصورة الموحية هي الوسائل المفضلة التي عن طريقها يتوصل الداعية الإسلامي إلى التأثير المنشود في العقول والقلوب.
وقد سأله سائل يقول: "في نطاق الأدب يلاحظ أنكم كثيراً ما تركزون على ضرورة الالتزام بالتعبير غير المباشر. ومعلوم أن هذا ألصق بفن الشعر منه بالأدب العام، لأن الأدب هو كل تعبير جميل يؤدي إلى المراد بالأسلوب المناسب، فلكل من المباشر وغير المباشر مجاله الذي لا يغني فيه سواه.. فما رأيكم في هذا؟"
فأجاب محمد قطب بقوله "غير خاف أن الأدب ألوان مختلفة، ولكل لون خصائصه المناسبة.. وحين أتحدث عن التعبير غير المباشر فلا يمكن أن يتطرف ذهني إلى المقالة والبحث والدراسة والموعظة، التي تلقي على الناس مباشرة بقصد التوجيه والتذكير، إنما أقصد بذلك الشعر والقصة ـ بأنواعها والمسرحية.. ففي هذه الفنون يحسن دائماً أن يتوارى المؤلف، وأن يتوارى القصد المباشر، وأن يصل المؤلف إلى هدفه من خلال عرضه مشاهد حية، شعورية وفكرية، وحسية، يتصرف الناس فها تصرفاتهم التي تتناسب مع مواقفهم المختلفة ومن خلال براعة العرض يتبين الموقف الصحيح، أو الذي ينبغي أن يتجه إليه الناس، وهي طريقة أكثر تأثيراً في هذه الفنون من التعبير المباشر الذي يفسد على القارئ أو المشاهد متعة المشاركة مع أشخاص القصة أو المسرحية، ومتعة استخلاص القصة بنفسه لنفسه. والملحوظ أن الشعر والقصة والمسرحية إذا لجأت إلى التعبير المباشر تستوي مع الموعظة بكون تأثيرها يكون عابراً مؤقتاً ثم لا يلبث أن يخفت ويضيع.. على حين تظل مع التعبير غير المباشر مؤهلة للخلود."
العلوم الإنسانية في ضوء الإسلام[عدل]
في بعض محاضراتكم عرضتم لموضوع علم النفس وعلم الاجتماع، ودعوتم إلى تكوين كل منهما على أسس الإسلام، بحيث يكون هناك علم نفس إسلامي، وعلم اجتماع إسلامي. فلو تفضلتم بشيء من التفصيل في هذا الموضوع.
العلوم الإنسانية جميعاً، وهي تشمل فيما تشمل على علوم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، إنما سميت في أوروبة كذلك لا بمعنى أنها تعالج أموراً إنسانية، كما يتوهم بعضنا حين يستخدم هذا الوصف، بل بمعنى أن المرجع فيها هو الإنسان، وليس الله !. ولإيضاح ذلك نذكر بأن هذه العلوم نبتت في أوروبة ضمن جو معاد للدين، بسبب الظروف المحلية القائمة هناك منذ عصر النهضة، ونحن نقلناها كما هي، ودرسناها في مدارسنا وجامعاتنا بنفس الروح المجافي للدين والمعادي له، سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر.. وقد آن لنا أن نتخلص من وطأة الغزو الفكري على عقولنا وأرواحنا، فنتناول هذه العلوم من منطلقنا الإسلامي، الذي لم يعرف العداوة بين الدين والعلم، ولا بين الدين والحياة.
وحين نصنع ذلك فسيتضح لنا أن في هذه العلوم ـ كما هي في صورتها الأوربية ـ اختلالات مبدئية تترتب عليها نتائج خاطئة، وإن اشتملت على حقائق جزئية كثيرة، ولكنها حقائق يفسدها اختلال القاعدة التي تقوم عليها، ويمكن الإفادة منها بتصحيح تلك القاعدة.
وإليك مثالاً واضحاً: منذ دارون سيطرت فكرة حيوانية الإنسان وماديته على الفكر الأوروبي في مجال علم النفس والاجتماع والتربية والاقتصاد وما إليها.. وحيوانية الإنسان ليست فكرة علمية صحيحة، والعلم ذاته يتجه الآن تدريجياً نحو تأكيد إنسانية الإنسان، بمعنى تفرده بخصائص رئيسة لا تتوافر للحيوان.. فكل النتائج المترتبة على تلك النظرة الخاطئة هي خاطئة كذلك، ومن شأنها أن تسقط كل القيم الخلقية، أو لا تعتبرها أسساً ثابتة في الكيان البشري.
وحين نعود إلى مقومات وجودنا الحقيقية، وهي المقومات الإسلامية، فستكون نظرتنا إلى الإنسان مختلفة من جذورها، ومن ثم تصل أبحاثنا العلمية إلى نتائج نهائية مختلفة تماماً عما تصل إليه (العلوم الإنسانية) في مفهوم الغرب.
أعني حين ننطلق من أن (الإنسان إنسان لا حيوان) وأن الله خلقه ليكون خليفة في الأرض، أي مسيطراً ومهيمناً عليها ومعمراً لها، ومنحه الأدوات والمواهب التي تعينه على عمارتها، من عقل وصلاحية للتعليم، ودوافع وقدرة على ضبط الدوافع وتنظيمها.. وفي الوقت ذاته شق له الطريقين وألهمه معرفتهما ومنحه القدرة على اختيار أحدهما [ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها] سورة الشمس ـ فصار لأعماله قيمة خلقية مصاحبة لها، نابعة من الفطرة نفسها لا مفروضة عليها من الخارج. ثم إن الله كلفه أن يعبده وحده لا شريك له والعبادة شاملة لكل أعمال الإنسان فصارت مهمته النهائية هي عمران الأرض بمقتضى المنهج الرباني، وهي موضع ابتلائه.. أيستقيم على النهج فيفلح في الدنيا والآخرة، أم يزيغ مدفوعاً بشهواته، فيستمتع في دنياه متاعاً مشقياً مدمراً ويخسر في نفس الوقت آخرته!
حين نتحرك من هذا المنطلق فلا شك أن علومنا النفسية والاجتماعية وما إليها ستختلف اختلافاً جوهرياً في المبدأ والنهاية، وإن اشتركت مع العلوم التي نتعاطاها اليوم في بعض الحقائق الجزئية التي تثبتها التجربة والمشاهدة ـ كما أسلفنا ـ وهذا ما أقصد إليه بكلمة (علم النفس) و(علم اجتماع) إسلامي.
ولقد بذلت بعض الجهد في هذه السبيل عن طريق كتبي (الإنسان بين المادية والإسلام) و(دراسات في النفس الإنسانية) و(منهج التربية الإسلامية) في جزئية الأول في النظرية، والثاني في التطبيق.. غير أن المجال لا يزال واسعاً جداً، ولا يزال في حاجة إلى جهود مكثفة حتى نصل إلى علوم متكاملة في هذا الميدان..
الشرق الإسلامي هو الميدان الأول[عدل]
خبرة الأستاذ الطويلة والعميقة في ميدان الدعوة تدفعنا لاستطلاع رأيه في مسيرتها الراهنة، وبخاصة في أوساط مفكري الغرب.. وما يقترحه في هذا الشأن.
ومن منطلق هذه الخبرة الحية يرى الأستاذ أن في مسيرة الدعوة هذه الأيام إيجابيات وسلبيات، فهي تتطلب مراجعة موضوعية واعية تتناول أحداث نصف القرن الأخير، لتأكيد الإيجابيات ومحاولة التخلص من السلبيات وبالنسبة إلى إقبال بعض مفكري الغرب على الإسلام يرى كذلك أن من حقنا أن نبتهج ونرحب بكل مفكر غربي هداه تفكيره السليم إلى الحقيقة، ولكن هذا لا ينسينا أن ميداننا الأصيل في الدعوة ينبغي أن يظل في الشرق في داخل العالم الإسلامي، لرد الناس إلى حقيقة الإسلام التي أصبحت غريبة بينهم، تصديقاً للخبر النبوي القائل: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء.. الذين يصلحون ما أفسد الناس" ولئن ألجأ الضياع بضعة أفراد وعشرات أو مئات، أو حتى الألوف من الغربيين إلى البحث عن طريق الخلاص عن طريق الخلاص حتى يقفزوا فوق الحاجز الصليبي، الذي حال في الماضي بين أوروبة والإسلام، ثم لا يكتفوا باعتناقه حتى يصبحوا من دعاته، لقد كانت الفرص مهيأة لأن يكونوا ملايين بدلاً من الألوف لولا العقبات الأخرى، المتمثلة في الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون بعيدين عن حقيقة الإسلام.. ولو كان الإسلام في صورته الحقيقية ماثلاً في واقع حي لا تنتقل ملايين الأوروبيين اليوم إلى الإسلام. لذلك يقرر الأستاذ ضرورة التركيز على الدعوة في داخل العالم الإسلامي ذاته، وليس معنى ذلك ألا نلتفت إلى الغرب، ولكن معناه فقط أن حصيلتنا فيه ستظل ضئيلة حتى يتغير هذا الواقع الذي يلابس المسلمين.
الإسلام هو المنقذ الوحيد[عدل]
عن المحنة التي يمر شباب الدعوة وشيوخها في معظم ديار المسلمين، والمصير الذي يتوقعه لها يقول الشيخ: إن المحنة القائمة في محيط الدعوة تبعث على الأسى الكثير، ولكن لا بد من دراسة أسبابها دراسة موضوعية فبعض هذه الأسباب قد يكون عائداً إلينا نحن، كما أن بقية الأسباب من صنع أعدائنا ولا شك. فمن جانبنا ينبغي أن نتساءل أترانا سلكنا المنهج الصحيح؟ وما المنهج الصحيح ؟.. أهو الاستكثار من الجماهير ؟ أم هو البدء بإعداد مجموعة قليلة العدد نسبياً، تأخذ حظاً كاملاً من التربية التي أنشأ عليها رسول الله، صلوات وسلامه عليه وآله، أصحابه.. ثم تمضي القاعدة في الاتساع خطوة فخطوة ولكن على تمكن..
ويتابع تساؤلاته: وهل بدأنا التحرك الصحيح الذي هو تجلية العقيدة، وتقويم ما انحرف من مفهوماتها، مع التربية على مقتضى هذه العقيدة، تربية تحول مقتضياتها إلى سلوك واقعي ؟ أم هو مجرد دروس تثقيفية في شتى المعارف الإسلامية! وهل الخطو الصحيح هو استعجال الصدام مع الأعداء قبل إعداد القاعدة المناسبة لهذا الصدام، ولاستمراريته في حجمها وصلابتها حتى يؤتي ثماره المرجوة ؟.. أو هو تحاشي الصدام جهد الإمكان حتى تتهيأ القاعدة الواجبة ؟.. وهل وعينا خطط أعدائنا كيلا نفاجأ بها، ولا يستغرقنا الذهول كلما نزلت بنا واحدة من ضرباتهم أو خديعة من خدائعهم، ما بين محاولات الإبادة ومحاولات الاحتواء ؟ وقبل ذلك وبعده هل تجردنا لله حق التجرد، حتى نستأهل أن يمن علينا بالنصر الموعود ؟ أو أن أهواءنا الشخصية هي المسيطرة، فمنها ننطلق وحولها ندور ؟..
أما أعداؤنا فلن يكفوا، وقد علمنا ذلك يقيناً من قوله تعالى [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم][1] ـ [ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا][2]
ويعقب هذه التساؤلات المثيرة بقوله المملوء باليقين : (ولكني على الرغم من كل شيء أشعر دائماً بالتفاؤل العميق بالنسبة إلى مستقبل الدعوة).
ويعلل تفاؤله باستقرائه لسنن الله والتتبع لظواهر مشيئته وقدره، فلو كان في قدر الله أن ينتهي الإسلام من الأرض لكان زوال الخلافة هو الفرصة الملائمة لذلك، وبخاصة أن ذلك هو مقصد الأعداء من تدمير الخلافة، بيد أن هذا الحدث ذاته هو الذي بعث حسن البنا لإنشاء حركته العالمية.. ولو كان في قدر الله أن تموت الحركة الإسلامية لكان التعذيب الوحشي، ومحاولات الإبادة الجماعية في السجون والمعتقلات كافية للقضاء على كل أمل بحياتها، على حين نرى الضد من ذلك، فبعد كل مذبحة ينبثق مدد جديد من الشباب يعتنق الدعوة ويتفانى من أجلها..
ثم إن المحنة الكبرى التي فتنت المسلمين عن دينهم كانت هي أوروبة وبريق حضارتها الخاطف.. ولكن أوروبة اليوم قد تجلى عوارها للجم الغفير من أبنائها، إذ بدأ كثير منهم يذبحون عن طريق الخلاص من أمراض تلك الحضارة المدمرة. وكذلك الأمر بالنسبة لملاحدة الزعماء الذين بذرتهم أوروبة وأمريكة وروسية في العالم الإسلامي، ليحولوا الناس عن الإسلام بالشعارات المضللة أو بالقتل والتشريد، فقد أثبت هؤلاء إخفاقهم الذريع في حل مشكلات شعوبهم، بل زادوا هذه المشكلات سوءاً وتعقيداً، وزاد هوان المسلمين على أيديهم فضاعت فلسطين، ومضى غيرها في طريق الضياع، واليوم تبدأ على أيديهم عملية التفتيت للدول الإسلامية تحقيقاً لأهداف أعدائهم.. ولم تزدهم تلك الأنظمة المستوردة من مصانع أولئك الأعداء إلا إخفاقاً وهواناً، والنتيجة واحدة مشتركة هي اليأس من كل النظم والاتجاهات، والتطلع إلى الإسلام على أنه هو المنقذ الوحيد، وما ذلك إلا توكيد حاسم بأن الحركة الإسلامية هي طريق المستقبل رضي الأعداء وأذيالهم أم أبوا.. ومع ذلك لا أتعجل النتائج.. وأعرف أن ثمة مخاضاً ضخماً لا بد أن تخوضه الأمة الإسلامية وطريقاً طويلاً مشحوناً بالمعاناة والعرق والدماء والدموع، ولكنه قدرها الذي لا مندوحة لها عن سلوكه، ثم تتنزل رحمة الله بالنصر والتمكين، وصدق الله العظيم القائل في كتابه الحكيم: [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً][3]
آثاره المفضلة[عدل]
كان خاتمة الحديث استفسار الأستاذ عن أحب مؤلفاته إليه، فكان جوابه: من المعتاد أن يقول المؤلف أن كتبه كلها أبناؤه، وكلهم عزيز عليه. وأنا أيضاً أقول هذا، ومع ذلك فقد يكون (الإنسان بين المادية والإسلام) وهو باكورة كتبي، أحبها إلي، فضلاً عن كونه الابن البكر فهو يشتمل على الخطوط الرئيسية التي انبعثت منها عدة كتب تالية في مجال التربية وعلم النفس، كما أن كتاب (جاهلية القرن العشرين) له موضع خاص في نفسي كذلك، ولعل السبب أنه يمثل رؤيتي لحقيقة الجاهلية، وأنها ليست محدودة بفترة معينة من الزمن، وإنما هي حالة يمكن أن توجد في أي زمان ومكان، وأن البشرية تعيش اليوم أعتى جاهلية عرفتها.. كذلك كتاب (دراسات قرآنية) فإنه يحكي قصة حياتي مع القرآن منذ الطفولة حتى النضج.. وأخشى أن يستدرجني السؤال إلى أن أوثر كل واحد من كتبي على إخوته، فيضيع معنى السؤال.
أما من حيث الأهمية في تقديري فقد أقدم (الإنسان بين المادية والإسلام) و(منهج التربية الإسلامية) و(التطور والثبات في حياة البشرية) و(جاهلية القرن العشرين) وأخيراً كتاب (المذاهب الفكرية المعاصرة)..
ومع ذلك فقد يكون للقراء رأي آخر..
ذلك هو محمد قطب الذي شرق اسمه مع مؤلفاته الطافحة بالجديد من الفكر الحي النابع من الرؤية الإسلامية، التي خلصت من شوائب التقليد، فكانت إحدى المنارات القليلة التي تبين للقارئ المسلم طريقه الموصل إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة. وهو مقيم حاليا في حي العوالي بمكة المكرمة حرسها الله.[4

أعجبني
تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق